لا قيمة للحرية بدون أخلاق

إن الأخلاق.. هي حجر الزاوية في بناء أي مجتمع.. على وجه الأرض ..

وهي التي تضفي عليه صفة الرقي والتحضر .. وتسمه بسمة المجتمع الفاضل الكريم ..

وبدون أخلاق لا قيمة للمجتمع البتة ..

والأنبياء كلهم كانوا قبل تقلدهم مسؤولية الرسالة .. لتبليغها إلى الناس .. يتصفون بالأخلاق العالية .. والشمائل الحميدة .. وكانت سيرتهم في مجتمعهم حسنة .. مثل الصدق والأمانة .. والمروءة والشهامة .. والرجولة .. وإغاثة الملهوف .. ومساعدة المحتاج .. وإكرام الضيوف .. والسماحة في المعاملة .. وأدب الحديث .. واحترام الناس ..

وعلى هذا المنوال .. كان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم .. يتصف بالصدق والأمانة .. فكان قومه ينادونه بالصادق الأمين ..

وشهدت زوجته خديجة رضي الله عنها بأخلاقه السامية .. حينما جاءها خائفا من مشاهدة جبريل عليه السلام حينما نزل عليه في غار حراء.. بأول آية من القرآن ..

( فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا.. وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا.. إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ.. وَتَحْمِلُ الْكَلَّ.. وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ.. وَتَقْرِي الضَّيْفَ.. وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ) ..

ويؤكد هذا المعنى ما ورد في الحديث :

( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ ” . كَذَا رُوِيَ عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ ) .

ولكن للأسف أن الذي حصل في الثورة السورية ..

أنها بدأت بشكل عفوي .. وبإلهام رباني ..

فانطلق الناس.. وكان همهم الأوحد .. هو الانعتاق.. والتحرر من العبودية للنظام الأسدي .. والمناداة بالحرية ..

وكان معظمهم .. إلا من رحم الله .. يتصفون بالأخلاق السيئة الرديئة القبيحة .. التي كان النظام ومنذ 1970 يعمل كل جهده .. على زرعها في نفوس الناس .. وربى أجيالا عديدة على هذه الصفات الذميمة ..

ولذلك ..

منذ أن انطلقت الثورة في سورية.. قبل أكثر من ثمان سنوات.. كان الثوار ينادون بصوت مزلزل (سورية بدها حرية )!…

وكان المغني الشعبي الحموي ( قاشوش ) الذي لحن هذه الأغنية.. ورددها وراءه في ساحة العاصي بحماة مئات الألوف.. قد زلزلت عرش الطاغية زلزالا شديدا.. مما دفع بزبانيته.. وجنوده إلى قتله.. واقتلاع حنجرته.. انتقاما لما أصاب الطاغية من فزع.. وهلع ..

ولكن :

وبعد أن حصل بعض السوريين على شيء من الحرية.. سواء الذين خرجوا من سورية نازحين.. لاجئين.. مشردين.. أو الذين يعيشون في مناطق داخل سورية.. وخارج سلطة الطاغية .

استمرت معاملتهم لبعضهم البعض بغلظة .. وجفاء .. وخشونة .. وديكتاتورية واستبداد وطغيان .. وبأسلوب انتهازي وأناني.. مع حب الهيمنة والتسلط .. وإذاقة الآخرين أصناف الذل والهوان .. والاستعباد والتربص بالآخرين .. بالكيد والمكر السيئ .. وبدون أي وازع من دين أو خلق أو ضمير .. لسرقة ممتلكات الآخرين .. والاستهانة والعبث بها .. وتحطيمها وتكسيرها .. إذا ما سمح له قريبه او صديقه أو جاره باللجوء إليه .. واستخدامه للسكن والمأوى .. بسبب تهدم بيته ..

وتُروى قصص غريبة وعجيبة في هذا الخصوص .. تبين ..وتُظهر مدى الهوة السحيقة .. والدرك المنحدر .. الهابط الذي وصل إليه الناس .. من فقدان الأمانة .. وانعدام الضمير !!!

وفي نفس السياق تُروى قصص كثيرة مثيرة .. ومحزنة .. ومؤلمة عن جشع وطمع بعض التجار .. في رفع أسعار المواد التموينية .. مستغلين حاجة الناس إليها !!!

ناهيك .. عن قيام بعض العاملين في مجال الإغاثة .. بسرقتها .. وبيعها في السوق السوداء لحسابهم الخاص .. والإثراء على حساب جوع .. وعطش .. ومرض المشردين النازحين !!!

واكبداه .. وحر قلباه على :

الحقيقة الصادمة.. والمرة المريرة.. مرارة العلقم !!!

أن معظم السوريين الذين خرجوا من أقفاص العبودية.. وبمجرد أن تنفسوا شيئاً من الهواء النقي.. بدأوا يمارسون نفس أسلوب الطغيان.. والجبروت.. والقهر.. الذي كان يُمارس ضدهم..

وكأنهم يريدون أن ينتقموا لعبوديتهم.. من إخوانهم فيذيقونهم الكأس نفسها .. التي شربوا منها!!!

وتقول الحقيقة المرة المريرة..

أن الذي يتحرر من قيود العبودية.. وليس لديه ضوابط أخلاقية.. ولا رادع إيماني.. ولا زاجر قرآني.. ولا يلتزم بالأمانة التي أؤتمن عليها.. وليست لديه مراقبة لله في حركاته.. وتصرفاته.. ولا محاسبة لنفسه على جرائره.. وأخطائه.. وليس لديه خوف من المنتقم الجبار.. الذي يعلم السر وأخفى..

يصبح كالثور الهائج.. أو الذئب المفترس.. أو الوحش الضاري.. يخبط خبط عشواء.. هنا وهناك.. ولا يردعه عن تحقيق أهوائه.. وغرائزه شيء.. حتى ولو كان يتظاهر.. بأنه مسلم.. يذكر الله قياماً.. وقعوداً.. أو أنه من الثوريين النشيطين ..

الحرية جميلة.. ورائعة.. وفيها متعة.. وسعادة لا متناهية.. سواء للإنسان.. أو للحيوان.. أو حتى للنبات..

الحرية فيها بهجة.. ومسرة لكل كائن حي .

هل تصدقون أنه حتى أسنانكم في أفواهكم.. تشعر بالحرية حينما يتم خلع أحد الأسنان؟!

فما الذي يحصل؟!

تبدأ الأسنان المجاورة تأخذ راحتها.. وتنتعش.. وتفرفش بعدما كانت محصورة في قوس سني متماسك.. محصور في مكان ضيق.. فتتمايل الأسنان.. وتتغنج.. وتميل إلى هنا.. وإلى هناك..

وبما أنها ليست عاقلة.. وليس لديها ضوابط خلقية.. ولا دينية.. ولا فكرية.. فإنها تصبح في حالة فوضوية.. عشوائية.. تؤذي الأسنان المجاورة.. كما تؤذي جميع الأنسجة.. والأعضاء المحيطة بها ..

وهذا نموذج مصغر لما يشعر به معظم الناس في أسنانهم.. حيث أن معظمهم قد خلع سنا.. أو أكثر..

وبالتالي أعطى الحرية لبقية الأسنان.. أن تتحرك ذات اليمين.. وذات الشمال.. غير عابئة بما حولها.. وبما يجاورها من أخوات..

وهذا الذي.. يحصل الآن بالضبط عند السوريين المتحررين.. إلا ثلة قليلة من المؤمنين.. الصادقين.. العاقلين.. الواعين..

إذن سورية بجاجة إلى أخلاق تنظم هذه الحرية.. وتضبطها في قالب.. يحمي الجميع.. ويؤمن مصلحة الجميع..

بدون أخلاق.. وبدون إيمان.. وبدون أمانة يشعر بها الإنسان السوري.. ويحس بها.. ويتعامل مع الآخرين على أساسها.. تصبح الحياة جحيما لا يُطاق.. وغابة موحشة.. مرعبة.. مخيفة.. ينعدم فيها الأمن.. والأمان.. والسلام.. والحرية..

وصدق أمير الشعراء شوقي:

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ………………. فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا

قد يقول قائل: أنت كثيرا ما تقوم بعملية جلد الذات في مقالاتك..

أقول: إذا لم نتخلص من عيبونا.. ونتحرر من مساوئنا.. ونتنظف من أخطائنا.. فلن ننتصر على عدونا..

كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب:

نحن أمة لا ننتصر بالعدة والعتاد.. ولكن ننتصر بقلة ذنوبنا.. وكثرة ذنوب الأعداء..

فلو تساوت الذنوب.. انتصروا علينا بالعدة والعتاد…

لذلك ..

يجب علينا جميعا بعد محنة .. وعذاب .. ومرارة ثمان سنوات عجاف .. أن نعيد تأسيس مجتمعنا على الدين والأخلاق .. حتى تكون حامية للحرية ..

وما ينبغي ترديد أقوال المثبطين المنهزمين .. بأن هذا طريق طويل.. ويحتاج إلى زمن طويل.. ونريد شيئا على السريع!!!

لا يوجد في هذه الدنيا شيء على السريع ..

ولنأخذ عبرة وعظة .. من بداية نشوء الإنسان من نطفة .. في رحم الأم..

فإنه يحتاج لتكوينه بشرا سويا .. إلى تسعة أشهر ..

ثم بعد ذلك يحتاج إلى خمس عشرة سنة .. حتى يبلغ ويعقل ويدرك ما حوله ..

وكذلك يحتاج الطالب إلى ست عشرة سنة من الدراسة .. حتى يتخرج من الجامعة في أدنى التخصصات.. وقد يصل إلى عشرين سنة .. أو أكثر في تخصصات أخرى ..

فهكذا هي الحياة.. تحتاج إلى زمن مديد لبنائها ..

حتى أن الله جل جلاله .. قضى أن يخلق الكون في ستة أيام .. مع أنه يستطيع أن يخلقة بأقل من ثانية بقول: كن فيكون .. ولكنه أراد من ذلك أن يعلم البشر .. الأناة والحكم .. في البناء والتكوين والتصنيع .

( ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ ) .. السجدة 4 ..

الجمعة 16 رجب 1440

22 آذار 2019

د. موفق السباعي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here