لغتنا العربية والأحافير اللغوية !

* د. رضا العطار

احافير الحيوان هي الاجسام المتحجرة التي مضى عليها ملايين السنين ونحن نستخرجها من باطن الارض ونحفظها في المتاحف كي نطلع منها على مراحل تطور الكائن الحي.
ولا يمكن ان نرد الحياة الى هذه الاحافير لان الحياة قد ابادتها وارتفعت عليها واخرجت منها انواعا اخرى. وهذه الاحافير كانت في يوم ما حيّة من تاريخ الارض، ولكن سُنًة التطور قضت عليها بالانقراض.
وفي اللغات احافير من الكلمات التي لا تجري على لسان او قلم، ولكن المعاجم تحتفظ بها للدراسة كما تحتفظ المتاحف بأحافير الديناصور او غيره. فاذا عمد كاتب الى استخراجها وبعث الحياة فيها فانه لن يصل من هذا المجهود الا الى تكليف المجتمع عبئا لا ينتفع به.

فالانسان القديم كان يعتقد ان عالمه حافل بالألهة والأرواح الخيرة والشريرة، وكان ينشد حظه في الكواكب والنجوم ويؤتمن بحركة الطير او يتشائم منها وكان راضيا بهذا العالم يجد فيه منطقا للسلوك الحسن فكان يستعمل الكلمات التي تؤدي له هذه المعاني. لكننا نبذنا نحن هذه العقائد. اما كلماتها الغيبية القديمة فبقيت. حتى اننا من وقت لأخر نقرأ عمن يخاطبون الارواح او يقرأون طالعنا في النجوم وما زلنا نتفائل او نتشائم من حادث او كلمة وما زال للكواكب والجن والشياطين سلطان على بعض النفوس التي لا تستطيع ان تتخلص من هذه الاحافير اللغوية ذلك لان الطفل ينشأ وهو يستمع الى الكلمات فتغرس فيه عقائد يعجز عن التخلص منها حتى وهو في الستين من عمره.

واحيانا نجد رجلا ممتازا في العلوم التجريبية لكنه ينزع الى الغيبيات، وكل ما عنده كلمة مثل (الروح) يحملها ويجري بها وراء المشعوذين الذين يستغلون تصديقه. وهو ينزع الى هذه الغيبيات بفضل كلمة تعلمها في الصغر فغرست فيه عادات ذهنية لم يعد قادرا على التخلص منها. انها مع الاسف لا تقتصر على الكلمات انما تتسرب الى لغتنا المألوفة حتى لنقول: (علا نجمه) او ( افل نجمه) او نحو ذلك. ان هذه التعابير التي كانت حية ايام الفراعنة و البابليين. وما دمنا نشرح لصبياننا الشرح العلمي علينا ان نبين لهم ان هذه العقائد القديمة كانت مغلوطة.

وكلمات الغيبيات توحي عقائد غيبية تعين للمؤمن بها سلوكا يتنافى مع المنطق ويؤخر عن تحقيق التقدم. وكثيرا ما يجلس بجانبنا في المركبة اناس يتمتمون بالتعاويذ شأنهم شأن الاشوريين يستوحون النجاح من النجوم والكواكب.
ومن الاحافير اللغوية كلمات (الدم) و (الثأر) و (العرض والناموس) في بعض قرى اريافنا. فان هذه الكلمات تؤدي الى قتل اعداد من النساء كل عام. ولا بد ان بعض القراء سيثب الى جانب هؤلاء القتلة، يذودون عن شرفهم. وكل ما استطيع ان ارد به هو ان سكان المنطقة الشمالية من بلاد مصر لا يقتلون مثل هذا العدد من الرجال والنساء لأجل العرض والثأر. فإما انهم لا يستعملون هاتين الكلمتين في حديثهم كما يفعل اهل الريف واما انهم اقل اجراما بطبيعتهم، والفرض الاول هو المعقول.

وهناك احافير لغوية كثيرة في الشعر العربي القديم. فان الشاعر كان يعيش في جو تلائمه كلمات معينة. فلما انقطعت الصلة بيننا وبين هذا الجو صرنا نجد هذه الكلمات غريبة عن اذهاننا وقلوبنا، فهي لا تضيء بصيرتنا ولا تنبه ذكائنا ولا تحرك خيالنا.
انظر مثلا الى (الحداء) وكيف اتصلت معاني الفعل من هذه الكلمة بكثير من الشعر والنثر وادت الخدمة الادبية في التعبير الحسن قبل الف سنة ولكن من يحاول استعمالها في عصرنا انما يستعمل كلمة من الاحافير اللغوية التي يجب ان يجد مندوحة عنها في استعارات وعادات عصرية تلابس مجتمعنا.

واللغة التي تلابس مجتمعنا هي لغة السوق والبورصة والمكتب والمصنع والنادي والبيت والجريدة والمجلة والمنبر والمدرسة. فصار لنا لغتان، لغة الفها المجتمع فبقيت حية لقيت العناية والاهتمام واخرى بقيت تعيش في وكس وضعف، كأنها تحفظ وتصان كما تصان لغة الكهنة في المعابد عند المتوحشين.

* مقتبس من كتاب البلاغة العصرية واللغة العربية للعلامة سلامه موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here