نظرة في كتاب “الاقتصاد العراقي – الأزمات والتنمية للسيد الدكتور علي خضير مرزا الحلقة الثانية

د. كاظم حبيب

الحلقة الثانية

العراق الحديث.. التكوين

في هذه الحلقة سأتناول بقراءة متأنية الفصل الثاني من الكتاب الذي تناول فيه الباحث الدكتور علي خضير مرزا بصفحات قليلة وتكثيف شديد واقع الحالة السكانية في الولايات الثلاث، بغداد والبصرة والموصل تحت هيمنة السلطنة العثمانية ومن ثم المماليكية فالعثمانية، والتدخلات الإيرانية في الشأن العراق التي رافقت تلك الفترة، ومن ثم نشوء الدولة العراقية الحديثة. ويشير إلى واقع وجود البدو الرحل والفلاحين الذين شكلوا معاً نسبة عالية من إجمالي السكان في ظل علاقات مشاعية أبوية في الريف، بدأت تتحول تدريجياً إلى علاقات ملكية جديدة في فترة حكم مدحت باشا، ولكنها استكملت وتكرست في فترة الاحتلال البريطاني وصدور قانون العشائر عام 1916، ومن ثم قوانين ارنست داوسن في عامي 1932/1933 التي أطلق عليها بـ “قوانين تسوية حقوق ملكية الأراضي” بعدها بعقدين تقريباً صدرت قوانين أخرى، أي في عامي 1951 و1952، حول بيع الأراضي الأميرية التابعة للدولة والتي كُرَّست، بموجب جميع تلك التشريعات، علاقات الإنتاج شبه الإقطاعية الاستغلالية في الريف العراقي، حيث تم انتزاع الأرض من أيدي الفلاحين الفقراء ووضعت في أيدي شيوخ العشائر والمتعاقدين السابقين مع الحكم العثماني وتجار المدن والعائلات الميسورة. وخلال الفترة بين قوانين أرنست داوسن وقوانين 1951 و1952 وبسبب هذه القوانين، إضافة إلى عوامل أخرى مهمة، منها الفقر المدقع وغياب الخدمات ومنها التعليم، برزت بوضوح مؤشرات نزوح المزيد من الفلاحين من الريف إلى المدينة من جهة، ونزوح البدو الرحل من البادية إلى الريف من جهة ثانية. ثم تسارعت عملت النزوح من الريف إلى المدينة في اعقاب ثورة تموز 1958، مما أدى إلى استمرار عمليات بروز أحياء أو مدن جديدة عشوائية رثة في أطراف المدن الكبيرة، ولاسيما العاصمة بغداد. ويشير الباحث بوضوح وصواب إلى حصول تحول جديد في نزوح معاكس من المدينة إلى الريف بعد عقود من السنين بسبب الحروب والحصار الاقتصادي الدولي والعودة إلى التكافل العشائري للخلاص من الكوارث التي حلت بالعراق خلال العقد الأخير من القرن العشرين وما بعده بشكل خاص. لقد ساهمت العلاقات شبه الإقطاعية وقانون العشائر لعام 1916 وتعديلاته القليلة إلى تعريض الفلاحين إلى المزيد من الاستغلال والقهر الاجتماعي، وإلى السعي للهروب من الريف إلى المدينة، ولاسيما بعد أن توفرت نسبة أكبر من إيرادات النفط للخزينة العراقية وبدأ الحكومات المتعاقبة بإقامة بعض المشاريع الصناعية ومشاريع الخدمات العامة التي تطلبت المزيد من الأيدي العاملة، وبالتالي هجرة المزيد من الفلاحين. ورغم مطالبة المجتمع بالإصلاح الزراعي، فأن الحكومات الملكية المتعاقبة أغلقت أذانها طويلاً ثم جاء خطاب نور السعيد في العام 1956 الذي أثار المجتمع وقواه الديمقراطية والذي عرف بالأهزوجة (الهوسة) “دار السيد مأمونة” التي هزج بها من دار إذاعة بغداد، ثم طرح مشروعه للقضاء على الإقطاع، الذي تسنى لي تسجيله خطياً حين كنت مبعداً سياسياً في قضاء بدرة الحدودي مع إيران بعد قضاء فترة الحكم بالسجن، لإعدان نشرة أخبار للمبعدين، جاء فيه: إن القضاء على الملكيات الكبيرة يتم في الفترة القادمة بسبب الزوجات المتعددة لشيوخ العشار وملاك الأراضي حيث يولد لهم الكثير من الأبناء وعند موته تتوزع تلك الأراضي على الأبناء، وكذا أبناء البناء فنقضي على الإقطاع! ولكن لم تكن دار السيد مأمونة ولا النظام الملكي شبه

الإقطاعي كان قادراً على الصمود بوجه انتفاضة الجيش 1958 والسعي لتحويلها إلى ثورة بإجراءات ثورية وإصلاحية ديمقراطية، من ضمنها قانون الإصلاح الزراعي.

في بحثه عن التنوع السكاني والعقد الاجتماعي والحوكمة يشير الدكتور علي مرزا إلى الرأي التالي القائل بتعرض العراق الجديد “إلى مخاطر هددت سلامة ووحدة اراضيه. وتكررت هذه المخاطر بدرجات عنف مختلفة أكثر من مرة”. (أنظر: مرزا، ص 32). ويرى بصواب بعكس من يرى إن السبب وراء ذلك يكمن في “كيان العراق المصطنع” الذي قررت اتفاقية سايكس بيكو 1916 وما بعدها من معاهدات استعمارية إقامته، بل في غياب العقد الاجتماعي/السياسي وغياب الحوكمة الرشيدة في البلاد. (قارن: مرزا ص 32). لم يتوسع الباحث في هذا المجال، رغم تشخيصه الصائب للمعضلة التي تواجه العراق بسبب هذا التنوع وأسلوب التعامل معه. وأجد من المناسب أن أتوسع بهذه النقطة المهمة التي أشَّرها الزميل مرزا، وهي واحدة من مهمات القراءة المتمعنة في الكتب.

من السمات البارزة التي يتميز بها العراق، إن أُحسن الاستفادة منها، وجود تنوع السكاني باتجاهات ثلاثة:

** التنوع القومي حيث وجود العرب والكرد، ومنهم الكرد الفيلية، والكلدان والآشوريين والسريان والتركمان والفرس يعيشون في هذه المنطقة منذ قرون؛

** التنوع الديني والمذهبي حيث يقطن العراق مواطنات ومواطنون مسلمون، شيعة وسنة بمذاهب عدة، ومنهم الشبك، ومسيحيون بطوائف عديدة، ويهود حتى أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، وصابئة مندائيون وإيزيديون وكاكائيون وبهائيون وزرادشتيون؛

** التنوع الطبقي، حيث تطورت في العراق وتغيرت عبر السنين أوزان الطبقات أو الفئات الاجتماعية العراقية وبشكل خاص: فئات الفلاحين وكبار ملاكي الأراضي الزراعية والمستحوذين عليها، بينهم تجار وشيوخ عشائر، وبرجوازية تجارية، وفئات من البرجوازية الصغيرة كالكسبة والحرفيين والمثقفين، ومن ثم الطبقة العاملة قبل ومع نشوء البرجوازية الصناعية وتطورهما البطيء، إضافة إلى أشباه البروليتاريا، وهم في الغالب الأعم تلك الفئات النازحة من الريف إلى المدينة والتي كانت تعيش على هامش حياة المدينة والاقتصاد.

ويضع الكاتب أصبعه على المشكلة الرئيسية في المجتمع العراقي التي نشأت بسبب “غياب أو توافق عقد اجتماعي/سياسي جامع، ونتيجة لتفاعل عوامل متعددة اقتصادية وسياسية واجتماعية، نشأت معضلة وتفاقمت بمرور السنين”. (أنظر:مرزا، ص 34). ويرى إن المعضلة ناشئة بوجهين أ. “عدم التوصل إلى تطبيق حوكمة governance جامعة تحظى بقبول كافة المكونات مما أدى بالنتيجة إلى استمرار توتر/خلاف..”، وب “منذ أواخر السبعينيات اتسمت كفاءة استخدام العوائد النفطية بالتواضع: من خلال أنفاق جزء كبير منها على نزاعات خارجية …”. (اأنظر: مرزا، ص 35).

في هذا التحليل السليم يقفز الكاتب على مرحلة طويلة من السنين التي تميزت بسوء الحوكمة من جهة، وبسوء استخدام الموارد المالية رغم شحتها، أي الفترة الواقعة بين 1921-1951 من جهة أخرى، إضافة إلى الفترة اللاحقة. إن أهمية الإشارة الموسعة لهذه الفترة تكمن في كونها كانت الأساس الخاطئ وغير العقلاني في بناء الدولة العراقية وما بني عليه لاحقاً كان الأكثر بعداً عن العقلانية والحوكمة الرشيدة، بما في ذلك التجاوز الفظ على القانون الأساسي وتزوير الانتخابات وتفاقم البطالة والفقر وتغييب الحريات الديمقراطية وإعلان متكرر للأحكام العرفية في البلاد.

لقد برزت المشكلات الكبيرة مع وضع القانون الأساسي (الدستور) لعام 1925، والتوقيع على منح امتياز النفط في ذات الفترة تقريباً، وعقد معاهدة 1930 بجوانبها العسكرية والقانونية والمالية وبروتكولاتها السرية، ومن ثم طريقة إلحاق ولاية الموصل بالعراق عام 1926، وعدم إيفاء الحكومة الملكية بما اتفق عليه مجلس عصبة الأمم مع الملك فيصل الأول والحكومة العراقية من التزامات بشأن حقوق الكرد.

فالدستور العراقي كرس مسائل خاطئة منذ البدء حين أشار إلى إن الإسلام هو دين الدولة الرسمي، وبالتالي ميز في موقف الدولة من الأديان الأخرى وأتباعها، في حين إن الدولة ليست سوى شخصية اعتبارية (معنوية) لا دين لها، وبذلك أوجد الأرضية لممارسة التمييز إزاء أتباع الديانات والمذاهب الأخرى. وهنا لم ينشأ التمييز إزاء أتباع الديانات الأخرى فحسب، بل ونشأ معه التمييز أزاء أتباع المذهب الشيعي، بسبب اعتبار الدولة مسلمة على وفق المذهب الحنفي، مما دفع شيوخ الدين الشيعة إلى مقاطعة الدولة وسلطاتها الثلاث ولسنوات عديدة، مما عمق الخلافات الطائفية في المجتمع التي كانت قد تفاقمت في فترة الحكم العثماني والصراع العثماني الفارسي. كما إن القانون الأساسي قد ميَّز اللغة العربية عن باقي اللغات باعتبارها لغة الدولة الرسمية، في حين يتشكل العراق من إقليمين عربي وكردي أولاً، كما يتكون المجتمع من قوميات عدة، ولاسيما القومية الثانية، هي القومية الكردية من حيث النفوس بعد القومية العربية ثانياً، إذ كان المفروض أن يأخذ المشرع بالاعتبار وجود الكرد في إقليم كردستان ويقرر استخدام اللغتين.

كما إن القانون الأساسي قد اعتراف بقانون العشائر الذي وضعته إدارة الاحتلال البريطانية في العراق منذ العام 2016 لتكسب إلى جانبها شيوخ العشائر، بحيث أصبح هذا القانون مرادفاً للدستور العراقي في تعامل مزدوج في غير صالح المجتمع المدني الذي جسدته الكثير من بنود القانون الأساسي. كما تجلى التمييز في عملية البناء والتعمير منذ أن بدأت الحكومة بوضع برامجها التنموية والتي لم تنفذ في الغالب الأعم وتوقفت في فترة الحرب العالمية الثانية والتي برز فيها التعامل الهامشي مع الألوية المتخلفة أصلاً والتركيز على بعض المدن مثل بغداد والموصل والبصرة. وكان لسلطات الاحتلال البريطاني دورها البارز في إعاقة تنفيذ برامج تنموية في العراق، ولاسيما في مجال التصنيع والذي سنتطرق له أثناء قراءة الفصل التاسع المكرس للصناعة الوطنية في العراق.

حين برزت المشلات القومية والدينية والمذهبية والاقتصادية، بضمنها الفلاحية، في الثلاينيات من القرن العشرين وبعد إلغاء حكم الانتداب لم تمارس الحكومات العراقية المتعاقبة، وبدعم مباشر من المستشارين البريطانيين في الوزارات العراقية والسفارة البريطانية، سياسة عقلانية تعتمد الحوار والنفس الطويل لمعالجة وحل المشكلات، بل استخدمت العنف المفرط والقوة المسلحة حيث أشركت الجيش والشرطة في قمع الحركات السياسية وطمس الخلافات وكأنها غير موجودة! نشير هنا على سبيل المثال لا الحصر مجزرة سهل سميل ضد الآشوريين في العام 1933، أو ضد الإيزيديين الذين رفضوا الانخراط في القوات المسلحة في ذات الفترة تقريباً، أو حركات الفرات الأوسط الفلاحية والعشائرية في العام 1935. وقد أدى كل ذلك إلى نشوء أجواء سياسية متوترة قادت إلى وقوع انقلاب بكر صدقي العسكري عام 1936، ثم انقلاب مايس القومي 1941 وإلى تنامي الحركات الكردية السياسية والعسكرية في النصف الأول من العقد الخامس من القرن العشرين، إضافة إلى الوثبة والانتفاضات في أعقاب الحرب العالمية الثانية. إن كل هذه الأحداث قد رفعت من درجة التوتر والخلاف التي أشار إليها الزميل الدكتور علي مرزا والتي لم يشر إلى طابعها السياسي/القومي والاجتماعي مباشرة، ولكنه جمعها بصواب بـ “عوامل اقتصادية وسياسية واجتماعية”، تعبر بجملتها عن غياب الحوكمة الرشيدة وعن عدم وجود عقد

اجتماعي/سياسي متفق عليه بين مكونات المجتمع. ويبدو إن الجهد الحكومي كان منصباً، كما شخص ذلك الملك فيصل الأول وعمل من أجله على “أمل واهم” هو إقامة “أمة عراقية” من قوميات متعددة، على طريقة الوهم السائد لدى شيوخ الدين المسلمين بوجود “أمة إسلامية”، وبسبب ذلك يرفضون الاعتراف بالقوميات وحقوقها والحق في تقرير المصير. لو تميزت سياسات سلطات الدولة الثلاث بالحياة الدستورية والحريات الديمقراطية واحترام القانون الأساسي، لكان بالإمكان وضع عقد اجتماعي-سياسي يؤمن التفاعل والتلاقح الثقافي بين القوميات ويمنحها في الوقت ذاته حقوقها المشروعة والعادلة ضمن الدولة الملكية العراقية. وهو الذي لم يحصل!

منذ خمسينيات القرن الماضي، ومع تشكيل مجلس ووزارة الإعمار بالارتباط مع تنامي إيرادات العراق النفطية، بسبب المناصفة في إيرادات النفط الخام المُصَدر، بدأ حراك نسبي مهم صوب القطاع الصناعي شاركت فيه الدولة والمصرف الصناعي والقطاع الخاص، مما ساعد على زيادة الحاجة إلى الأيدي العاملة وإلى ارتفاع عدد النازحين من الريف إلى المدينة، بالرغم من قانون العشائر وملاحقة الشرطة للفلاحين النازحين بذريعة وجود ديون في رقبتهم لكبار ملاك الأراضي. وقد ساهم ذلك في تحسين التناسب بين عدد سكان الريف والحضر لصالح الحضر، لا في المدن الكبيرة فحسب، بل وفي بعض المدن الأخرى. واتسع هذا الاتجاه في أعقاب ثورة تموز 1958 حيث توجهت حكومة عبد الكريم قاسم صوب عقد اتفاقيات واسعة مع الاتحاد السوفييتي وتشيكوسلوفاكيا عام 1959 لنشر مجموعة من المصانع في بغداد وفي مدن أخرى. كما ساهم في ذلك قانون الإصلاح الزراعي الديمقراطي البرجوازي الذي لم ينفذ كما ينبغي ولم تكن الحكومة تمتلك رؤية واضحة لما تريد فكانت تقف بين “مدينتي نعم ولا” حائرة مما دعا الدكتور علي مرزا أن يكتب بصواب “فنتيجة لتطبيق قانون الإصلاح الزراعي وما تبعه من انهيار العلاقة بين الفلاح ومالك الأرض التي تواجدت قبل 1958، والتي لم تستبدل ببديل مناسب، تعرض الإنتاج الزراعي لانخفاض قلل الحاجة للأيدي العاملة في الريف.” (أنظر:مررزا، ص 38). إن المشكلة الكبيرة في علاقات الإنتاج شبه الإقطاعية تبرز في الابتعاد الكلي من جانب ملاك الأراضي الكبار عن استخدام وتوظيف الريع المتحقق في الزراعة في الإنتاج الزراعي من خلال تحسين تقنيات واساليب ووسائل الإنتاج الحديثة، بل في الغالب الأعم كانت تستخدم وتستهلك أو تكتنز من جانب المستحوذين على الريع الزراعي في المدن، مما كان يقود إلى الفقر وضعف إنتاجية العمل للفرد الواحد. وكان يدفع بأصحاب الأراضي إلى التوسع في استخدام الأرض الزراعيةبدلاً من التقنيات الحديثة وللتعويض عن النقص في مقدار الغلة في الدونم الواحد، وهو ما يشير إليه بصواب الباحث، بحيث أدى إلى ارتفاع في إنتاجية العمل افقياً وليس عمودياً وإلى توفير كمية مناسبة للتصدير. (اأنظر: مرزا، ص 39).

لقد شهد القطاع الزراعي تحسناً ملموساً في السبعينيات من القرن الماضي لثلاثة أسباب جوهرية هي: 1) صدور قانون الإصلاح الزراعي الثاني رقم 117 لسنة 1971 بمواد جديدة ومهمة رغم عدم تنفيذها الفعال في المحصلة النهائية، و2) تنفيذ عمليات الري والبزل الجديدة وغسل التربة وتخليصها من الملوحة، و3) تأمين المزيد من محطات تأجير المكائن الزراعية وبأسعار مناسبة. إلا إن هذه العملية لم تستمر طويلاً، أذ كانت الحرب العراقية الإيرانية ومن ثم غزو واحتلال الكويت وحرب الخليج الثانية ومن ثم الحرب الخليجية الثالثة. واليوم يعيش الريف العراقي أزمة فعلية بسبب تسلط العلاقات العشائرية مجدداً على حياة الريف والزراعة العراقية والتي تنعكس أيضاً على حياة المدن، ولاسيما المدن الطرفية. وكم كان الدكتور علي مرزا محقاً حين اشار إلى إن بعض الكُتّاب يشيرون إلى واقع “ترييف المدينة”، وهي مرتبطة عضوياً بقانون العشائر الجديد وطبيعة الدستور العراق الجديد الذي أقر في العام 2005. ويبدو لي بأن العراق منذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين بدأ يعيش تدريجاً، ولكن بتصاعد وتفاقم، ردة فكرية واجتماعية وسياسية شديدة الفاعلية وجدت

تعبيرها في التخلي الكلي عن المجتمع المدني وعن التصنيع وتحديث الزراعة، وهي إشكاليات تساهم فيما أطلق عليه بـ “ترييف المدينة”. كما إن سوء توزيع واستخدم موارد النفط الخام، أو بتعبير أدق، سوء توزيع وإعادة توزيع الدخل القومي واستخدامه، كلها عوامل تقود إلى مزيد من المخاطر التي تهدد العراق لا في تطوره وتقدمه فحسب، بل وفي وحدته.

يشخص الدكتور علي مرزا بصواب جملة من المخاطر التي تفاقمت خلال العقود الأخيرة. والتي كما تبدو لي ناشئة عن أسباب جوهرية ارتبطت إما بنظام سياسي أستبدادي وشوفيني وتوسعي مارس سياسات تميزت بالقسوة والعنف والحروب الداخلية والخارجية وبالفساد والتفريط بأموال المجتمع، أو بنظام سياسي طائفي فاسد، متخلف وضعيف. ويبدو لي إن الباحث قد جمع كل ذلك في النص المهم الأتي الوارد في النقطة الرابعة من الكتاب حيث كتب: “ويشير بعض الكتاب إلى “ترييف” المدينة خلال فترات العقود الثلاثة الماضية، أي تصاعد القيم العشائرية على حساب قيم “المدينية” في المدن نفسها.وكان هذا التطور نتيجة لإبراز وتصعيد البعد اعشائري لأهداف سياسية و/أو عسكرية، كما في فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وامتد ذلك لما بعد 2003. فأثناء الفترة 2005-2009، وخاصة 2007/2009، حُفّزِت عشائر الوسط الأعلى لتشكيل مجموعات قتالية (من خلال مجالس الصحوات) للمساهمة في دحر تنظيم القاعدة الإرهابي. ونتيجة لضعف السلطة التنفيذية الرسمية والمجتمع المدني، عموماً، ينقل عن وجود مجالس عشائرية في المدن، ومن ضمنها بغداد، لحل بعض النزاعات التي تنشأ بين الأفراد والجماعات خارج القنوات الرسمية”. (أنظر: مرزا، ص 40). ولا بد هنا أن استميح الكاتب عذراً في أن استكمل هذه اللوحة الخانقة بالإشارة الواضحة إلى الوجود المخل والمشين للمليشيات الطائفية المسلحة التي تلعب دوراً كبيراً وسيئاً في الساحة السياسية والاجتماعية في العراق، كما تضعف إلى أبعد الحدود دور الدولة وسلطاتها الثلاث، بل وتحل محلها وتزيد عليها، إضافة إلى أنها تؤرق وتؤذي المجتمع، لاسيما وأنها جميعاً تعود لأحزاب سياسية إسلامية طائفية من حيث النهج والسياسة والممارسة، و/أو ترتبط بدول الجوار العراقي.

انتهت الحلقة الثانية وتليها الحلقة الثالثة نظرة في الفصل الثالث: السكان وقوة العمل

28/03/2019

تنويه: حصول خطأ غير مقصود

حصل خطأ في مقالي الموسوم “نظرة في كتاب الاقتصاد العراقي- الأزمات والتنمية، الحلقة الأولى، المدخل، حين أشرت إلى إن السيد الدكتور علي خضير مرزا كان استاذاً جامعياً في ليبيا، إذ كتب لي الزميل الفاضل مشيراً إلى أنه لم يكن كذلك، لذلك وجدت مناسباً التنويه لهذا الخطأ والاعتذار للكاتب والقراء في آن واحد. كاظم حبيب

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here