حبيبته سلمى

(بدل أن تكون مؤرخا للعطر، كن الزهرة التي تفوح منه، قال أحدهم. مدخلا كهذا ارتأيته بديلا عن ذكر سيد سيرة هذا المتن، أو إذا شئتم فلنسميه بذاك الذي حبيبته سلمى).

حاول أن يسير على خطى بعض الخطاطين العرب والعراقيين من قبلهم. ونزولا عند حماسه وإندفاعه راح يستعير بعض الكراسات ذات العلاقة من هنا وهناك. وعن ذلك وفي مرة من المرات إرتجى من أحدهم وقبيل توجهه الى اسطنبول لغرض لم يعد يتذكره، أن يستجلب له ما تقع عليه عيناه وتلتقطه في هذا المجال، وبشكل خاص ما كانت يدا الخطاط التركي الشهير حامد الآمدي قد إختطته، محاولاً مسك فنون الخط العربي وجماله من عليائه، إعتقاداً منه بقدرته عليه، غير انه وللأسف لم يفلح في ذلك وعلى النحو الذي حَلَمَ فيه، فما بين الرقعة والثلث وصولاً الى الكوفي، دَهرٌ من الوقت والتجربة والصبر والمراس المتواصل، لذا تجده وبعد فترة ليست بالطويلة وقد بدأ الملل يأخذ منه مأخذا وبالإتساق مع بعض الإخفاقات، والتي ستحول بينه وبين مواصلة رغبته. وللأسباب اﻵنفة قرر وبحسرة ترك محاولاته هذه وبشكل نهائي، ومن قبل بلوغه منتصف الطريق، على الرغم مما لاقاه من تشجيع ودعم من أطراف عدة، ومن تمكنه كذلك في تحقيق بعض النجاحات. ربما يكون طيب الذكر في ذلك قد إستعجل قرار مغادرته هذه الهواية، ولكن ما حيلتنا فاﻷمر عائد له بلا شك.

لم يتهاون أو يفقد الأمل، فالجمال وبواباته ليس لهما حدوداً ولابد من طرقها تباعاً، حتى يستقر قراره على إحداها، إبتداءاً من تلك التي يعتبرها الأقرب الى قلبه وقدراته، نزولاً الى ما سيليها تباعا، دون أن ينسى أو يغفل عما يميل لها عقله وعاطفته ورغبته، فالعمل الإبداعي بالنسبة له عالم واسع، رحب، متعدد اﻷجنحة، لا يتجزأ ولا يقبل القسمة أو التنافر أو التباعد، فبعضه يكمِّل بعضا، ومجالاته تتسع لكل ألوان الطيف السبعة وربما يفوق ذلك بكثير، ليصل الى ما هو أبعد من الخيال والتصور، ومن غير قيود، وفيه من ضروب الفن أشكالها.

وإنسجاماً مع ما فات وليس ببعيد عن إهتماماته السابقة وما كان يدور بخلده، وجد نفسه وقد أغوته فكرة العلاقة وحميميتها بالكتب القديمة، بنكهتها وعبقها الضارب بالتأريخ، بل وحتى الحديثة منها والتي تضم بين جنباتها ذلك الدفق العالي من المعرفة والحكمة. ومن شدة إرتباطه بها راح وبلغة العارف يُقلب بين راحتيه الدسم منها والثمين، وليكتشف ان ليس هناك من عائق يحول بينها وبينه، حتى تحولت بالنسبة له الى شاغل يومي، لذا ألفته متفاعلا معها، شبيها بذاك الذي يتعاطى مع أبنائه حين يولدون وحين يكبرون وحين يغفون على أيدٍ آمنة، فهي الأخرى أي الكتب، تستحق حقا الإحتضان والرعاية والحماية من شوائب ما قد يطرأ عليها من تغيرات، لتبقى محافظة على ألقها ورونقها، وعلى قيمتها وأثرها، لتكون مصدر سعادة وطمأنينة للقادم من اﻷجيال، ففيها من الخزين والجهد ما لا ينضب، ومن سطور ثمينة ليس لها قرار، كان قد خطَّها اﻷولون.

بخياره هذا إستقر أخيراً على ما كان قد سعى اليه وثابر وليعثر على ضالته وبعد رحلة من البحث المضني والممتع في آن والتي لم تدم طويلاً، وليعقد الصلة والوصل بينه وبين مهنة تجليد الكتب، مداعباً النفيس منها والقيّم وربما بدرجة أكبر مما يداعب حبيبته، بل هو لم يداعب يوما ما حبيبته فقد غادر وطنه مبكراً ومن قبل ان يلتقيها. ويقال، وهنا إختلف الرواة في أصل ما ذهبنا اليه، فمنهم مَنْ أكدها ومنهم مَنْ تردد في نفيها، والذمة فيما قلته ستقع برقبة مَنْ سرَّبَ ونقل وزْرَ هكذا معلومة، لذا والحالة هذه فأنا لست بكافر. في كل الأحوال فحدث من هذا النوع، أي فيما لو كان قد التقى فعلا حبيبته المفترضة، لهو محبب ومفضل عند الله ومبارك، لكن وللأسف الشديد فقد تصادف تعارفهما مع لحظة مغادرته وطنه أو نحو ذلك، لذا وفي بعض الجلسات الخاصة، لذا وفي بعض الجلسات الخاصة، كان يردد على مسامعنا وأحيانا يفرضها فرضا، بعض من أبيات شعر المتنبي، حيث يرى فيها ما يتطابق وحالته:

بأبي مَنْ وددته فافترقنا وقضى الله بعد ذلك اجتماعا

فافترقنا حولا فلما التقينا كان تسليمه عليَّ وداعا

ولو كان قد دخل حبيب سلمى عالم العشق وذاق مرارته وإن جاء من أضيق أبوابه، لكانت حياته وكما أجزم قد تغيرت وانقلبت رأسا على عقب، ولرأيناه مقاتلاً شرسا، همّاما، من أجل معشوقته، لِمَ لا وهو لم يجرّبُ حتى الساعة لوعة الحب. ولو سألتموني عما آلت اليهاﻷمور في ما بعد لقلت تا الله حسناً فعل، بل أتت على أحسن مايرام ونعم الخيار وصوابه، فسيعوضُ عن محبوبته التي فارقها مُرغماً ومن قبلُ ان يلتقيها ويضع اولى خطواته على قارعة الهيام، المحفوف دائما بالمخاطر وبهفهفة القلب وأوجاعه،سيعوضها بأخرى لا تقل جمالاً وبهاءاً وحضورا، عن تلك التي تركها في بلاده البعيدة.

المهم لنطوي هذه الصفحة ولنعود الى عالمه الذي أحبه وحرص على إتقانه وغاص فيه، فتجده وكلما فاض به الوقت، مقتعداً بين دفتي كتبه المفضلة، ليُفصِلََ ما بين غثها وسمينها، فكان له ما أراد وليعطي قصب السبق لأمهات الكتب، الخالدة منها على وجه ألخصوص، وكما رآها وأصاب في تخمينه، كالبيان والتبيين وبخلاء الجاحظ والجرجاني وابن الجوزي وصاحبه القريب الى قلبه إبن خلدون و و و و و. من ثم ألحقها مؤخراً بدواوين الجواهري والسياب وجيكوره، وكاد أن يقترب من سعدي يوسف والبياتي والملائكة نازك، غير أن الوقت لم يسعفه، فموعد مغادرته وطنه قد أزف، لكنه لم ينسَ ورغم ما أحيط به من ظروف وضيق في الوقت، ثلاثية نجيب محفوظ الرائعة والتي كانت قد نزلت للأسواق حديثاً وبطبعتها الجديدة، ليلتقطها بسرعة فائقة، ليشتغل عليها وبعجالة ويفرد لها أجود أنواع الورق الخاصة بالتجليد. وعند ذاك يكون صاحبنا قد أكملَ وإطمأنَّ على رسالته التي أراد إيصالها، ليخلص القول ويصدقه: لقد أحبَّني مَنْ شاء محبتي وحباني بهذه الهواية العظيمة، لأعضد وأثبت بها ومن خلالها متعة الروح ونزهته، ولألاقي من خلالها أوفى الاصدقاء وأعزهم الى قلبي ومهجتي، ذلكم هو الكتاب وأي كتاب.

حاتم جعفر

السويد – مالمو

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here