داعش يحاول إفراغ القرى المحيطة بمكحول استعداداً لاستقبال عناصره الهاربين من سوريا

بغداد/ وائل نعمة

انتقل ما تبقى من عناصر تنظيم داعش خلال الشهرين الماضيين من خطة “التقاط الأنفاس” وإعادة الهيكلة إلى مرحلة تنفيذ “إعادة الظهور” التي يرتب لها التنظيم منذ وقت طويل. الخطة التي بدأ الإعداد لها بعد 6 أشهر فقط، من إعلان بغداد النصر على التنظيم نهاية عام 2017، تتضمن إيجاد مواقع بديلة عن المناطق التقليدية التي كان ينشط بها سابقاً وخسرها في الحرب الأخيرة.

وظهر التحول بشكل واضح في الهجمات المسلحة مطلع العام الحالي، وبدأت تتصاعد تدريجياً خلال الأسبوعين الماضيين.
ويبدو من أسلوب الهجمات، للمراقب العادي، بأنها نسخة مكررة من الهجمات السابقة لـداعش مثل خطف السكان في أطراف المدن، ومهاجمة القرى الصغيرة، لكن بحسب بعض التحليلات والتقارير الامنية، إن ما يجري هو تكتيك جديد، يهدف لإخلاء مناطق معينة من سكانها لحماية “الموقع التنفيذي الجديد” لـداعش، الذي ستنطلق منه الهجمات، كما حدث مؤخراً في الهجوم على قرية “النمل” شمال صلاح الدين.

إعادة الهيكلة
بعد أن خسر التنظيم جميع أراضيه التي كان يسيطر عليها لأكثر من 3 سنوات وانعزال عناصره في الجبال والصحارى والجزرات داخل نهر دجلة، ظل التنظيم نشطا في سوريا، حتى انهزامه نهاية الاسبوع الماضي بشكل شبه نهائي.
وسكن التنظيم لمدة 6 أشهر تقريباٍ في مواقعه المنعزلة ثم عاد التواصل بينه وبين قيادات التنظيم في سوريا، بسبب عدم السيطرة على الحدود بشكل تام (ومازالت الشواهد تؤكد حتى وقت قريب ان ثغرات موجودة على الحدود مع سوريا).
وساعدت الأزمات السياسية في العراق والانشغال بالانتخابات وقلة أعداد القوات الأمنية في بعض المناطق التي توصف بـ”الهشة” على أن يمر داعش عبر تلك المدن الى الحدود ويعود وبالعكس أيضاً.
وفي نهاية 2018 كشفت (المدى) عن تمركز 400 مسلح قادم من سوريا في منطقة بين الموصل وصلاح الدين. بعدها ذكر مسؤولون أمريكان أنّ نحو ألف عنصر دخلوا من الحدود الغربية ومعهم نحو 200 مليون دولار .
وكان خط السير المعروف، يبدأ من الحدود السورية قرب الموصل والانبار، ثم الى صلاح الدين، وصولاً الى جبال حمرين القريبة من إيران وبالعكس.
وكانت تلك المناطق مقسمة الى مواقع “استراحة” وأخرى تنطلق منها الهجمات، حيث كان التنظيم يحرص على عدم المزج بين دور كل موقع تجنباً لكشف مسالك مروره ومناطق استراحته، حتى تبدل كل ذلك مؤخراً.

العودة إلى أطراف المدن
أواخر عام 2018، كشف مجلس القضاء الأعلى عن خبر لم ينتبه إليه كثيرون. وكان الخبر هو الكشف عن تحقيقات أجريت مع ما يعرف بـ”والي الفلوجة” المعتقل لدى القوات العراقية، الذي كان قد هرب بعد تحرير الفلوجة في 2016 الى سوريا.
طلال العيساوي، المكنّى بـ”أبو نجم”، كان قد ذكر في التحقيقات التي نشرها القضاء في تشرين الثاني الماضي، بأنه عاد الى العراق بعد صدور أوامر من قيادة التنظيم في سوريا موجهة له ولبقية عناصر داعش بالاستقرار في أطراف المدن التي كانوا يسيطرون عليها قبل ذلك.
واحد من تلك المواقع التي عاد التنظيم إليها، أو زاد نفوذه فيها، هي سلسلة جبال مكحول، شمال تكريت، حيث لم تنقطع قدم المسلحين عن الكهوف في تلك المنطقة الوعرة التي وسّعها وأنشأ فيها أنفاقاً منذ 2013 وربما قبل ذلك.
ولكي تكتمل قدرة التنظيم على إعادة ترتيب صفوفه، كان من الضروري الحصول على الاموال، خصوصا بعد فقدان المصادر التي كانت تأتي له من فرض الأتاوات على السكان وتهريب النفط.
وحاول التنظيم مراراً خلال 2018 السيطرة مرة أخرى على حقلي علاس وعجيل، شرق تكريت، لكنه فشل بسبب ضعف قدارته وفقدان تعاطف السكان معه وزيادة كفاءة القوات العراقية.
في ذلك الوقت أيضا كانت خزينة داعش التي دفنها في 2016، قبل تحرير الموصل، في الصحراء قد اختفت، وعمليات الخطف والهجوم على القرويين لم تكن كافية لترتيب الأوضاع الجديدة.
وبعد أن حصل على جزء من الأموال المدفونة، بتسوية مع من وضع يده عليها من رعاة الغنم، التي هي في الاساس أموال تعود لفروع البنك المركزي العراقي وتهريب النفط، بدأت مرحلة جديدة من مسيرة التنظيم الذي يحاول العودة بكل الطرق.

هجوم النمل
وكشف هجوم قد يكون الأعنف والأخطر على إحدى القرى الواقعة على سفح جبل مكحول، مساء الجمعة الماضية، ما يدبر له التنظيم طول الأشهر الماضية.
ورغم ان الهجوم فشل في تحقيق هدفه، لكنه أوصل رسالة أبعد أن داعش موجود، كما كان يصرعلى أن يظهره في الاشهر الماضية، وإنما أنه بدأ بالفعل في تنفيذ خطة جديدة.
بحسب مصدر أمني مطلع تحدث لـ(المدى) وطلب عدم نشر اسمه ان “الهجوم الاخير على قرية النمل وما سبقه من أحداث جرت الاسبوعين الماضيين في نفس المنطقة، يؤكد ان جبل مكحول تحوّل الى الموقع التنفيذي الجديد بعد أن كان دار استراحة كبيراً للمسلحين”.
وغامر داعش بكشف موقعه، لإنه يريد إخلاء المدن والقرى التي تحيط به، ليسهل الطريق الى القادمين عبر الحدود مع سوريا، من خلال الصحراء الرابطة بين صلاح الدين والانبار للتمركز في الجبل الذي يقدر أعداد المسلحين داخله بين 100 و300 عنصر.
وأثبت التنظيم قبل أسبوعين، بقتله 3 شباب من قرية المسحك شمال بيجي كانوا يبحثون عن الكمأ قرب مكحول أيضا، لقد صحّت التوقعات بأن الجبل صار مركزاً لتواجده، ولم يعد موقعاً للاستراحة بين القادمين من سوريا والمتجهين الى حمرين في شرق البلاد.
وعلى هذا الأساس، كانت القوات الامنية قد شنت غارة في نهار الجمعة، قبل ساعات من هجوم قرية النمل، على مكحول وتسربت معلومات بانه تم قتل المسلحين الذين ذبحوا الشباب من قرية المسحك.
وكانت حملات سابقة قد نفذت في الجبل، لكنها كانت تطارد “أشباحاً”، لأنّ المكان وعر جدا ولا يمكن التحرك به بدون خرائط دقيقة او عن طريق “مرشدين” يعرفون المكان جيدا، كما انه قبل ذلك كان منطقة “ترانزيت” ولا يثبت فيه المسلحون اكثر من 24 ساعة.

تغيّر موقف السكان
وشنّ التنظيم هجوما بعدد لا يزيد على الـ10 أفراد بينهم انتحاريون، في الساعة التاسعة والنصف من مساء الجمعة على قرية النمل الواقعة بين بيجي والشرقاط. استهدف الهجوم أحد مقرات الحشد الشعبي، قبل أن يستنفر الأهالي لصد الهجوم.
ويقول عبد سلطان عيسى وهو عضو في مجلس محافظة صلاح الدين لـ(المدى) إن “الهجوم كان من 3 جهات، استشهد عنصر في الحشد وجُرح اثنان آخران”، مبيناً أن الهجوم استمر لأكثر من نصف ساعة.
وبحسب بعض التقديرات الامنية إن داعش كان يريد على الاقل قتل عائلة او اثنتين من القرية قبل ان يعود من جديد الى مواقعة في مكحول، حتى يتسبب بإخافة للسكان ويضطرهم الى النزوح مرة أخرى وإفراغ القرى للتنظيم. لكنّ المسؤول المحلي، وهو ينحدر من قرية الخانوكة، الواقعة ايضا على سفح جبال مكحول القريبة من “النمل”، يقول إن سكان تلك القرى “يفضلون الموت مئة مرة على أن يجربوا النزوح مرة ثانية (…) هذا تحول عما كان يجري قبل 2014”. ويعمل سكان قرية النمل التي تضم نحو 100 منزل، في الزراعة والمواشي ومعظمهم من عشيرة الجبور.
ويتمسك الأهالي هناك بشكل كبير بأرضهم، حيث كان البعض منهم قد فضل البقاء بعد أحداث 2014 على النزوح رغم المخاطر.
وعقب الهجوم الاخير بدأ سكان تلك القرى بتنظيم “خفارات” لمنع تكرار ما جرى ليلة الجمعة الماضية، خصوصا أن القوات الامنية كانت قد وصلت الى قرية النمل بعد انتهاء الهجوم بأكثر من ساعة.

بنادق بلا رصاص
وكانت القوة التي جاءت من الشرقاط، 20 كم عن القرية، قد تأنت بالوصول خوفاً من أي يكون الهجوم هو كمين يعده داعش للقوات الأمنية.
وخلال الهجوم أفرغ السكان كل مخازن العتاد التي يملكونها، حيث لا يملك أفضلهم سوى بندقية نوع “كلاشينكوف” ومخزن فيه 30 رصاصة. ويقول المسؤول المحلي: “يجب ان تكون هناك قوات إضافية وبدونها فإن الهجمات ستتكرر”. وما يزال هناك نحو 5 آلاف شرطي مفصول في المحافظة ولم يعد إلى عمله حتى الآن، حيث تسبب نقص الشرطة في إغلاق عدة مراكز بالمحافظة، وفوج في الشرقاط كان قريبا من القرية التي تعرضت للهجوم الاخير، كما ألغت المحافظة عدداً من نقاط التفتيش بسبب عدم وجود عناصر أمنية كافية.
ويعتقد عضو مجلس محافظة صلاح الدين، انه لا يمكن السيطرة على مكحول، مالم يتم تنفيذ ما وعدت به الحكومة قبل أكثر من عام، وهو “تطهير المنطقة بشكل تام ومسكها بقوات كافية”.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here