رأينا في العدل الجزء الأول

الكلام عن – العدل – والبحث فيه بحد ذاته مُخاطرة وأيةُ مخاطرة لذلك يستوجب البحث فيه وعنه المزيد من الحذر والدقة والتأني ، لأن البحث هو رحلة في الكشف عن خبايا المادة وعن مفهومها ومعناها ، في ظل التناقض والتساؤل والتفاوت الغالب في الحياة وفي الطبيعة والمجتمع ، كما إن الكتاب المجيد لم يُقدم لنا أسماً لهذه المادة ولا مصدراً لها ، إنما ترك المجال لنا للإشتقاق والتوظيف من الصفة والفعل ودعانا للتعامل معاهما ، ولهذا تبدو مهمتنا ليست سهلة فيما لو أتخذنا أحكاماً أو أستنتجنا قواعداً نبني عليها ، وبما إن الجدل المعرفي يدور حول المضمون الفلسفي و الكلامي ، وما يشتق منهما من معاني وتراتبية وأحكاماً .

إن الإفتراض القائل إن العدل منهج في البحث الكلامي ، إفتراض صحيح هذا إذا نظرنا للأمر من وجهة ماهو بالفعل من سيادة الكلامية وسطوتها في الأصول والفروع الدينية المُتبعة ، وفي الكلامية أيضاً نتج القول التالي : ( إن الصفات عين الذات ) ، وجر هذا القول ليكون أساسياً في بعض المدارس ، وليُقال : – إن الصفات هي الأسماء حين تُنسب إلى الذات الإلهية – ، جاعلين من هذا القول أصلاً كلامياً يساوي في درجة المعنى والقيمة له بين التوحيد والمعاد ، وتداركاً من الخشية المعرفية تبنوا مقولة – اللطف – كمبدأ وكهبة من الله ، والحق إن هذا التدارك ليس دقيقاً ولكنه صار غالباً بفعل ( الكلامية السياسية ) وليس الكلامية العقلية أو المنطقية ، ومن هنا كان لا بد من التوضيح والبيان فثمة ما يحتاج للتصحيح والموافقة بين عالمي التكوين والتشريع ، والمزج بينهما والتأسيس على ذلك واحدة من المخاطر التي سننوه عليها في تلابيب البحث ..

ولكن ما معنى العدل ؟

وللجواب نقول : العدل في اللسان العربي يأتي بمعنى : – ضد الظلم – ، قال تعالى : – [ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل .. ] – النساء 58 ، وقال تعالى : – [ وإذا قلتم فأعدلوا ] – الأنعام 152 ، ومنه قيل هو : ( القصد في الأمر ) – ، قال أبن منظور : – والعدل ما قام في النفوس أنه مستقيم – ، أي إنه ( غير ذي عوج ) وإلى ذلك أشار إلى مفهوم التسوية والتعديل بقوله تعالى : – [ هو الذي خلقك فسوآك فعدلك ] – الإنفطار 7 ، ومنه الإعتدال والمساواة بل وحتى الوسطية ، في إشارة إلى قوله تعالى : – [ وأقصد في مشيك وأغضض من صوتك .. ] – لقمان 19 .

وجاء في الأثر قوله : – وأما العدل فهو وضع الشيء في موضعه – ، من غير تقديم ولا تأخير ولا زيادة ولا نقصان .

ولم يرد اللفظ في الكتاب المجيد بصيغة الأسم أو أسم الفاعل – عادل أو العادل – كما هي العادة الجارية في أسمائه الحسنى الأخرى التي نقرئها في الكتاب ، ولكن ورد اللفظ في صيغة الفعل – أعدلوا أو تعدلوا – ، و في صيغة الصفة أو الصفة المشبهة على نحو – العدل أو بالعدل – ، ، واللفظ لا يكون أصيلاً إن لم يكن مصدراً والمصدر أبلغ في الدلالة وفي التعريف ، قيل : ومن العدل أشتقت العَدالَةُ والتي هي : – ملكة جامعة إن حصلت للفرد فيكون المتصف بها أو الموصوف جامعاً للفضائل والقيم – .

أقول : ولا يبعد المفهوم اللغوي للعدل عن المفهوم الإصطلاحي كثيراً ، وفي المفهوم العام أعتُبر العدل من المبادئ الوجودية السامية ، لأنه يُحصن الفرد والمجتمع من الظلم إن عُمل به ، ومن خواصه إنه لا يكون متعيناً العدل ليست بفرد خاص من أفراد عالم الوجود دون سوآه لكي يكون معلوماً ، بل هو يفيد

العموم سواء في معناه أو في تطبيقاته ، وإن كان اللفظ لم يرد مباشراً في عالم التكوين ، وإنما وردت الصفة المتبوعة على نحو إشتقاقي كما في قوله تعالى : – { والسماء رفعها ووضع الميزان } – الرحمن 7 ، ويُفهم منه إن لفظي – رفع و وضع – أتيآ في السياق دلالة وإشارة على حالتي التوازن و التعادل في نظام الكون والطبيعة ( وهو مقتضى العدل ) في الصفة والفعل ، والتوازن والتعادل شرطين موجبين ومسبقين في صحة النظرية الفيزيائية المادية للكون ، وعلى هذا ورد التأكيد في سياق الأثر قوله : – ( بالعدل قامت السماوات والأرض ) – أنظر التفسير الكبير للرازي ج 5 ص 346 ، والقياس في ذلك يشبه كثيراً ما بُني عليه عالم التشريع حسب قاعدتي ( الحقوق و الأولويات ) .

وأصل القياس هذا ( مبدأ الخاصة الذاتية ) ، وهو مبدأ فلسفي أقيم على أساس قاعدة التقابل بين الوجود والعدم ، و منه جاء قياس البرهان عن مبدئي الخير والشر ،

وقد آمن بذلك مثاليوا الفلسفة الأغريقية القديمة ، فهذا بوليمارخس مثلاً قد عَّرف حد العدالة بأنه : ( ما يرد للإنسان ما هو له ) ، ولكن ماذا تعني عبارة – ماهو له – هل تعني المتعلق بتمام الحق لكي يُرد إليه ؟ ، أم إن المُراد به ما يُرد إليه من كل الحق ؟ ، أو إنها تعني طبيعة الحق من حيث هو أو المتوقف على طبيعة العلاقة بين المتعاملين ؟ .

وصيغة – بين المتعاملين – وردت في سياق الإشارة للنقيضين ، ( الأصحاب و الأعداء … الأخيار والأشرار ) .. وهكذا ، ولفظ الأصحاب في صيغة الأسم الفاعل وردت من صحب ، والدالة على معنى ( الخاصة ) كأصحاب الجنة في قوله تعالى : – ( .. ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم .. ) – الأعراف 46 ، وأصحاب الحجر في قوله تعالى : – ( .. كذب أصحاب الحجر المرسلين ) – الحجر 80 ، إذن فالوصف يحتمل الإيجاب ويحتمل السلب ، ( وقيل الأصحاب بالألف واللام هم خاصة

الرجل الذين يعتقد فيهم الصلاح والأمانة ) ، والجمع المُحلى – الأصحاب – لغةً يُراد به العموم ، وأما الصحبة من حيث هي هي فلا تدل على الصلاح والأمانة ، لأنها في الأصل تدل على مجرد الرفقة في المكان أو في الطريق وخلافه ولمدد متفاوتة ، وهذا الأصل يبطل ما ذهب إليه الخبر التالي : ( أصحابي كالنجوم بأيهم أقتديتم أهتديتم ) من الحجية والإعتبار ، وبنفس الإعتبار يبطل الرأي القائل – عدالة الصحابة – .

ولو سلمنا جدلاً في صحة شرط – الأمانة والصلاح – فهذا لا يكون من الملازمات الذاتية لشخصية الصاحب ولا يعني ، والتسليم بهذا يقودنا للقول ( بعصمة الصحابة ) وهذا خطأ بيَّن ، لأن ذلك يترتب عليه : – أن يكون لهم ما لا يكون لغيرهم – ، وهذا التوجيه مغالطة منطقية وعقلية ، ثم إن إطلاق مفهوم – العدالة – على جماعة من الناس بعينها ، سيؤدي حتماً إلى توالي فاسدة وهذا ليس من العدل المحكي عنه ، كما إن الإيمان بذلك يجرنا إلى مضرة أكبر ، تشمل الجميع حتى الصالحين منهم .

ومن أجل تصويب المعنى نقول : ( إن من البداهة إنتفاع الأصحاب الأمناء والصالحين من العدالة ) ، ولكن ما أهمية هذا التقسيم الإيحائي للناس إلى صالحين وأشرار ؟ ، طالماً نعرف إن ضرره سيكون أكثر من نفعه ، والمبالغة بالتقسيم وفقاً لذلك الإعتبار سيجعل من الأشرار أكثر شراً ، وهذا ضد العدل ..

ولكن ماذا لوكان العدل في خدمة الأقوياء ؟ .

الأقوياء : جمع قوي وهو جمع مُحلى ، ويصح في الوصف مبالغة وتفضيلاً على أساس الكثرة في القدرة والنفو ذ ، ودلالة معنى – الأقوياء – مختلفة بحسب الوضع الزماني والمكاني :

فمنهم من قال : – هم رجال السلطة والحكم – .

ومنهم من فال : – إنهم رجال المال والثروة من أصحاب البنوك والشركات الرأسمالية –

.

وهناك من قال : – إنهم المرتزقة من رجال الدين والكهنة والوعاظ – – .

والحق يمكننا إعتبار هؤلاء جميعاً ، المؤتلفين ضمن هذا الحلف الثلاثي القائم بين – رجال المال ورجال الحكم ورجال الدين – فهؤلاء هم أهل السطوة والنفوذ ، والعدالة في أغلب المجتمعات قد جُعلت من أجل هؤلاء و من أجل تحقيق مصالحهم ، أقول هذا من وحي هيمنة هذا – الحلف الثلاثي – على صناعة القرارات والقوانين وتنفيذها ( فهم من يصنعون القوانين وهم من ينفذونها ) ، بحيث يكونون هم جهة الإدعاء والحكم وجهة الدفاع في آن معاً ، أي هم الجهة الممثلة للعدالة والناطقة بأسمها ، ومتلازمة – الحلف الثلاثي – موجودة على طول الخط في الماضي والحاضر ( وفي قصة فرعون وهامان وقارون خير مثال ) ، والمُشار إليها بهذا التعاون والعمل المشترك بين هذه الفئات ، وعالمنا يشهد إن الحق يدور مع رأس المال حيثما دار إيجاباً أو سلباً .

هذا القول يقودنا للتعرف : عن مدى خطورة هذا التوصيف ، الذي يجعل من الناس خدماً وعبيداً لهذا الحلف فتفقد العدالة مضمونها ومعناها ، فالحكومة بكل تفاصيلها ليست مقدسة ولا معصومة أو إنها لا تفعل ولا تقوم بأفعال ليس فيها خطأ ، وليس هناك حاكماً في الأرض لا يخلط في قضاياه و رغباته الخاصة وبين حاكميته ؟ ، ولا توجد حكومة في العالم تسن القوانين دائماً لمصلحة الشعب ، كما إن المشرع وجهة التشريع فيها ليست مقدسة لدرجة بحيث لا يجوز عليها الخطأ ، وفرق كبير بين تشريع القوانين وسنها وبين مفهوم الطاعة ودواعيها .

وفي هذه الفقرة بالذات ذهب بعض من فلاسفة الإسلام مذهباً مثالياً ، حين

جعلوا من فن الحكم مقدساً في ذاته مما يستوجب الإنقياد إليه وطاعته ، يأتي هذا من معنا مثالي يدور في فلك ( إن الحكومة إنما تقيم أحكامها تبعاً لمصالح المحكومين جميعاً ) ، حسب نظرية الراعي والقطيع وهي نظرية موغلة في القدم ، وهي قائمة بالفعل على ما يقوم به الحكام ، حتى شاع في التاريخ الإسلامي ذلك القول السيء عن معنى إطاعة الحاكم : – [ وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك ] – !! ، فالضرب والتعدي هنا حرره الفكر المثالي تحت بند المصلحة ، في الحماية والأمن والإستقرار والنظام ، وقالوا : – يكون التعدي أفضل وأنفع من العدالة – ، حال تكون العدالة تضييع للحقوق .

ولكن هذه الفكرة السلبية والتي تبرر الظلم ، تذهب مذهباً في جعل المصلحة مرتبطة بهذا الحاكم ، وكأن الحاكم هو من يهب للناس الرزق والعيش والحياة ، ناهيك عن أن الضرب ليس فيه مصلحة ، ولا دليل على أن الضرب من حيث هو عمل يرتبط بإستتباب النظام والأمن ، والفكرة وردت مجردة من ضميمة مفهومية تقول : ( إن أصل تولي الحاكم للحكم لم يكن بإرادة شعبية ، إنما كان بالغلبة والسيف والقهر ) ، فكيف تصح طاعته والتسليم لأحكامه ؟ .

إن مفهوم الدمج بين العدل والظلم تحت مسمى ( العدالة فطرة صالحة والتعدي سياسة حسنة ) ، ذهبت بنا لتبني مقولة – العادل المستبد – التي ظهرت لدى فئة من الإنتهازيين والوصوليين المروجين والمبررين لغلظة حكم الخليفة عمر وشدته المفرطة ، التي بررها القوم على أنها بمثابة العدل الذي ينصف الجميع ، فأستخرج من فمهم كلاماً يقود إلى معنى قولهم : ( إن الظلم بالسوية عدل ) ، وهذه محاولة لخديعة الناس في جعل ما يفعله الظالم إنما هو في سياق العدالة العام .

تدعي الميثولوجيا الدينية إن خدعة الظالم هذه تأتي من خلال التبرير الطوباوي عن جهات العدل الأربعة ، معتمدين على تمويه مرده إلى القول التالي : – إن كل ذي فن قادر على غلبة غيره فيه – ، والغلبة من جهة الوعي وجهة تحريك الدلالات في غير محلها ( كالخدع البصرية التي تنطلي على غير أهل هذا الفن ) ، فالمروجين لفكرة – الظلم بالسوية

عدل – هي محاولة منهم لتغرير الصالحين قبل غيرهم ، وهي محاولة ديماغوجية يظن أصحابها إنها ستنتج مفاداً وتقريراً على هذا النحو : – ( إن الفكرة في حد ذاتها عدل وصلاح وحكمة ) – ، وبناءاً عليه يكون المُخالف الذي في الطرف الأخر جاهل وشرير ومعتدي ، وبهذا يتم التبرير للأعمال الشنيعة والفظيعة كقول البعض منهم : – ( قُتلَ الإمام الحسين بسيف جده ) ، وهذا الوصف يعتبرونه من قبيل درء للفتنة تحت مظلة درء الإنقسام والنزاع وحفظ النظام والإستقرار ، وهذه السفسطة التاريخية أعتبرت نوعاً من العدالة التي تحقق الوئام والإتساق ، وبنفس الدرجة أو بطريقة اللاوعي تقضي على كل توجه من شأنه حتى السؤال عن فداحة العمل وبشاعته .

يأتي هذا في تحد واضح للعقل وأحكامه وحدوده الحسيَّة والمرئية ، والعقل بطبيعته أو بما هو هو لا يعتبر العدالة قائمةً في الأساس على تبرير عمل الحاكم أو تبرير عمل المريدين له ، بل العدل هو – ما يتسق مع طبيعة الواقع أو طبيعة الحقيقة بحسب وضعه الأصلي – ، ومنه يظهر أن التوجيه الذي تبنته جماعة الحكم لا ينفك يخرج عن طبيعتها المادية تلك ونظرتها ، والتي هي الوجه الأخر للظلم ، فالتركيز منهم على تبرير الظلم على أنه عدل لا يحقق المصلحة إلاَّ في نظر المتبنين ولفترة محددة تنتهي بإنتهاء المنفعة ، والتأكيد على المنفعة أو المصلحة لا يمثل منطق الحق من الوجهتين الطبيعية والمكتسبة ، وقياس ذلك على تمام مراحل التاريخ قياساً باطلاً ينتهي إلى الإعتراف بالعجز وعدم القدرة في مواجهة الظالم والظلم .

فإن قلتم : – هذا مقتضى السياسة التي تعتبر الحق متعلقاً بالحاكم – .

قلنا : – إن هذا الإقتضاء قهري ولا أساس له سوى كون الحاكم يمتلك القوة ، وهذا ما يجعله فوق القانون والعدل – .

وهذا القول الإفتراضي منهم يجرنا للإعتراف بالفوضى كمنفذ للحق ، وبالتالي الإستسلام لهذا المنطق فتفقد العدالة قيمتها و معناها ، ومن أجل إقامة التوازن لا بد من الإشارة إلى

هذا الخلل في الفهم ، وهذا هو الجانب الأول أو المُقدمة في الموازنة بين العدل والظلم وحدودهما .

لقد عجز أنصار تلك الفكرة في التبرير لما يفعله الظالم ولم يجدوا الجواب الشافي ، وكذا لم يجدوا تلك الدرجة التي تؤهل التشريع ليكون منسجماً مع هذه الفكرة اللامنطقية وتوابعها ، من هنا نقول : – لا يصح أبداً إدراج الأقوال أو الأفكار التي تروج أو تخدم الحاكم ، ولا يصح إعتبارها هي العدل أو من العدل أو أنها المعبرة عنه ، لأن تلك الأفكار والأقوال توازي ما تتبناه – المثالية الكلاسيكية – المستسلمة والتي تؤيد الخنوع بحجة الحفاظ على الأمن والنظام ، حتى لو أعتبرنا هذا التوجه أو هذا التفسير منها زمني لكن الشيء المهم إن فيه الكثير من الإلزام والخضوع الممنوع .

ومن هنا نُعيد التأكيد من جديد والقول : – إن العدل لا يكون صحيحاً حين يجسد إرادة الأقوياء – ، ولا يكون صحيحاً كذلك حين يكون لمصلحة الأصحاب والأقرباء ، لأن في ذلك التوجه أو الإيمان شياع للظلم في مسمى جديد ، وإقتراحات بعض الفلاسفة المثاليين الكلاسيكيين ليست على مايُرام ، ولا ينبغي إعتمادها أو الأخذ بها كما لا يجب تبرير مقولات أهل الفقه التراثي في ذلك ، فثمة خدوش كبيرة في متبنيات الطرفين ، وثمة تماهي وسيرورة واضحة مع إرادة الحاكم مهما كان وحاشيته مهما تكن ، وهذا هو الظلم المنهي عنه ، وأما العدل فحقيقته وأساسه ومعناه هو في وضع الشيء في موضعه .

العدل الإلهي :

في البداية نسأل هل الله عادل ؟ ، ثم لماذا نفترض إن الله عادلاً ؟

وللبيان نقول : لم يرد لفظ – عادل – لا أسماً ولا مصدراً في الكتاب المجيد مطلقاً ، ولكن الذي ورد هو صيغة الفعل و الصفة ، واللفظ في كليهما ورد في باب التشريع والقانون و

بصيغ ( أعدلوا و بالعدل ) وغاب الأسم وأسم الفاعل والمصدر ، وهذا يقودنا للكلام عن أو في أصل التكوين والخلق ، وفي هذا الأصل نقول : هل كان هناك قيداً أو مانعاً يمنع من ذكر الأسم ؟ ، وإذا كان موجوداً ، فما هو وما نوعه ؟ ، والسؤال عن الماهية والنوعية في معنى القيد ، يقودنا للجواب الذي ورد تحت معنى ( آية أو آيات ) كدليل غير مباشر لعدم الذكر ، وهذا يعني إن التساوي في الخلق ظلم ، ولذلك جعل الإختلاف سُنة طبيعية لتوازن الكون والحياة ، لذلك كان من مقتضيات صحة نظام الطبيعة هو رفع حالة التساوي في طبيعة الخلق ، لا في الفئة الواحدة ولا في الفئات المتنوعة ولا في الفرد الواحد ولا في الأفراد الأخرين ، ومن ذلك أستلهم الفقيه والكلامي هذا المعنى ووظفوه في أبحاثهم ، فأهل الكلام مثلاً أعتبروا : – ( وجوب العدل على الله ) – !! ، وهذا الإعتبار منحاز للسياق ولطبيعة الله المعنوية ، ولكن كيف يكون ذلك ولماذا ؟

أي كيف يكون العدل واجباً على الله ولماذا ؟ ، يأتي هذا في سياق المُتبنى عند أهل الكلام في قولهم بوحدة الأسم والصفة ، ولكن الإعتبار منهم أُخذ من معنى الصفة ، وكما قلنا لا يميز الكلامي في الدلالة بين الصفة والأسم ، ومهما يكن اللفظ فيكون دالاً على الأخر ، نفهم هذا من مقولتهم الشهيرة والقائلة : – إن أسمه عين صفته ، وصفته عين أسمه – ، في الإشارة والوصف إلى الله ، مع إن هذه المقولة ليست بيانية بدرجة ، ولكنها إلتفاف وإجابة من بعيد ( على هكذا موارد قد يسأل فيها سائل ) .

ولكن كيف يكون العدل واجباً ؟ ، والجواب : إن الوجوب ليس بما نفهمه من المعنى السلبي المُلزم ، ذلك إن الله ليس محكوماً ولا تابعاً للغير بالفعل ولا بالقوة ، ولكن الله لما سمى نفسد – الرحيم – وعرفناه كذلك ، قلنا هذا : من باب إشتقاق المعنى التضمني لمفهوم الرحمة ، والذي بمقتضاه : – لا يظلم عند الله أحدا – ، وبناءاً على هذا المقتضى يكون الله – عادلاً – ، قال تعالى : [ كتب ربكم على نفسه الرحمة ] – الأنعام 154 ، ولفظ كتب يدل على

الوجوب وقد مر بيانه في معنى الوصية والميراث فلا نعيد ، ويكون المعنى المُراد : – ( أوجب ربكم على نفسه الرحمة ) ، أو بتعبير أخر : – ( إن الرحمة واجبة على الله ) ، قال تعالى : – [ وربك الغفور ذو الرحمة .. ] – الكهف 58 .

ولكن مامعنى عدم ذكر أسم الله ( العادل ) ولا أسم الصفة ( العدل ) في عالم الخلق والتكوين ؟

مع أن المفروض أن يكون الأسم والصفة موجودان في عالم الخلق والتكوين ، حتى لا يدع مجالاً للشك أو إتهام الله فيما صنع وخلق وسوى ، ونحيل أوراق هذه القضية والكلام فيها لمعنى الإختلاف الموجود في اللسان واللون ، وتعلمون كم أصاب بعض القوم من هذا الإختلاف ضرر ومخمصة أدت إلى شعور البعض بالضعة والضعف ، بل وأدى ذلك إلى إحتقار الغير لهم وإستعبادهم ، فهل هذا التفاوت يدخل في صحة معنى قوله تعالى : – [ .. وإختلاف ألسنتكم وألوانكم ، إن في ذلك لآيات للعالمين ] – الروم 22 ،

تدعي المثالية : – إن ساحة العدل الإلهي من السعة بمكان بحيث لاتدع مجالاً لإتهام الله فيما صنع أو خلق أو شَّرع – ، أي إنه لا يمكن إتهام الله في خلقه لبعض الكائنات ، وجعلها متفاوتاً باللون واللسان من جهة ومن جهة جعلها متفاوتاً بالعلم ودرجة الإستيعاب ومن جهة الرزق ، ولعل الكتاب المجيد أدخل هذا التفاوت في المعنى التكاملي للحياة ، إذ بدون ذلك يتعذر العيش والحياة عبارة ( آيات الله ) ، أي إن هذا التفاوت والإختلاف هو من آيات الله المرتبطة بالخق والتكوين ، وليس لمعنى الآيات مجالاً في عالم التشريع والقانون ، ومن هنا فالربط الموضوعي بين الإختلاف والآيات يرتبط حصراً بعالم التكوين ، وفي هذه بالذات لا يعد الإختلاف ظلماً بل هو عين العدل ومقتضاه ، فالتساوي في الخلق في عالم التكوين يفقد الحياة معناها ، ويفقدها هذه الصورة الجميلة التي هي عليها الآن ، والإختلاف وفق هذا النظم عده أهل الحقيقة ( بيان في حيوية الخلق ) .

إذن فلإختلاف في الخلق تكويناً هو القاعدة التي يُبنى عليها ، ويغدو من العبث السؤال عن وحول : – لم يذكر الكتاب المجيد الأسم أو أسم الفاعل ؟ ، ونقول : إن الله في باب التكوين لم يطرح فكرة التساوي في الخلق ، لأنها سالبة بإنتفاء موضوعها ، ولكنه رسخ مبدأ التساوي في الحكم والتشريع ، أي إن الله حين أستخلف العقل في الإدارة والحكم طلب منه ، الإلتزام بالعدل صفة وفعلاً حتى يتم تحقيق الصفة والفعل في الحياة في الحقوق والواجبات ، لهذا ورد في الأثر ( عدل ساعة في الحكم تساوي عبادة ستين عاماً ) ، وبهذا الطلب يكون التنفر أو إلقاء التهم على الله في كونه أصل المشكلة ، إتهام باطل لأن الله إنما أراد الإنسان أن يكون له القدرة والصلاحية في تحقيق فكرة المساوات في الحقوق و الأولويات ، ومع ذلك لم يترك الله الإنسان وحده في سن القوانين والتشريعات بل ساهم معه في ذلك ، عبر تشريع القوانين والنظم في مجالات الحياة كافة ، وتبقى فكرة إتهام الله منشأها نفسي ومزاجي ، تقوم على الملاحظات البسيطة والكسل والتخاذل في عدم القدرة والإستطاعة على مجابهة المشكلات التي تصنعها الحياة والإنسان ، فيُنسب هذه الخلل إلى الله ثم يُتهم مع إن المنطق العلمي يقول : – إن الأصل في عالم الوجود قام على أساس مبدأ الإنتظام الطبيعي – ، وهذا المبدأ هو عينه الذي قامت عليه ودلت مقولة إن العدل هو : – ( وضع للشيء في موضعه ) – .

ومنذ بدايات الخلق لم يخرج مفهوم – العدل – عن كونه الدليل الدال على النظام وحفظ الحقوق للأفراد والجماعات ، ولا ينفصل هذا المفهوم وجوداً وعدماً عن مفهوم الحرية كشرط في تحققه وديمومته ، فالحرية شرط سابق ليكون العدل في محله وموضعه الصحيح .

ونعود للتأكيد بأن – العدل – لا يعني التساوي في عالم التكوين ، ولكنه في عالم التشريع يكون مطلوباً كذلك في مجال الحقوق والعمل ، طبعاً لا يجب أن يُفهم من ذلك إن التساوي بمعنى التوافق أو الإنطباق في الهيئة والشكل والمضمون وفي العمل و الأجور ، ولهذا ورد القول التالي : – لكل

حسب قدرته ولكل حسب حاجته – ، وهذا القول هو الذي يجيزه العقل و يقره ، بمعنى إن العقل لا يسمح بتساوي الأجور مع تفاوت العمل وساعاته ، إنما يجيز العقل التساوي في الحقوق المشتركة كقضية التأمين الصحي والتعليم و إن يكون لكل فرد أو عائلة مسكناً يؤون إليه ، ولكن في مجال العمل تتفاوت القدرات والجهود المبذولة في ذلك ، لذلك نقول : – لا يكون ممكننا المساوات في العمل وفي الأجور ، لأن ذلك مدعاة لوقوع الحيف على البعض – ، وهذا ممنوع بل ليس من العدل بشيء ، ثم إن أسم الصفة – العدل – يتضمن ويدل على – إعطاء كل ذي حق حقه – ، ولا يدل ذلك على معنى التساوي في كل شيء ، إنما يدل على عدم تضييع الحقوق كثيرها وقليلها .

وهذه دالة العدالة ومضمونها المعرفي ، وفي هذا المجال تطرح هذه الإشكالية في صيغة إعتراض ، عن الجدوى من تأصيل الفوارق في الرزق وفي العلم وفي الصحة ، والتي وردت بصيغة ( هل يستوي .. ) ، التي يفهم منها اللامساوات والتي يجد فيها البعض كما قلنا ، وسيلة في التشكيك و إتهام الله وبأن ما حاصل بالفعل إنما منشأه عدم العدل وتأصيله وتشريعه ، سواء من جهة الخلق أو من جهة القابلية والقدرة والإستطاعة ، من خلال ذلك النظام الظالم الذي رفع بعض الناس على بعض ، وقد أستُغل هذا الوضع من جهات وأفراد ليميزوا فيه أنفسهم على غيرهم ، مدعين الحق وناسبين ذلك إلى الله وإرادته ، التي أفتقدت للعدل حين لم تساوي وفرقت في الخلق وفي الصنع .

وقد أبطلنا هذا القول من جهة ( إن الله لم يجعل هذا التمايز لما هو سيء وقبيح ) ، بل أدخله في مجال و ميزان التنافس والعمل طارحاً مبدأ : – ( كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك ) الإسراء 20 ، فمن جهة جعل الناس شركاء في أساسيات الحياة المعروفة ، ومن جهة دفع حالة اليأس والقنوط التي قد يظن بها البعض ، و من جهة أخرى جعل من التمايز سنة طبيعية وجعل من مواجهة الجميع للحياة بنفس الدرجة ، ثم أتبع ذلك بقوله : – [ ليبلوكم أيكم أحسن عملا ] – هود 7 والملك 2 ، ومفهوم البلاء هنا ليس مفهوماً سلبياً إنما هو تكليف ، ورد في صيغة التحدي ومواجهة قوى الطبيعة

والحياة ، يظهر ذلك في الربط بينه وبين لفظ – أحسن – الوارد في صيغة المبالغة أو لنقل المفاضلة ، وبذلك يكون قد حدد طبيعة المواجهة وشكل التحدي لها ، معتبراً العمل هو القيمة التي تحدد معنى الأحسن والأفضل في مواجهة الصعاب والمتاعب ، إذن هو موضوع طرح على نحو إيجابي طالما كان القصد منه درجة الإعمار والبناء : – ( هو أنشأكم من الأرض وأستعمركم فيها ) هود 61 …

وللحديث بقية

آية الله الشيخ إياد الركابي

25 رجب 1440 هجرية

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here