فرنسا ودورها الثقافي والفني أبان عصر النهضة،

(*) د. رضا العطار

في فرنسا وُصف القرن السادس عشر بانه (ميلاد جديد)، شمل مختلف الميادين الادبية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية.
ففي فرنسا ظهر في هذا القرن نحو مائتين شاعر، ولم يكن هؤلاء الشعراء اصواتا جوفاء تصرخ في البرية، بل كانوا يتوقون الى مجارات الرومان واليونان في نقاء الاسلوب وكمال الشكل. – – فظهر الشاعر والكاتب العظيم فرانسو رابليه الذي وصف بانه (امتع وانفع من رُوي من قصص) والذي اعتزت به فرنسا اكثر من اعتزازها بكثير من عمالقة القلم. – – فقد قال عنه الناقد الروسي ميخائيل باختين بانه واحد من كتّاب اوربا العظام الذي يحتلون المرتبة الاولى في الادب العالمي. ودعاه الناقد الروسي بلنسكي بانه عبقري زمانه وفولتير القرن السادس عشر. كما وصفه النقاد الغربيون تاليا لشكسبير، ويقف الى جانبه في المنزلة الادبية. – – في حين وصفه كل من شاتوبريان وفيكتور هيغو واحدا من اعظم عباقرة الانسانية عبر العصور.

وكانت فرنسا في تلك الفترة ارضا خصبة لازدهار الفلسفة فيها، فظهر فيها الفيلسوف ميشيل دي مونتيني الذي طرح السؤال الكبير قوله : لماذا يجب ان نثق بالعقل ؟
وفي مجال الهندسة المعمارية على ايدي معماري هذا القرن، انشأ بناء فناء اللوفر المربع في العام 1548 الذي اصبح متحفا عالميا فيما بعد.

لقد كان الحال مع فرنسا منذ عهد الاصلاح الديني حتى الثورة الفرنسية عام 1789 كحال بقية البلدان الاوربية، متشعبة بروح النهضة الايطالية التي عمت ارجاء اوربا والتي علمت اوربا كيف تخطو من خلال المجتمع البرجوازي دون ان تتلوث به. كما علمتهم كيف يكونوا طليعيين. انها علمتهم ان الثقافة والتعليم هما اثمن ما في الحياة واكثر جدارة وقيمة. وان التجارب التي يكسبها الانسان من الحياة ومن علاقاته بالاخرين هي التي تنتج الفن والادب الرفيعين.

لكن رغم هذا الحشد الهائل من اعلام الفكر والادب والفن والسياسة والفلسفة الذين ظهروا في فرنسا ابان هذا القرن ورغم هذا الكم الهائل من الانجازات العلمية والثقافية والفنية، لم يك القرن الثامن عشر كله عصر تنوير فقط، بل كان عصر خرافات وشعوذة وسحر كاذب، – كما كان في الوقت نفسه عصر قمع ثقافي ومراقبة صارمة للكتب المحرمة وملاحقة المفكرين والفلاسفة واضطهادهم – وبقيت الخرافات في اوربا جنبا الى جنب الاستنارة المطردة. على عكس ما كانت الحالة في بلاد العرب في تلك الفترة الزمنية حيث كانت الخرافات والشعوذة تعم الارجاء، تتحكم في عقول الناس دون ان يكون الى جابنها الاستنارة اللازمة.

فالى جانب النساء الاستقراطيات في اوربا كانت هناك طبقة من الاستقراطيات الفرنسيات اللائي رعين الادب والفن وفتحن صالوناتهن لاستقبال المفكرين والفلاسفة وترتيب المعاشات لهم ونشر انتاجهم وحمايتهم من اي مكروه.
فقامت الماركيزة مدام دي بومبادو، عشيقة الملك لويس الخامس عشر بحماية فولتير من اعداء فكره ومضطهديه. واجريت راتبا للاب كريبون وانقذته من الفقر، وساعدت مونتسكو وجان جاك روسو. مما ادى بالفلاسفة الى القول بان الماكيزة تنتمي اليهم.

وكانت الكاتبة الكبيرة كلودين دي تنسين صاحة صالون ثقافي في باريس تستقبل فيه النبغاء في الادب والفن والفلسفة والسياسة، كان من بينهم رجل الدولة والاديب هينولت وراقص الباليه الشهير بريفوست
وكان صالون مدام دي ديفاند يتبادل الرسائل مع فولتير، تلك الرسائل التي كانت عيون الادب والفن، وعندما عميت في اخر عمرها استمرت راعية للاداب والفنون – فكانت تتصدر مائدة طعامها وحولها الشعراء والفلاسفة والحكماء وكأنها هوميروس الاعمى.
كما فتحت مدام جوفران صالونها المشهور يوم الاثنين لاستقبال الفلاسفة ويوم الاربعاء لاستقبال الشعراء – – اما يومي الاحد والخميس فكان اللقاء في صالون البارون دولباخ.

كذلك فإن عصر التنوير لم يك طريقا ثقافيا مفروشا بالحرير ومنثورا بالزهور بل كان طريقا شاقا، دفع فيه فلاسفته ومفكروه ثمنا غاليا – – فصحيح ان الكنيسة قد كفت في هذا القرن عن حرق المفكرين من الاحرار والعلمانيين والمصلحين الدينيين عن طريق شوائهم على المناقل وسط الساحات العامة من المدن الاوربية – الا انها لم تك متهاونة معهم – فظلت تلاحقهم من حين لاخر وتقوم بحرق كتبهم ومصادرتها ومنع تداولها – فكانت كتب فولتير وروسو وديدور ودولباخ وغيرهم من احرار الفكر في قائمة الكتب المحرمة التي لا تسمح بقرائتها. مما كان الكتاب الاحرار مضطرين الى النشر في امستردام وفي لاهاي، كما يلجأ الكتاب العرب اليوم الى النشر في بيروت مثلا.

* مقتبس من كتاب التكايا والرعايا لمؤلفه د. شاكر النابلسي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here