عنف الرصاص لن يوقف غضب الكلمات

جواد وادي
ماذا يملك المثقف العراقي من سلاح غير سلاح الكلمات حين يتصدى لمثالب الأوضاع التي يعيشها هو وأبناء جلدته؟ وهل من الوارد ان تكلف حياة كاتبها هذا المصير المخيف ليتحول الى هدف معلن لكاتم الصوت او لعلعة الرصاص بحقد اسود، لمحو وجود الانسان برمشة عين، تلك هي مصيبة المثقف العراقي الذي بات مادة للقتل والتصفيات إذا ما سولت له نفسه ان يتطاول على ممنوعات فرضتها مجاميع الأوباش من الجهلة والمتخلفين او إذا ما اقترب من المحظور الذي بات من قوانين المنحرفين والفاسدين وعديمي القيم والمبادئ، أولئك الذين رهنوا انفسهم أدوات طيعة ورخيصة لتنفيذ رغبات وخطط من يصدر لهم أوامر القتل وحروب الفتنة من فرسان الإسلام السياسي الخائبين والظلاميين، مع انعدام الرادع القوى والمتابعة القانونية لإيقاف مثل هكذا مصادرات خسيسة لأرواح الناس وارواح الرافضين لصبينتهم وافعالهم العفنة. وينسحب هذا البلاء على كافة المثقفين التنويريين الداعين للخلاص من ربقة الموروث الأسود الذي أحال وجودهم الى جحيم ورصد يومي لما يفكرون ويكتبون ويعلنون، وما زال يجثم على صدور المفكرين وعقولهم، الحد الذي يُقرر مصيرهم بأيدي القتلة والمأجورين.
وهل من المنطق أن يتحول البلد الى ضيعة لمجاميع فاسدة تقرر من له حق الحياة ومن ينبغي ان يكون هدفا سهلا لإراحتهم والتصدي للعقبات التي قد تحول بين ما يريدون وما يفعلون وما يخططون، وبين فرض العدل وتطبيق القوانين لدولة تحترم نفسها وتحرص على الحفاظ على أرواح مواطنيها، حتى وان اختلفوا فكرا وقناعات وتدينا واتخذوا منهجا حياتيا يمارسون حريتهم الفكرية ليتعايشوا مع المختلف بروح المحبة والوئام المجتمعي والتساكن الذي يحتكم على أسس المواطنة الحقيقية، وصولا لخلق حالة من التسامح بكل انواعه لينعم الجميع بالسلام والأمن وانهم يعيشون معا في وطن لا يفرق بين هذا وذاك من حيث الحقوق والواجبات وحفظ الكرامة وحرية التفكير؟
وهذا ما تسعى الية المجتمعات المتحضرة وتعمل على الحفاظ عليه تحت حماية القوانين التي تكون هي الخيمة التي يعيش تحتها الجميع دونما تفريق، اذا ما توفرت العقول الحكيمة والنوازع الوطنية التي تقود بلدا مثل العراق الخارج للتو من محارق وويلات ومغامرات وحروب وكوارث لا حصر لها، ليدخله الآخرون من الجهلة والمنحرفين، في فتن واحتراب وتطاحن بممارسات هجينة وحاقدة، اما ان يكون طائفيا بتوظيف لعين، أو لفرض الوصاية وحالة من التسيّد الأرعن الذي ما افلح يوما حين حاول من قبلهم على تكميم الأفواه ولجم الأصوات الحرة وتسخير كل الأساليب الرعناء لإخراس الصوت الحر الرافض للتدجين وإلغاء الفكر المستنير واسكات الرأي المغاير، ايمانا منهم ان تلك الأساليب المتخلفة والبغيضة هي الوسيلة الوحيدة الكفيلة بضمان بقائها على سدة القرار. ورغم نجاحهم في فرض الوصاية التي يسعون اليها وسطوة الفكر الأحادي وخنق الحريات ولو لحين كما أثبتت الأحداث، فأن جدلية التاريخ كنست كل دناءاتهم وسلوكهم الأرعن، ليعيد التاريخ تصحيح المسار باعتبار الرأي الحر هو الأصلح والأسمى من اجل إعادة بناء الانسان الذي حاول وبتكالب وبلادة رعاع السياسة من مصادرة ارادته الحرة باعتبارها حقا إنسانيا كونيا لا يحق لأيٍ كان الاقتراب منها او مسها باي شكل من الاشكال ومهما كانت الذرائع، موظفين كل أساليب البطش والموت والسلوك البهيمي للوصول الى أهدافهم الرثة، ومما يحز في النفس أن يكون البديل اسوء ممن سبقه من حيث تغيير مناهج الفعل اللاإنساني وتوظيفها بطرق خبيثة وملتوية وصلت حدا من العبث في إدارة البلد مسخّرين وسائل من الشيطنة والتلاعب بقناعات البسطاء، سعيا لتمرير اجنداتهم في مختلف وسائل النفاق والرياء وتسويف الحقائق وتوظيف المقدس بالشكل الذي يخدم مآربهم وسعيهم لنهب البلاد وإبقاء العباد في ذات المياه الآسنة، سعيا لتخريب كل ما تبقى من جمال وخير وأمل في هذا البلد الجريح.
وينبغي ألا نغفل او نتغافل حقيقة أن هذه المجاميع المنفلتة، قيما واخلاقا ووطنية، بكل فصائلها وتكويناتها ومشاربها، هي مجرد فلول من اللصوص والمنافقين والمرائين، استطاعوا في غفلة من الوقت أن يستحوذوا على مقدرات البلد بكل خسة ودناءة وانعدام ضمير، تاركين مصير البلاد والعباد للمجهول دون أن يتحرك في دواخلهم المريضة ذلك النزوع الوطني الذي ينبغي ان يحرص على مقدرات البلاد ويحرك عجلة التطور المتوقفة أصلا منذ كارثة البعث المجرم، وصولا الى الإسلام السياسي وفرسانه الجدد، مجاميع الفاسدين أينما وجدوا وحيثما كانوا، وهنا تكمن الكارثة.
ولا غرو ان هكذا امتيازات استحوذوا عليها بشتى طرق الاحتيال والنصب والحرمنة، لم يكن يحلم بها هؤلاء المنبوذون وعديمو القيم لتحولهم الى كائنات مفترسة تصفي حساباتها مع كل من يقف في طريق عبثها وبشتى الوسائل والأساليب الوحشية.
وهكذا حين برزت أصوات رافضة لهكذا محاولات تجر البلاد الى المجهول وممارسات لا تخضع لأية معايير يقبلها العقل والمنطق، أصوات وظّفت اقلامها للتصدي لهذه الفلول وما تقوم به من محاولات خراب لا يمكن تصورها، توجهت فوهات أسلحة القتلة صوب تلك الأجساد الطاهرة التي تحمل العقول الوطنية النزيهة والنيرة المطالبة بكشف حقائق ما يفعلون وما يعبثون، ظنا منها بانها الوسيلة الوحيد والأنجع لديمومة بقائها وهي تعيث فسادا وتخريبا وقتلا بتجاوزات فضة ووحشية دون ان تحرك الدولة ساكنا إزاء ما يحدث من فواجع.
لا نريد هنا ان نعدد مئات حالات التجاوزات التي مارستها تلك الأذرع الجبانة ضد احرار الكلمة من الرافضين لممارساتهم الخسيسة وصلت الى التصفيات غير المستورة وعلى عينك يا تاجر، امام اعين ومرأى أجهزة امن كان من المفروض أن تحمي الأبرياء، لا ان تتركهم فرائس صيد سهلة للقتلة والمجرمين، بل والأخطر من ذلك أن أصحاب القرار الأمني لم يسعوا لكشف الجناة والمجرمين، ولم يحصل المواطن المنكوب غير التصريحات الجوفاء، دون أن نرى عرض المجرمين على الفضائيات لتشفي غليل عوائلهم ومحبيهم، واحتراما للدماء الطاهرة التي سالت قرابين من اجل الوطن والانسان، وبقيت كل حالات القتل غائمة وغير معروفة ومجهولة بالمطلق.
فمن قتل الشهيد كامل شياع وهادي المهدي وتغييب الشحماني واغتيال ناشطي الحراك المدني في البصرة ومن قام بتصفية خبيرتي التجميل رشا الحسن ورفيف الياسري والناشطة البصرية سعاد العالي والعديد العديد من الأصوات الحرة منهم من لم ينبس ببنت شفة ومنهم من عرّى سياسات التسويف ونشر الفساد واشاعته.
من هم أولئك الذين استهدفوا الأبرياء من باعة الكحول وقتلهم داخل محلاتهم من يزيديين ومسيحيين وغيرهم؟ والقائمة تطول وتطول.
اين هي حشود رجال الأمن الذين يكلفون خزينة الدولة الأموال الطائلة وهم غير قادرين على القبض على قاتل واحد من مئات القتلة وهم ما زالوا يصولون ويجولون، دون اية ملاحقات لهم. أم أن الحقيقة تضيع بين مسلسل الفساد والانتساب لأحزاب السلطة، أو، وهذا هو الأرجح، ان وراء الأكمة ما وراءها؟
لنأتي الى خاتمة الجرائم والتصفيات تلك التي طالت الروائي والأديب والناشط المدني الشهيد علاء المشذوب، هذا المبدع والصوت الحر الذي لم يكن يحمل سلاحا ولا ناسفة ولا أي شيء يستهدف من خلاله رجال الأمن وتقويض النظام، كل ما يحتكم عليه هو قلمه النزيه ليسطر بعض الكلمات التي كانت تعذب ضميره النقي وهو يقف على مسلسل خراب بلده الجريح، اليس من حقه ان يوظف ملكته الإبداعية لفضح ما يجري لكيلا يوصف بالخنوع وقبول المهانة؟
وهكذا هو موقف المثقف والمبدع للتصدي للعبث الأرعن الذي تقوم به فلول من الجهلة وانصاف الأميين وهم معبأين بأفكار وقيم وقناعات لا تشرّف حتى البهائم بتبنيها، لتصبح حياة البشر سيما المتميزين منهم، ممن يرون ويشاهدون ويتعايشون بمرارة يومية، مع حالات يعتبر الصمت ازاءها خنوع ومذلة وخيانة كبرى للمبادئ والقيم حين نذروا انفسهم بالتصدي السلمي والحضاري لها كونها تجاوزات خطيرة وتخريبية، معتبرين ذلك حقا مشروعا لإثبات انسانيتهم وامانتهم للأفكار والمبادئ التي جُبلوا عليها، رافضين كل صيغ التدجين والمهادنة وبيع الضمير، مهما كان الثمن.
حتام يبقى مصير العراقي يقرره صبيان متخلفون وجهلة، ونحن نسمع ونرى ونشاهد وعلى السنة ذوي القرار، انهم يسعون لبناء دولة حديثة، أسسها القوانين الوضعية وحقوق الانسان وقاعدتها الدستور الحديث؟
لعل هؤلاء وممن يدور في فلكهم في آذانهم وقر وقدت سُدت مجساتهم، لكونهم نسوا او تناسوا بان مسلسل القتل والترهيب وتصفية الأبرياء وزرع الخوف هي الطرق الأسهل لإخضاع الناس تحت سلطتهم القمعية، ليتسنى لهم الوصول لأغراضهم الدنيئة والخسيسة.
نقول لهؤلاء ان العبرة لمن اعتبر من التجارب السابقة لطغاة وقتلة ومجرمين سلكوا ذات النهج وأمضى، وها هم اصبح مآلهم مزبلة التاريخ واللعنات تلاحقهم.
نطالب بكشف هويات القتلة وسفاحي دماء الأبرياء ومن يدعمهم ويبارك افعالهم ومن يمولهم ومن يتستر عليهم ومن يفتي لهم، دون ان ننسى بالأمس القريب تحريض الكفيشي والصميدعي وغيرهما من معممي الفتنة وهم يحرضون على قتل المخالف من المدنيين والعلمانيين والطوائف الأخرى من “اهل الذمة” وبكل وقاحة وتحد سافر.
المجد والخلود لكل ضحايا الغدر الجبان والأيادي القذرة التي طالت الأجساد الطاهرة التي ستبقى مشاعل دروب الحق والحرية والكرامة.
والخزي والعار للضالعين في مسلسل الاغتيالات من السفلة والمنحطين والرعاع.
والبقاء للعراق العظيم ولننحني لأبنائه المخلصين البررة من ضحايا الرصاص الغادر.
وتبا وسحقا لسدنة الموت الأرعن

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here