العودة إلى الجوادر

عباس راضي العزاوي
ساقت الأقدار محمد ساجت وهو لم يبلغ الحلم بعد، للعمل في إحدى دور السينما وسط بغداد، كان ذلك عن طريق احد معارف المدير المباشر للسينما الحاج ابو نبيل ،الراتب كان مغريا واضعاف تقاعد والده الذي غادرهم على حين غفلة قبل أن تنبت لهم أجنحة يحلقون بها في فضاء الهم والشقاء والبحث عن لقمة للعيش تغنيهم عن مد يد العون من احد، فهو مازال يتذكر نعاوي امه بعد وفاة ابيه وحيرتها في قيادة عائلة متكونه من سبعة أبناء صغار ولوحدها، كانت تردد دائما وكأنها تعتب على ابيهم الذي فر من واجبه بحجة الموت أو ربما القدر الذي استعجل برحيله لأسباب كونية
“كبر الولد والموت تالي”
عتب مرّ يرافقه نشيج متهدج يمزق القلب حين خروجه.
بقي محمد في عمله بضع شهور ، كان يشعر برجولة وقوة حين يسلم راتبه لامه نهاية الشهر ويأخذ مقدار أجور النقل وربع دينار للغداء، تعلم بسرعة من باقي العاملين واجباته وكان يؤديها بأمانة شهد له بها رب العمل وكل زملاءه هناك، حتى أرسل المدير خلفه ماجد رفيق عمله ليتأكد بأنه سيودع الاموال في البنك القريب من دار السينما، فغضب محمد من هذا التصرف الذي قرأه بانه عدم ثقة وتخوين له رغم صغر سنّه، لماذا ترسلون بيدي مبلغ كبير ان كنتم غير واثقون مني ؟ قال ذلك بغضب موجها كلامه للمدير ،اعتذر المدير عن تصرفه مبررا ذلك بسبب حادثة قديمة سرق فيها العامل السابق المبلغ الكبير الذي اؤتمن عليه، خمسة آلاف دينار لم يكن بالمبلغ البسيط منتصف الثمانينيات.
قَبِل محمد الصغير العذر على مضض ولكن الاهانة بقيت كغصة في صدره ،فقد تعلم أن أموال الناس لاحق له فيها مهما كان فقيرا واستمر في العمل مرغما لحاجته الماسة، حتى أنه ترك سنة دراسية كاملة ليحافظ على دخل جيد لعائلته، كان يشاهد الافلام الأمريكية الحديثة في العرض الاول وهذا يمنحه امتيازا مهما على رفاقه في المنطقة وكون علاقات جميلة مع أصحاب المحلات القريبة.
عندما حدثت تفجيرات السفارة الألمانية في شارع السعدون التحق بكادر السينما رجل أمن يتابع بنفسه إجراءات تفتيش حقائب الزبائن واجسامهم، ويشترك أحيانا بالتفتيش في ساعات الذروة، ولأن محمد تعلم جيدا طريقة سريعة لتفتيش أكبر عدد ممكن كي يتم إدخالهم الى صالة السينما قبل العرض،
لكن لسوء طالعه شاهد المدير العام خلال احدى زياراته النادره طريقة محمد بالتفتيش فلم ترق له، فأرسل أحد العمال ليطلب حضوره، نحن هنا في خدمة الزبائن فكيف تضربهم على مؤخراتهم بعد التفتيش، قال المدير ذلك وهو ممتعض جدا ويبدو بأنه لن يقبل اي تبرير لهذا الفعل المشين ، فرد محمد كعادته بصلابه ودون خوف، نحن نخدمهم ولسنا عبيدا لهم والضرب الذي تقصده هو اشارة للزبون بالاجتياز والازدحام يحتم علينا ذلك وليس على المؤخرة كما تقول بل على أعلى الساق!!.
فالتفت المدير المتفاخر بنفسه ومنصبه وابلغ الحاج ابو نبيل بطرد هذا العامل الوقح لانه لا يفهم في مجال خدمة الزبائن علاوه على ذلك لسانه الطويل وأعطاءه بقية راتبه ولم يقبل بقاءه حتى نهاية الشهر.
كان القرار مزعجا للجميع، تاسف رفاقه لهذا القرار الظالم غير المستحق، اقترب الحاج وقال له “لاتهتم وليدي ” بعد قليل سيهدأ المدير لأن قلبه طيب صدقني ، فما عليك إلا الذهاب لبيته لتعتذر منه وسيقبل بعودتك…
تذكر محمد كلمات امه بعد كل مشكلة تمر به في المدرسة أو في الشارع وكيف انها لا تريد له أن يكون ذليلا وتقول “أنت يتيم يمه بس مو ذليل ولا فقير لاحد” وماذا عن الراتب وكيف سنتدبر امورنا، أمور كثيرة مرت بذهنه في هذه الثواني الحقيرة انه مسؤول عن عائلة الآن. يارب ماذا افعل؟ هو الآن بمكان ابيه!!! فهل يتخلى عنهم بحجة الكرامة؟ اي كرامة طززززز …الكرامة لاخبز فيها ولا لحم ، الكرامة …. لاتقي برد الشتاء ولا حر الصيف، تذكر انه كان يشد بنطاله بخيط كيس السكر بدل الحزام، ودشداشته يضعها لتكون قميصا بدل قميصه المتسخ الوحيد وتذكر ايضا حذاءه البلاستيك الذي كان ينفلت منه ويظل يبحث عنه وسط الطين وفي الصيف يحرق اقدامه من الحر، فهو لا يحب أن يرى إخوته مامر به.
سحب اقدامه بمشقة كبيرة وذهب إلى البتاويين سيرا على الأقدام حيث يقطن ذلك المتعجرف صاحب القرار الذي سيمنع الكثير من السعادة والفرح بالدخول لبيت أهل محمد فيما لو حرم من العمل للابد ، كان يحاول طوال الطريق ترويض روحه المتمردة كي لاتمنعه من التوسل لهذا الرجل الذي يمقته الآن، سمع الشتائم التي أطلقت من بائع اللبلبي وبائع الخضرة وصاحب الفرن وحتى رجل الشرطة الذي يقف بباب دائرة الأحوال المدنية القريبة، هو لا يفهم لماذا يشتمه الجميع؟ ماذا فعل لهم؟ لماذا يلومه كل من يمر من امامه؟ رخيص سافل ، مجدي، ذليل، وسفه على الزلم!!!
وصل قرب الباب فكانت المفاجأة الغريبة التي لم يتوقعها أن قدمه أصابها الشلل ولم تستطع الحركه لترتقي السلم الذي يقود لشقة المدير في الطابق الاول، قلق كثيرا في هذه الثواني التي مرت عليه كان يسمع أصواتهم من داخل الشقة، حاول مرارا أن يرفع قدمه التي أصبحت ثقيلة جدا…..
بعد هذا الصخب المدوىّ في راسه والذي كاد ان يصيبه بالصمم ،سمع صوتا من عالم آخر ،صوت مختلف ناعم وجميل،اعتاد على سماعه كثيرا،
جوادر… جوادر … نفر واحد جوادر ..
وجد نفسه في كراج الثورة ، صعد الكوستر وهو سعيد بقراره ومنتشيا وراض عن نفسه تماما ، نعم انه انتصار الجمال الروحي في لوحة الكرامة الحقيقية … وراح يغني مع الصوت الملائكي المعتاد في سيارات الأجرة والمنبعث من قمرة السائق الذي كان يشبهه كثيرا بملوحته وسماره الداكن.
نسم علينه الهوى من مفرأ الوادي ياهوى …… خدني على بلادي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here