الإحتفاء بعربدة الروح .. وغياب معايير ضابطة للفلسفة

خضير طاهر
ما أن دخل شقتي صديقي خالد مروان قادما من لندن لزيارتي في أميركا حتى أخذ يفتش عن المكتبة ، لفت نظره وجود كتب التنجيم الى جانب كتب علم النفس والفلسفة والأدب … سألني (( كيف توائم بين عقلانية الفلسفة ولاعقلانية التنجيم ؟)).
– (( أولا – ليس للفلسفة معايير ضابطة لها مثل العلوم التجريبية حتى تستحق كل هذه الثقة والتبجيل ، فهي نشاط عائم ، وبشكل عام العقل ليس ضامنا لنفسه ، بل ان أحد فروع الفلسفة الميتافيزيقيا على سبيل المثال هي تحليقات هلامية أقرب الى هلوسات فصامية وفق تعريف الطب النفسي لأعراض فصام العقل وحالة الإغتراب التي تحدث لدى المريض ، وثانيا – مطلقات العقل ويقينياته قد تم دحضها وتحطيمها من قبل فلسفة مابعد الحداثة ، وثالثا – بعد إنهيار الإيمان بمطلقات العقل وتلاشي إسطورته .. لابد من الإنفتاح على معارف آخرى خارج مقاييس هذا العقل والإستفادة من الممكنات الباقية وطبعا هذا لايعني الإيمان بماهو موجود في وسائل الإعلام من دجل وشعوذة حول الابراج ، وانما دراسة التنجيم من منظور معرفي تجريبي يقوم على تطبيق مفاهيمه على حياة الناس من مشاهير وغيرهم بغية إكتشاف مصداقيته مثلما يفعل حاليا المنجمون في أوربا وأميركا تحديدا)).
ثم تابع خالد أسئلته :
– ((هل قرأت مذكرات الروائي غابريل غارسيا ماركيز ، ولاحظت كيف تحدث عن الإبراج بإيمان وتكلم عن برج إمه .. هل تتخيل قساوة ردة فعل النخب المثقفة عليه لو ان أديبا عربيا حائزا على جائزه نوبل مثله يتحدث عن إهتمامه بالأبراج!)).
-(( نعم قرأتها ، ماركيز يبدو ان مجتمعه ليس فيه أمراض كالتي في المجتمع العربي والمبالغة في إدعاءات العقلانية )).
جلس خالد يستريح من تعب السفر ، وقدمت له شراب البيبسي الأميركي الأصلي ، وأخذ يعرض مشروعه الذي أطلق عليه طريق الفرفشة والعربدة والفسق والفجور ، وقال عني اني أصبحت أمانة بيده بعد خروجي من الدين وصرت حرا ، ولابد من العناية بي والأخذ بيدي صوب عالم المجون ، وسيبدأ بإعطاء كورس دروس تعليمية كي أسلك جادة الفرفشة خصوصا في شرب الخمر والجنس .
– (( للعلم أنت من حسن حظك بصحبة ماجن خبير في عالم العربدة .. سأعيطك من خبرتي ما سيقلب حياتك تماما ، تعال معي الى الدرس الأول من كورس الطريق الى الفرفشة .. صديقي ديباجة كورس التعليمات .. تقول إياك والشعور بالخجل من المجتمع شرط عدم الإعتداء عليه ، وأيضا إحذر من الشعور بالإشمئزاز والقرف والإثم خصوصا في الجنس )).
قال هذا خالد ونحن نتجول في سوبرماركت كبير خصص أحد رفوفه لبيع الخمر ، وبدأ يشرح انواع الخمور ومزاياها ، وأنا أشيد بخبراته ممازحا له ، ثم إلتفت نحوي بعد ان أكملنا الإطلاع على قناني الخمر المعروضة ، وسألني : (( أي نوع أعجبك؟)).
– (( خالد .. عصير كوكتيل الفواكه أليس أفضل لصحة الجسم من هذه الخمور ؟))
نزل كلامي كالصاعقة على خالد وأجاب :
-(( من أول درس الظاهر عليك تلميذ فاشل .. من قال اننا نسعى نحوى الفائدة والجدوى والمعنى ، وكل مصنفات العقل التي سجن الإنسان نفسه داخلها .. نحن نريد إقتطاف لحظة من الزمن نمارس فيها حريتنا ، ونشاطنا الروحي وإكتشاف الأبعاد الأخرى للحياة ، أو نحاول عبرها الهرب من هذه الحياة ونخدر أنفسنا منتاسين جحيمها )).
خرجنا من السوبرماركت ولم نشتري الخمر ، وأبلغت خالد ان في داخلي حاجز نفسي قوي يمنعني من تناول لحم الخنزير وشرب الخمر رغم اني أصبحت غير متدين ، ولكن هذا لايمنع من إستكمال كورس الدورس والسير نحو عالم العربدة .
أضواء ساطعة ، وصخب الموسيقى .. غمرنا ونحن ندخل المرقص ، نظر خالد الى قنينة البيبسي أمامي وضحك .. (( تاريخي كماجن كبير تنقل وعربد على الشواطيء وداخل المدن .. سأضعه كله في خدمة تحولاتك السعيدة ))، ثم ما ان شرب الكأس الأول من الخمر حتى قفز من مكانه وإنقض على صالة الرقص كالصقر رغم تجاوز عمر الستين عاما ، وإندمج مع الموسيقى والراقصات والراقصين ، كانت الأجساد تهتز ويقينا ليس جميعها تتحرك بدافع واحد وتسعى نحو نفس الحاجة .
تعلقت عيني بها ، كانت إمرأة شرق أوسطية ، تعزف بجسمها أعذب الألحان ، تمايها وتكسرات جسدها التي كان ينتج عنها هالة سحرية فاتنة ، قلبي كان ينخلع من مكانه بإهتزازات صدرها ، وتطاير شعرها ، أحسست بالحريق والإنسحاق أمام جاذبيتها ، وهي ترقص على المسرح متحولة الى بركان من الأنوثة ، كانت كما او انها شهيدة في حالة ذوبان في طقس عبادة ، لاأعرف لماذا جسد المرأة وحواسها وشهواتها تتألق أثناء الرقص !
وسط مجموعة من الرجال والنساء ملامحهم من الأميركان أميركية والشرق أوسطيين جلست بعد ان إنسحبت من صالة الرقص ، بقيت أتابعها بنظراتي منتشيا بإنوثتها ، ومحترقا بنار هياجي ، للوهلة الأولى لم أصدق انها تبادلني النظرات ، لكن الأمر أصبح مؤكدا بعد تركيزها مطولا على وجهي ، ثم فجأة وإذا بها تتجه نحو طاولتي ملقية عليّ التحية باللهجة العراقية ، دعوتها للجلوس وأنا غير مصدق هذه المفاجأة .. (( هل تتذكرني ؟ )) سألتني بنبرات حنونة ، ولم أتذكرها ، وأنقذتني من حيرتي قائلة : (( تقابلنا في مكتب الأمم المتحدة في بيروت وأعطيتني هدية قرآن )).
ياللمصادفة العجيبة .. التقينا أثناء مراجعة مكتب بيروت للأمم المتحدة ، كانت جالسة في صالة الإنتظار يائسة محطمة بعد ان تم رفضها من قبل مكتب دمشق وجاءت الى لبنان بطريقة غير شرعية ، شعرت بالتعاطف معها حينما عرفت ان زوجها تم إعدامه إثناء إندلاع الإنتفاضة في العراق عقب عزو الكويت ، وأدركت انها بحاجة الى صدمة إيجابية ، وفي مثل هذه الحالات كثيرا ما أستخدم الكذب الأبيض لعلاج الناس من أزماتهم وخلق الأمل والأوهام لديهم ، أخرجت قرآنا صغيرا كنت أحمله في جيبي للتبرك به ، وإفتعلت امامها انني أجري إستخارة لها ، وثم أمطرتها بوابل من كلمات التفاؤل والتطمين من انها ستُقبل في الأمم المتحدة كلاجئة حسب ماتخبرنا الإستخارة ، وقدمت القرآن هدية لها ، تناولته بيدها وقبلته بخشوع وكادت ان تسقط باكية في حضني.
أخبرتني وسط ضجيج الموسيقى ، انها تفائلت كثيرا بالقرآن وشعرت بالراحة النفسية ، وصدقت توقعاتي لها وتم قبولها كلاجئة .. كان حضورها يستغرقني ، وعذوبتها تدعوني لإسنشاقها وإحتضانها وإلتهامها ، إنتبهت هي الى نظراتي الملتهبة التي تتجول فوق جسدها ، إبتسمت ، وتطلعت بوجهي وأرسلت بعينيها إستفساراً : (( ما الذي جرى لك ما بين فترة حمل القرآن ، وإرتياد المراقص ؟)).

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here