الطاقة والمبدعين ح4 والأخيرة

الطاقة والمبدعين :

كثر هم المبدعون حول العالم , وكثيرة هي نشاطاتهم وأعمالهم , الا ان القلة القليلة منهم بلغتنا اسماءهم , وعبرت الحدود شهرتهم , لكن .. ليس في جميع أعمالهم , بل ربما عمل واحد فقط شطح فجعل اسماءهم في الاسماء , وشهرتهم في الأصقاع.

حقيقة , قد يكتب الكاتب عشرات او مئات من المقالات , والشاعر يكتب الكثير من القصائد , والمفكر تجود قريحته بالكثير من الأفكار , والرياضي يلعب الكثير من المباريات ويخوض المزيد من المنافسات , والمغني قد يقوم بكثير من الأغاني يبذل فيها قصارى جهوده , كل هؤلاء وغيرهم من أصحاب المواهب والإبداع يجودون بالكثير الكثير , ألا ان المتلقي لم يلتفت لهم , بل ولم يأبه بهم , وقد يكون لم يسمع بإسم واحداً منهم قط رغم كثرة نشاطاتهم واشتهارهم في أوساطهم , حتى تأتي اللحظة المناسبة , عمل واحد فقط يشطح فيبلغ الافاق , ويذيع صيت صاحبه ويتردد على كل لسان , ويجذب الانتباه اليه , بغض النظر عن جودة العمل الفكرية .

على الرغم من كثرة الاعمال والتي قد تصل المئات وربما الالاف , ألا ان عملاً واحداً او عدة أعمال لا تتجاوز أصابع اليد فقط هي التي كتبت لها الشهرة والترويج على أوسع نطاق ممكن , وباقي الأعمال الأخرى تركت مركونة على الرف لا تجد من ينفض أو يزيل الغبار عن دفتيها رغم جودتها الفكرية , هذا واقع وملحوظ كثيرا , لدرجة انه لا يحتاج لذكر أمثلة , لذا يتبادر الى الأذهان سؤال وأكثر , ما الذي يجري ؟ , لم كل هذا الإهتمام بعمل واحد لمبدع وموهوب كبير ؟ , لم هذا الترويج والتسليط الإعلامي لهذا العمل بالذات ؟ , كيف أثر هذا العمل بكثير من الناس رغم انه ليس من إختصاصهم ولا من إهتماماتهم ؟ ! , فصاحب العمل هو نفسه الذي قام بكثير من الأعمال الأخرى التي لم يكتب لها النجاح , وأهملت وربما ذهبت أدراج الرياح , وربما أعماله التي أهملت ولم يعبأ بها كانت أكثر إبداعاً وأفضل من الناحية الفكرية.

هناك الكثير من الأجوبة والتحليلات والتعليلات لهذا الأمر من الناحية العلمية والفنية , كلا يحلل الموضوع وفقاً لتخصصه , حتى ان البعض ينسب الموضوع الى الحظ وسوء الطالع رغم ان ذلك ليس علميا ولا منطقياً , وهناك من يعترض على جودة العمل ويعتبره هراء في هراء , ويتهم بعض الجهات المغرضة بترويجه لتحقيق مآرب خاصه .

المؤسسات التجارية قد تروج لعمل معين لمبدع ما , فتجني جراء ذلك الكثير من الأرباح , وقد تروج بعض الجهات ذات الأغراض الخاصة لعمل معين تختاره بعناية ليخدم أغراضهم فيحصلون من جراء ذلك بعض المكاسب والتي قد تكون مادية أو معنوية , ومن المحتمل جدا ان تقوم مؤسسة خيرية بإختيار عمل ما (لا يهم ان يكون صاحب العمل من ذوي الأسماء المرموقة) من خلال دراسة خاصة فيعود عليهم بالمزيد من التبرعات والمكانة المرموقة لمؤسستهم , وهناك مؤسسات ثقافية تختار مجموعة من الأعمال تنسجم مع توجهاتهم الثقافية , فتنفق الكثير من الأموال لترويجها وفق سياقات خاصة , كل ذلك وغيره قد يكون

صحيحاً وممكناً , لا تكاد اليوم ان تجد عملاً يروج له بشكل ملحوظ ما لم تكن هناك جهات داعمة او مستفيدة .

لكن .. ذلك ليس شرطاً اساسياً , مع أنه قد يكون سبباً في ترويج أعمال المبدعين , وقد يعد إجحافاً في حق مبدعين أخرين لم يحظوا برعاية تلك المؤسسات , لكنهم استمروا في عطاءهم وإبداعهم رغم كل التجاهلات , حتى أتت اللحظة المناسبة , اللحظة المنتظرة , او تلك التي تسمى بـ (ضربة الحظ) , والتي هي ليست كذلك , أن صح لنا تسميتها بـ (ضربة الطاقة) , حين ينتاب المبدع شعور خاص , ناتج عن مؤثر طرأ عليه في حياته اليومية , أكسبه نوعاً من أنواع الطاقة “سواء كانت إيجابية أو سلبية” حفزت خياله وأطلقت له العنان , ضربته بسلسلة من الأفكار , ما عليه الآن الا أن يستجمع مهاراته , ويستعمل ذكاءه الخاص فيسيطر عليها , وبموهبته يعيد صياغة تلك الأفكار ويربطها مع بعضها , ثم يتناول القلم , فيدونها , هذه المرة ليست ككل مرة , هناك شيء غريب ينتابه , يمسك معه القلم , ويوجهه في الكتابة , لا يرى شيئاً , فالطاقة غير مرئية , لكنه يستشعر بوجودها حوله وبكثافة , كنوع ِمن أنواع الفيض الكهربائي , يشعر كأنه يسبح في حقل مغناطيسي , يستمر في التدوين , بوضع أفكاره على الورق , ومعها بين السطور تتموضع طاقته الغازية لتتخذ مما يخطه مسكناً لها , ومن جملة الموضوع موطناً , ومن السطور مدناً , ومن الجمل بيوتاً , ومن الحروف غرفاً , وما بين الكلمات ممرات , فيشعر بقوة خفية تطلب منه أن ينجز المشروع في جلسة واحدة , حيث يجب أن يستغل هذه اللحظات , الطاقة لا تقبل التأجيل , ولا تنتظر , لذا وجب عليه أن يستغلها لتسكن في مدونته كما تسكن الأشباح المنازل المهجورة “إن جاز التعبير” , وفي نهاية المطاف , يختتم مدونته بالخاتمة المناسبة , والتي ستكون بمثابة إغلاق بوابة المنزل , حيث يكون قد تم إستهلاك الطاقة في المدونة , وأنزلها منزلها , بذكائه وموهبته , وسعة خياله , فيتكأ على الكرسي وهو يشعر بنوع غريب من الإرتياح , ولذة في الإنجاز , لم يعهدهما من قبل , رغم إن هذه المدونة ليست أفضل ما لديه , لكنها هذه المرة مسكونة , ليست بالأشباح , بل بالطاقة .

قد أنجز العمل , ولم يتبقى الا نشره , هناك سيلاحظ ان عمله قد حظي بما لم تحظى به أعماله السابقة , فينتشر أسرع من النار في الهشيم , ويتردد على كثير من الألسن , جاذباً الأنظار إليه , مع لحاظ , إن كل من قرأ تلك المدونة قد يستشعر بروح المؤلف حوله , واقعاً , ليست روح المؤلف , بل طاقته , التي حلّت فيها واتخذتها نزلاً.

في الجانب الأخر , كثير من المبدعين الأذكياء وذوي المواهب الفذة والخيال الواسع , مع مهاراتهم الفائقة , في كثير من الأحيان تمر عليهم حالتين :

1- لا يجدون ما يكتبون : رغم كثرة المواضيع وأساليب الفن في صياغتها على شكل مدونات أو قصائد أو على شكل قصة , ورغم براعتهم في ذلك , تمر عليهم أوقات لا يجدون فيها ما يكتبونه , وبالرغم من مهارتهم في البحث عن الموضوع واكتشافه او إيجاده , يشعرون بشيء من العجز أو التكاسل أو ربما ينتابهم شيئاً من الغفلة , فيتوقفون لبرهة من الوقت .

2- يجدون ما يكتبون الا انهم يعجزون عن التدوين : تمر حالات كثيرة على المبدعين على العكس من الحالة الأولى , أي يجدون الكثير ليكتبوه ألا أنهم يشعرون بالعجز أو التكاسل أو التثاقل أو يفقدون مهاراتهم مؤقتاً في كيفية صياغته على أقل التقادير , كنوعٍ من أنواع الاضطراب الفكري .

كل ذلك وأكثر قد يكون ناتجاً عن هبوط الطاقة أو إضطرابها وعدم إتزانها بالشكل السليم كنتيجة ناتج او لفعل فاعل , فلا يجد ما يكتب طالما وان طاقته مضطربة او غير مستقرة بين السلب والايجاب , أو لعل الطاقة لا تنسجم مع ذكاءه ومهارته فيكون بينها (الطاقة) والمهارات الشخصية حالة من الشد والجذب , الامر الذي يمنعه من ايجاد المواضيع , أو يعرقله عن صياغتها وتدوينها بشكل مناسب .

هبوط الطاقة:

الطاقة تقف وراء الكثير من الاعمال الابداعية وبنسبة عالية لكن هبوطها لا يعني توقف العمل ولا توقف الابداع , بل في كثير من الاحيان يعني العكس , فهناك الكثير من الاعمال الابداعية كان سببها هبوط الطاقة , لا بل هناك مبدعين مخفين أوجدهم هبوط الطاقة ذاته .

حالات كثيرة تمر على الانسان لا يلتفت اليها وان التفت لا يعيرها أي أهمية , لعل منها ان يقف مبهوتاً ازاء حالة ما او عارض يعرض له , يقف فيه صامتاً كالحجارة او كالتمثال لمدة ثوانٍ , يقف جامداً لا يعرف ما يفعل أو كيف يتصرف ؟ , يجب ان لا تستمر طويلا , وإلا كان مردودها أكثر سلبية وأكثر ضرراً , في بعض الحالات تؤدي الى الغيبوبة , كل ذلك وأكثر قد يكون سلبياً , ألا أنه في نفس الوقت ممكن ان يكون سبباً في تفجير طاقات الفرد , كمثال مصغر على ذلك , عندما يقوم بعض الأصدقاء بعمل مزحة مع صديقهم الضحية , فيختبئون في مكان ما , ثم يفاجئونه بحركة غير متوقعة , في أول ثانية يكون الصديق الضحية مبهوتاً , لم يعي ما جرى , ولا يملك أي نوعا من أنواع التفكير او حتى الإرادة , فقدت هبطت طاقته الى الصفر في تلك الثانية , لكن سرعان ما ينهض ويستعيد وعيه بطاقة سلبية (في الأغلب) فيكون رده مصحوباً بشيءٍ من العنف.

من تلك النقطة بالتحديد , قد يفكر بالرد على أصدقائه , بطريقة مستحدثة , لا يمكنهم توقعها , من هنا يتأتى دور الطاقة السلبية في العمل الإبداعي , فينسج لهم فخاً لا يمكنهم توقعه بأي حالٍ من الأحوال , فخاً إبداعياً , يتعرضون له للأول مرة , يفاجئهم به ويسخر منهم كما سخروا منه في المرة الأولى .

الخاتمة

في نهاية المطاف , ندرك ان ليس هناك أحداً لا يملك طاقة , طالما هناك حرارة في جسده , وهذا يعني ان كل فرد مهما كان خاملاً يملك شيئاً من الإبداع “الإيجابي أو السلبي” أو

مهارات إبداعية خلاقة أو أفكاراً هادفة , قد تسنح له الفرصة فيعلن بها عن ذاته , ويثبت وجوده , وقد لا تسنح له الفرصة أو لم يحسن إستغلالها بالشكل الصحيح , فيركن في زاوية من زوايا الأرض لا يعبأ به , وتذهب إبداعاته أدراج الرياح.

حيدر الحدراوي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here