البارحة: الأمس
و “ما أشبه اليوم بالبارحة” مَثل يُضرب في جريان الأمور على وتيرة واحدة.
والمقصود بالمصطلح الميل للذي مضى وكأنه ما إنقضى , وإنما عليه أن يتنامى ويتفاعل ويؤثر في مسيرة الحياة في حاضرها ومستقبلها , وذلك لفقدان قدرات المُبارحة أي المغادرة أو الزوال.
فالإقامة في أقبية البارحة سلوك سائد في الواقع العربي ومدمر للوجود المعاصر ومتسبب بمتواليات من التداعيات الخسرانية المريرة القاسية , ويبدو كمعضلة حضارية مزمنة وعاهة تفاعلية مستوطنة في أرجاء المجتمعات العربية.
ترى لماذا نغطس في مستنقعات مضت ونعجز عن مبارحتها؟
تأملوا آليات التفكير الطاغية على الخطابات بأنواعها , ستجدونها تشترك بأنها ” بارحية” , أي تتغنى بالذي فات ولا ترى أن ” ما فات مات” , ولا تؤمن ” بما هو آتٍ آت” , وكأنها تجمدت أو تصملت وتحولت إلى مومياءات أو تحجرت في لحظة زمانية ومكانية , فأعجزتها عن التحرر من قبضتها الإهلاكية.
فالبارحوية إضطراب سلوكي نفسي بحاجة لبحث ودراسة وتشخيص , ومعالجات مستديمة للتشافي منه وإبصار معالم دروب المكان والزمان الذي نحاول أن نكون فيه , وما هو كائن فينا.
والبارحوية تبدو وكأنها حالة إنقطاعية , أو نوامية , أو كالسير أثناء النوم , ذلك أن المجتمعات مخدّرة بالأضاليل والتصورات البهتانية وتعصف في أرجاء وعيها ولا وعيها الأوهام المترسخة بآليات التكرار والإقران العاطفي الكثيف , مما جعلها الملاذ الأقرب والأسهل للهروب من الشعور بالهزيمة والضعف والعجز والتحيّن في بركة الذي لا يمكن تغييره أو التأثير فيه , لأنه من أولاد وبنات البارحة.
وللمتاجرين بالأديان دورهم الكبير والفعال في ترسيخ الإضطراب السلوكي المنغمس في أطيان البارحة , لأنه يعود عليهم بأرباح مادية ومعنوية , ويزيد من قدراتهم على إستعباد الناس وإمتلاك مصيرهم.
كما أن العديد من الكتاب لهم مساهماتهم في تعزيز هذا السلوك المَرضي , وتحويله إلى عاهة مستشرية ومتوطنة في مسيرات الأجيال , لأن إبداعاتهم وتحليلاتهم تنطلق من مفردات تكرارية غابرة لاكتها أقلام الكتاب آلاف المرات على مر القرون والعصور , فلا فرق بين ما يتناولونه اليوم وما تناوله الكتاب والشعراء قبل عدة قرون , وإن تغيرت المفردات والأساليب , لكن الجوهر ذاته والفحوى كما كانت , وما تحقق سوى أن سلوك البارحة قد تعزز وتطور وتفشى وأصبح ميزة عاهوية مروعة بفضل جدهم وإجتهادهم الذي يستثمر عناصرها وآلياتها.
ولهذا فأن المسؤولية تقع على القادة والمُنوِّرين في المجتمع , إذ عليهم أن يعيدوا النظر بما يفكرون به ويتوجهون إليه , وأن يجتهدوا في قطع مشيمة البارحة وتأهيل الناس للتفاعل المعاصر مع يومهم
وتحديات زمانهم ومكانهم , بعيدا عن الولولة والتشكي والتظلم والشعور بالعجز والدونية والإنكسارية وفقدان الثقة بالنفس والعمل.
وبهذا يمكن المبارحة والإنطلاق إلى ما هو أجدى وأنفع وأرقى , فالناس المبرمجة وفقا لآليات البارحة لابد من إعادة برمجتمها لتكون متوافقة مع واقعها الزماني والمكاني المشحون بالتحديات والإنجازات الأصيلة.
فهل من غيرة على الحاضر والمستقبل؟!!
د-صادق السامرائي
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط