1492 في ادب الحياة، العراقي وثقافة احترام القانون –2

د. رضا العطار

قرانا في الحلقة السابقة كيف ولماذا فُرض على كاتب السطور الاجازة السنوية الاضافية ليستطرد هنا قائلا:
بعد ان اكملت ثلاثين يوما في ادارة عيادة الطبيب الالماني الذي عاد من سفره وسلم لي المبلغ المتفق عليه، ذهبت الى محطة القطار وتقدمت الى احدى نوافذ بيع التذاكر طالبا السفر الى هامبورغ. فسألني الموظف: هل تريد كرسيك قرب مخزن الحقائب ؟ ام قرب عربة المطعم ؟ ام بينهما ؟ ام لا هذا ولا ذاك ؟ واية درجة تشاء ؟ وهل تريدها بالعادي ام السريع ؟ وفي اي ساعة ؟ ففي كل ساعة يسير قطار — فبعد ان اجبته على مرامي، ناولني تذكرتي وقال لي: لتكن واقفا يا سيدي في الساعة والدقيقة كذا في القاطع الثامن من المحطة وعلى اللون الأخضر منه، وعلى بعد متر واحد من حافة الرصيف ثم تدخل القطار عندما يصل في الوقت المحدد من الباب التي ستكون امامك، وهناك ستجد مبتغاك متمنيا لك سفرا مريحا.
كان ذلك قبل اكثر من خمسين عاما !!

كان القطار حضاريا جدا وعلى درجة عالية من ضبط الوقت والنظافة وحسن اللياقة ووفرة الخدمات، ناهيك عن حلو المعاشرة التي يتسم بها الالمان عموما، فعندما تسألهم او تتحدث اليهم، يقابلونك بوجه بشوش وسلوك اجتماعي مقبول، يحترمون رأيك ويجاملونك قولهم: هل اعجبتك المانيا حقا – وهل انت سعيد بما شاهدت ؟ نرجو لك طيب الاقامة في ربوع بلدنا – الخ — وبعد ساعات ممتعة من السفر المريح قضيتها بين رؤية المناظر الطبيعة الخلابة والاعجاب بحركة العمران الدؤوبة، خاصة في القرى و المدن الصغيرة التي كانت تمتد على طول الطريق، علما انه لم يمر اكثر من عقد ونصف على انتهاء الحرب العالمية الأخيرة. فبعض المدن قد ابيدت من بكرة ابيها نتيجة للقصف الجوي العنيف لطائرات الحلفاء وفي نهاية المطاف دخل القطار محطة هامبورغ في الدقيقة التي اعلن عنها سلفا. ومن هناك انتقلت الى المنتجع السياحي واستقريت في فندقه المطل على بحر البلطيق.

كان الموسم يشرف على فصل الخريف، وكان كل ما وقع تحت بصري في المدينة الصغيرة نظيفا ملونا جذابا، فشجيرات شارع الكورنيش المحاذي للبحر قد رصعت بالزهور البيضاء كأنها فصوص الماس، واخرى تفتحت وفاح عطرها وانتشر الشذى، أما نباتات الزينة التي تجمل الارجاء فكانت نضارة خضرتها متفجرة من فرط الحياة.

وعندما اطلت من نافذة غرفتي في الفندق، وجدت البحر هادئا ساكنا، يمتد امامي في زرقة صافية، يصافح جوه الرطيب وجوه السائحين، يجعلهم يحسون ان حقيقة الحياة قد تفوق اجمل الاحلام. اما الطرقات فكانت تزخر بأحواض المياه العذية، تحيطها تماثيل الرخام ناصع البياض وهي في اوضاعها الفنية المختلفة، يتدفق من نافوراتها الماء عاليا، تجعل الهواء نديا منعشا، باعثا البهجة والسرور.

وفور وصولي عملت لنفسي برنامج عمل يومي: فكنت انهض مبكرا، وبعد الاستحمام و تناول طعام الفطور اخرج الى ساحل البحر، الموازي لكورنيشه الجميل، امارس فيه رياضة المشي لمدة ساعه واحدة، امتع نفسي خلالها بشم نسيم الصباح العبق ورؤية جمال الطبيعة الخلابة. لقد كان كل ما اشاهده امامي يبعث في نفسي على السكون والتأمل، وهما في حد ذاتهما نوعا من غذاء الروح.

بعد وقت الرياضة ارجع الى الفندق وانزل في حوض السباحة الذي تتغير درجة حرارة مائه طبقا لفصول السنة، وفيه جميع الرفاهيات التي هيئتها الحضارة الحديثة. بعد ذلك اتناول طعام الغداء واذهب الى الزاوية الخاصة للكتب وغالبيتها كتب سياحية مسلية. اما عصرا وبعد تناولي الشاي كنت اغادر الفندق كي اشارك جموع المصطافين تجوالهم التقليدي في شارع الكورنيش الممتد على طول رصيف الساحل وهم يستمتعون بنقاوة النسائم المنعشة الاتية عليهم من القطب الشمالي عبر مياه بحر البلطيق. منتظرين بفارغ الصبر رؤية منظر الغروب وبهاء الشفق البديع وما يرسمه في صفحة السماء الصافية من الوان متناغمة زاهية، تطبعها على صفحة السماء الصافية. أما بعد فترة العشاء فكنت استمتع بشطر وافر من ساعات الليل مع ضيوف الفندق وما تقدمه ادارته من فعاليات فنية مسلية.

وفي صبيحة احد الأيام المشرقة وبينما انا اتهادى على رمال الشاطئ حافيا مسترخيا منتشيا بماء البحر المتحرك الرقراق واذا بي اشاهد من بعيد صيادا، وقد صاد سمكة، لكنه بعد ان اخرج السمكة من شبكته، عاد ورمى بها في البحر. فكان عمله هذا بالنسبة لي امرا غريبا. فلم استطع مغالبة حب الفضول الذي بدا يدب في داخلي ويتعاظم، فدنت منه على مهل، محييا اياه ومعتذرا ثم ناشدته ان يكشف لي سره. وعندما بدأ الرجل بالشرح علمت من لهجته انه ذو ثقافة متواضعة، فهو من سكنة احدي المناطق الفلاحية القريبة من الساحل. قال:

( ان تعاليم نادي الصيد لمنطقتي تقضي الاّ نصيد سمكة لو كان طولها اقل من 18 سنتيمترا، لكن السمكة التي ارجعتها الى الماء كانت 15 سنتيم. فلما سألته متخابثا: وهل تريدها للنادي ام لنفسك ؟ اجابني مندهشا: اريدها لأسرتي، و لي ولد صغير، وهو يعلم ذلك جيدا، وقد يميل الى ان يلقي علي درسا في الاخلاق كأن يقول: كيف تنتظر مني ان اكون مواطنا صالحا، احترم القانون في الوقت الذي انت نفسك تعمل عكس ذلك ؟
فشكرته ومضيت.

و ابان الظهيرة وبينما انا في مطعم الفندق تعرفت على مواطن الماني وقور، انه كان في اوائل الستينيات من عمره. سألني بأدب جم عن موطني. فلما قلت له: العراق، تنهّد مستبشرا وقال: بلاد بابل القديم، كانت امنيتي زيارة بلدكم الحضاري ورؤية آلاثار التاريخية العظيمة. فأعلمته اني راجع الى العراق قريبا وسوف اكون في عونه ان جاء، فاردف قائلا : في عصر هذا اليوم عندي مناسبة، ان افراد اسرتي ينظمون لي حفلة في صالة الفندق التي ستضم الاقرباء والاصدقاء. يسعدني حضورك معنا، وعمدت الاّ اسأله عن بواعث هذه الحفلة.
الى الحلقة التالية !

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here