فنون العراق الجميلة، الموسيقى والغناء

* د. رضا العطار

هذا المقال مقتبس من كتاب حضارة العراق للأستاذ عادل الهاشمي، وللأستاذين سعد محمد علي وحسين قدوري الصادر في بغداد عام 1985.

يعد الفن الموسيقي جانبا عظيما من جوانب الحضارة الشاملة لأيما شعب،واذا كانت الحضارة قد ارتكزت على الحياة الاجتماعية والتاريخية و السياسية والاحوال الجغرافية والبيئة الملائمة، فإن من الواجب التنبيه الى ان الموسيقى تتمتع بصلة وثقى مع تلك العناصر الحضارية. اضافة الى ان الموسيقى تستند على اساس علمي يتضمن الطبيعة والرياضة والفلك واحتفاظها الجوهري بالصلة مع الادب وسائر الفنون الاخرى – – – فقد تاثرت بدورها واثرت ايضا بالشعر وفن العمارة والنحت والتصوير والرقص والتمثيل والفنون الآلية، مع علمنا ان الموسيقى كانت موضع اهتمام الفلاسفة واهل الفكر والتأمل في المعنى الباطني للحياة الانسانية باعتباره وسيلة الى دراسة علم الموسيقولوجيا.

وفي هذا الصدد لا بد من معرفة اللغة بثرائها واتقانها اللفظي وموسيقيتها الجاذبة الحاوية لجمالات المدى اللامحدود – – لان اكثر من نصف العلوم الموسيقية المعترف بها في الموضوعات، هي مرتبطة بتاريخ الموسيقى العربية ونظرياتها، وقد كتبت باللغة العربية مثلما انطلقت من الارض العربية وخرجت من عقول عربية – – – ومن قراءة عابرة يمكن ادراك المعاني الحقيقية للقوالب المقامية والفروع النغمية والاوزان الايقاعية والسلالم الموسيقية وعلوم ضبط المقام الموسيقي والغنائي وانواع الغناء القائمة على اوجه النصب والسناد والهزج، فضلا عن تدوين النظرية والتطبيق الموسيقيين وما رافقه من جهد تركيبي، فهذا يعد من النفائس الموسيقية التي توصّل اليها العرب الى جانب اشكال الغناء القديمة والمتجددة التي برع فيها سكان ما بين النهرين وهي فرائد شائقة في الفن الغنائي مع الاشارة الى سحر الكلمة العربية التي كانت وستبقى روح الفن الغنائي العربي لأحتوائها على علوم النطق الغنائي وتلوينه واخراج الحرف الغنائي وتصويت الكلمة.

ان حالة التكييف العائدة للصوت وفقا للمعاني التي تولدها مجموعة الكلمات الشعرية تخلق نظاما تعبيريا عميق الاثر يكشف عن صورة للواقع، هي اشبه ما تكون بالعرض البانورامي. فالمواقف الوجعية في الصورة الشعرية تتطلب صوتا فيه طاقة من العقلانية والحنان والعمق – – بينما الصورة الشعرية تتطلب صوتا فيه رنة القوة وثبات النبرات وقدرة التصوير. والمواقف الحماسية تتطلب صوتا صادحا مملوءا بالتحدي حلقيا، مشبعا بالعاطفة الجهيرة، رنانة فخورة – – – وفي الغناء ليست نوازع الفن الذاتي فحسب بل في الادارة التكوينية الخلاقة التي تتحكم بموضوعية الفن الغنائي.

فالعقل العربي هو الذي اوجد الانماط التاسيسية في الغناء. الى جانب ان العرب هم اول من عنوا بالموسيقى في ناحيتها النظرية والعملية وذلك ببحث طبيعة (الابعاد) الموسيقية وقوانين اهتزازات الاوتار وموجات الصوت وانتشاره وتكوين المسافات والسلالم الموسيقية ونظم التنغيم المختلفة وقوانين الرنين والنغمات المتوافقة والمتنافرة واختلاف الالوان الصوتية للالات الموسيقية الى معرفة دقيقة باجزاء الاذن والحنجرة لما لها من اهمية قصوى في تعميق الاحساس الفني العقلاني بالموسيقى – – – ويرتبط تطور الموسيقى العراقية على وجه الخصوص ارتباطا وثيقا ومتلاحما باحداث التاريخ العراقي وبالتغييرات التي طرات على الاحوال الثقافية.

كان العراق يلعب دورا مركزيا في التاريخ الموسيقي منذ فجر االحضارات الاولى على الارض. يتحدد مع ظهور الاشوريين في اوائل الربع الثاني من القرن الثالث عشر قبل الميلاد. اذ كانت (الحضارة) الموسيقية للاشوريين حضارة عالية فياضة بالانجازات، انارت على شعوب غرب آسيا. كما كانت ينبوعا عميقا للعلوم والبناء النغمي، استمرأت منه موسيقى الاغريق والرومان وغيرهما من الممالك القديمة في اوربا، اضافة الى ان الاشوريين وهم اقوام منحدرة من الشعوب السامية كالكنعانية والفنيقية والحيثية، يعتبرهم التاريخ الموسيقي، القنطرة الكبرى التي تصل الحضارة الموسيقية لقدماء المصريين بالحضارة الموسيقية للعرب وكلاهما يمت الينا والى موسيقانا وقوميتنا باوثق الصلات.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here