قصة قصيرة جداً

الهام حسين …. 1-2-2019

المُشرّد

كانت على موعد و تفصلها عن الموعد عدة ساعات في القطار. خرجت مبكرة من شقتها وتباشير الفجر لم تلوح بعد، وقبل الخروج نظرت من النافذة لتودع البط في البحيرة القريبة، البط الجميل الذي يعطيها السعادة والامل كلما نظرت اليه يسبح بحرية وسكينة إلا أنه هذا الصباح لم يكن يسبح وإنما يمشي فوق سطح البحيرة المتجمدة، تمنت أنه لا يقاسي من إنخفاض درجة الحرارة بأقل من الصفر بعدة درجات كما تقاسي هي الآن.

غادرت شقتها وإستقلت الباص الذاهب الى محطة القطار في مدينتها، والمحطة ضخمة وبها عدد كبير من السكك التي تربط المدن جميعها مع بعضها البعض، وها هي قد وصلت للمحطة التي لها نكهة مميزة بالارصفة الطويلة المحاذية لكل سكة وهنالك المصطبات المنتشرة على هذه الارصفة لإستراحة المسافرين. رأت جسماً لرجل مكورٍ ومستلقي على إحدى هذه المصطبات مما يدل على أنه مشرد وقد قضى ليلته هنا في هذا الجو البارد، نظرت اليه وهمّت بفتح حقيبتها لإعطاءه بعض النقود تكفي لشراء إفطار يعطيه بعض الدفيء فيضيف الى عمره الشيء القليل لكنه ما أن رآها تقترب منه وقف وأدار وجهه خجلاً ودموعه تنهمر على وجنتيه ومشى بعيداً عنها ورأت خلفه إمتداد لخيط رفيع سائل وأصفر اللون يتبعه كظله، تأسفت لحاله ولوحدانيته وتأسفت لعدم إمكانيتها مساعدته وبينما هي تتابع المشرد بنظرها كان بالقرب منها وعلى المصطبة الاخرى، مجموعة من الاصدقاء وهم في أوج مرحهم ويطفح البشر في محياهم.

وصل قطارها في موعده المحدد تماماً تسبقه أزيز العجلات وصفيره المميز وأضويته الامامية التي أحالت المكان الى شعلة من الضياء الوهاج، تسلقت درجاته وإختارت مكان جلوسها المعتاد نفسه فهي لا تحب التغيير وخاصة عندما لا يكون هنالك ضرورة تستوجب التغيير، كان المقعد مريح ووثير ثم غادر القطار المحطة بنفس موعده وسيصل أيضاً بنفس الموعد المقرر …. بدأ ضياء الصباح ينتشر في كل الارجاء ومع الصباح بدأت مخلوقات الله تفتش عن أرزاقها كما تفعل الان هذه الابقار في الحقول المحاذية على جانبي السكة وتبحث بفمها عن الحشائش المطمورة في الثلج علّها تجد شيئاً….لم يسعفها جمال الحقول الخضراء الممتدة على كل الافق براحة البال بل أن صورة الرجل المشرد مازالت أمام عينيها تعكر عليها صفوة أفكارها.

أرادت أن تجد له تفسيراً معقولاً يجعله وحيداً في هذه الدنيا المكتظة بالناس وكيف وصلت به الحال الى ما هو عليه الآن، هل هو ثمرة سقطت من شجرة وحيدة في هذا العالم … أين أهله… أين أحبائه … كيف قضى سنوات عمره وهل قضاها في أرض بور ليس فيها حياة أم ودّع أحبائه جميعاً الى رحمة الله وبقي لديه من بعدهم جرح لن يندمل؟

كم هي الحياة ظالمة وعسيرة حين لا نجد من نحب ولا من يحبنا وكم هي مزدهرة بوجودهم ولقاءهم ويملؤون حياتنا بركة ومسرّة وها هي ذاهبة للقاء الأحبة ويالها من سعيدة بوجودهم في حياتها وتمنت له مثلها.

وبقت صورة المشرد وصفير القطارات وقهقهة السعداء تجلجل في الفضاء الرحب وآهات التعساء ودموعهم تنهمر بخجل، في مخيلتها واضحة المعالم طيلة حياتها.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here