* د. رضا العطار
ان فكرة اقامة المساجد هي في الاساس المولد الاول لفن العمارة الاسلامية,
اما الزخارف والنقوش فنشأت بعدئذ, مثل تزيين النوافذ وتجميل السقوف بأشكال هندسية او نباتية جميلة بعيدة عن تصوير الشخوص. واستعمل المسلمون الكتابة كوسيلة حتى يستطيعوا التفنن في زخرفة خطوط الايات القرانية. وقد بلغ الفنانون المسلمون في ابتكار صبغ الالوان قمة الابداع، فكان عندهم اللون الازرق العربي والاخضر الزمردي والاصفر الصحراوي.
كما وجدنا الفنان العربي يستلهم نقوش الزخرفة وهو يقرا القران كما حدث ذلك في زخارف قاعة السفراء في قصر الحمراء بغرناطة في اسبانيا العربية, فهي تصوير زخرفي للايات 3- 6 الكريمة من سورة الملك .
اما بشان الموسيقى فقد نشات في الاصل من تراتيل واناشيد دينية في محاولة لتجويد القران ثم اتسع مجالها حتى قيل قديما ان الالحان انبعثت في الاصل من اعماق دور العبادة, لذا فالكلام, اي كلام الفاقد للحن, يكون سمعه عادة غير مستساغ. ولهذا يحاول الفنان ان يضفي على انتاجه لحنا مناسبا ليكون لدى المستقبلين اكثر قبولا, وما ابتكرت المقامات الا لضبط الآلحان.
لكن هذا لايعني ان الاصول الفنية للموسيقى العربية كانت كلها اصول دينية اسلامية بل انها تدفقت من مناهل ومصادر شتى ترجع الى اديان وحضارات سابقة, ففيها عناصر فرعونية وفارسية وهندية ويونانية وافريقية وعربية جاهلية, لكنها انصبغت بصبغة العاطفة الاسلامية التي افضت عليها طابعا دينيا عاما شاملا لازمها الى يومنا هذا, ولازال الغناء العربي يوصف بالترتيل والترجيع فيما عدا بعض الانغام التي يغلب عليها الطابع الاوربي . فالصلة الوثيقة التي تربط الاحساس الفني لدى الشعوب قد تميزت بعمق المشاعر وسعة الخيال. وبهذه المناسبة صرح الموسيقار الالماني الشهير – سباستيان باخ – قائلا ( ان شعوري بجلال الخالق يصل الى اقصاه عندما اجلس الى الاراغون في الكنيسة واعزف مقطوعاتي الموسيقية في الابتهال والتضرع ) .
عندما ندرس تاريخ الفنون عند الامم نكتشف فيها نوعين من التعبير الفني, نوع شعبي ساذج واخر متطور مصقول, فالشعبي ما يصدر عن جمهور الناس بالفطرة من انشاد جماعي او فردي وغنائه بسيط يتماشى مع محيطهم كالحداء اثناء رحيل الجمال او تنمنم العامل اثناء العمل اوغناء الفلاحين في الحقول او عزف الراعي لماشيته.
اما الصور والتماثيل التي يصنعها الانسان سواء اكانت بدائية او متقدمة فهي في مجموعها تدعى بالفنون الشعبية او الفولكلورية. بينما النوع الثاني يكون في الاصل ضرب من الفنون الشعبية يصوغه افراد بلغوا مستويات ثقافية متفاوتة تفتح امام اهله ابواب الانتاج الفني المنهجي المنظم كما نرى ذلك في الشعر الموزون المقفى على البحور والنثر الفني الرائع , كذلك في الموسيقى المنهجية التي تقوم على العلوم النغمية ودراسة الاصوات واشكالها ودرجاتها.
وقد عرف المسلمون هذين النوعين من فن الغناء منذ ماضي الزمان فكانا دائما جنب الى جنب, فعاش الرجز ثم الموشح الى جانب القصيدة وعاشت رسوم مناظر الطبيعة على جدران البيوت الى جانب روائع الاعمال الفنية في زينة المساجد والقصور . وقد يبدو لنا الانتاج الفني الشعبي ساذجا وربما جافيا لكنه في الحقيقة صادق وديع نابع من طبيعة الحياة نفسها دون تكلف, ومن ثم فان اثره في النفوس اوسع مدى من اثر الانتاج الادبي المصقول الذي غالبا لا يخلو من تصنع.
اما ميلاد اول مسجد في الاسلام فقد تم بناءه على يد النبي الكريم محمد ( ص ) في يثرب في العام الاول للهجرة, والمسجد يعني بيت القاضي ودار الدولة, الذي قضى فيه الرسول بقية حياته, وعندما وافاه الآجل, دفن جثمانه الشريف فيه.
والمسجد في اصله ليس مجرد مصلى فحسب بل هو مكان اجتماع للمسلمين ايضا ومركز دراسة وعلم واعلام ورابطة حقيقية بين الناس . كما هو ملاذ في اوقات الشدة و محكمة وشبه برلمان للمسلمين, يصدرون قراراتهم بعد المداولة, وهي تعمل على ارض الواقع بقوة القانون, ومن هنا فأن وجود المسجد اساسي بالنسبة لجماعة المسلمين والمسجد يجعل جماعة المسلمين متماسكين مترابطين ذات كيان وقوة ومستقبل . والمسلمين الذين لا مسجد لهم مصيرهم الى الزوال .
,
لقد بني جداره الخارجي من الطين وطلي بالنورة, فكان ابيض اللون. واللون الآبيض يعكس معاني السلام والآمان والطهارة. كان انشائه في بالغ البساطة لكنه ضمن الحد الادنى الضروري لآقامة الصلاة و ان تصميمه الاساسي جمع كل العناصر التي ستتكون منها المساجد الاسلامية فيما بعد. فكان فيه بيت الصلاة والصحن والقبلة والمحراب والمنبر، اما الاجزاء الاخرى كلمأذنة والقبة فقد اعتبرت محسنات اضيفت اليه فيما بعد .
كان المسجد بداية على هيئة مستطيل طوله سبعون ذراعا وعرضه ثلاثة وستون,
( اي في حدود الف متر مربع ) وجعل جداره الشمالي ناحية القبلة, وكانت القبلة يومذاك باتجاه بيت المقدس . ثم انشأ بمحاذات ذلك الجدار ظلة مغطاة بسعف النخيل , مرفوعة على جذوع النخيل. تلا ذلك جزء واسع مكشوف يدعى الصحن الذي كان المسلمون يتجمعون فيه خاصة ايام الجمعة. اما الصلاة فكانت تقام في بيت الصلاة.
والى الشرق من تلك الظلة ابتنى الرسول حجراته التي كانت ابوابها تفتح على صحن الجامع . وفي الجوف من بيت الصلاة وضع الرسول الكريم حربة تعين اتجاه القبلة وسمي موضع الحربة بالمحراب, والى يمين المحراب انشأ شئ اشبه بسلم يتكون من بضع درجات ينتهي بموضع صغير كان الرسول يقف فيه ليلقي خطبه من عليه وهذا هو المنبر. اما الاذان فكان ينشده النبي بنفسه من على سطح غرفة حصفة ام المؤمنين زوجته . وهذه هي الصورة الاولى للمئذنة. وعلى هذا كان المسجد يمثل الحالة الحضارية المتقدمة بالنسبة الى المدينة المنورة في ذلك العصر .
وقد وسع المسجد بعدئذ حينما تزايد عدد المسلمين واجريت عليه بعض التحسينات زمن الخليفة عمر بن الخطاب (رض) الذي اوعز ان تستبدل جذوع النخل باساطين من اللبن و سعف السقف بالخشب كما ضاعف عمر مساحة الجامع .
وقبل ان يتسنم عمر بن عبد العزيز سلطة الخلافة الاسلامية في الشام قام بهدم الجامع واعاد بنائه بالحجارة و استبدل ابوابه بأخرى اكثر رونقا.
بعد ذلك انطلق بناء المساجد في العالم الاسلامي يزداد بأطراد و يتطور خطوة بعد خطوة عبر اربعة عشر قرنا متتالية حتى توج اخيرا ببناء المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة في اواخر القرن العشرين وهو يمثل ذروة الفن في هندسة العمائر الاسلامية الحديثة مع المحافظة على الشكل والشخصية.
* مقتبس من كتاب عالم الاسلام لمؤلفه حسين مؤنس.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط