فلسفة النظرية النقدية/Critical Theory

بقلم يوحنا بيداويد
ملبورن 20 اذار 2019
ملاحظة
نشر المقال في العدد 13 من مجلة بابلون التي يصدرها مجموعة من الكتاب الكلدان في مدينة ملبورن

تعد المدرسة النقدية او “مدرسة فرانكفورت”، إحدى اهم المدارس الفلسفية في القرن العشرين، بسبب طروحاتها الجريئة في الموضوع المهم الذي تناولته، والمعالجات التي وضعتها. ففي نظر روادها، حدث انحراف في مسيرة الفكر الإنساني منذ ظهور منتصف القرن التاسع العشر وصاعدا، وان انجازات العلوم التي انتجت حضارتنا الحالية رغم كثرة أيجابياتها، الا انها خُطِفت من قبل المؤسسات المالية والسياسية، وان مسيرة الحضارة في البحث والتقصي عن حلول للمعضلات التي تواجه البشرية قد تم التخلي عنه، وان التطور والتقدم الذي كان مبدأه هو سعادة الانسان، أصبح امرا ثانويا. حيث العقل خدع وسرقت النجاحات التي حققها العقل في مجال التكنلوجي والطب والفضاء وبقية حقول المعرفة، فابتعدت هذه المعارف من الهدف الأصلي الذي كان إخضاع الطبيعة للإنسان وازالة عقدة الخوف عنده.

فما قامت به هذه المدرسة، هو إعادة العقل الى رشده، والى كرامته بعد ان تم فضح مبادئ ومقولات الفلسفات الحديثة وبالأخص الفلسفة الوضعية التي كانت سببا لهذا الانحراف، فما عملته هو اعادت علاقة التوازن بين الفرد والمجتمع، وبين الموضوعية والذاتية، الاخلاق والحضارة، حيث وقفت بكل جرأة امام الأنظمة البيروقراطية، ووصفتها بتروس لالة كبيرة، مهمتها الأولى والأخيرة هي سحق الفرد وسلب قوته، كي يصبح مشلولا، وحيدا امام الفاشية الجديدةّ، بعد ان تقضي على الهيئات والمؤسسات الإنسانية الكبيرة، التي مهمتها هي تقديس الحياة بكافة أنواعها والدافع عن الانسان وكرامته وحقوقه.

تأسست هذه المدرسة على يد مجموعة من العلماء والمفكرين، في مقدمتهم كل من العالم الاجتماعي ماكس هوركهايمر، والفيلسوف الألماني لتيودور ادورنو، هذه المجموعة من الأصدقاء من العلماء والفلاسفة معهد تحت عنوان (معهد البحث الاجتماعي) في فرانكفورت المانيا، في بداية العقد الثالث من القرن العشرين، لكن سرعان ما تم غلقه من قبل الحزب النازي الحاكم في المانيا عام 1933، ثم اعيد فتحه من قبل الفيلسوف الكبير يروغن هابرماس سنة 1950 بعد ان تم الغاء الفكر النازي في نهاية الحرب العالمية الثانية.

ما هي النظرية النقدية؟
هي النظرية التي انطلق مؤسسوها الأوائل بدراسة ونقد نشاطات عقل الانسان في القرن العشرين وتشخيص الخلل الذي أصابه بعد ان حقق (العقل) الحرية والعدالة والديمقراطية للدول الغربية خلال صراع دام اكثر من 300 سنة، فوجدوا ان العقل وقع تحت هيمنة البرجوازية وأفكار بعض الفلسفات المغلقة (السلبية)، فقرر رواد هذا المعهد التخلي عن المثالية الهيجلية ومبادئ الفلسفة الوضعية، محاربة البرجوازية وكل اشكال الفاشية لأنها جعلت من إنجازات العقل (العلوم) وسيلة لتخدير العقل ومن ثم أيقاف النشاط الفكري (الموضوعي) عند العقل الجمعي للبشرية، فمنعته من الاستمرار في البحث واستبصار الحقائق واكتشاف الخلل الموجود في سلوك المجتمع لانه انغمس في تحقيق النجاحات المادية المربحة تاركا الجانب الأخلاقي الذي ضرب المجتمعات الغربية.

كان هؤلاء الرواد على يقين بان العقل فشل في إدارة الحضارة وقيادة العالم الى وضع أكثر امانا واستقرارا، لاسيما بعد ان رأى الشعوب ما تركته اثار الحربين العالمتين الأولى والثانية، بل أصبحت أكثر متأكدة رأت ان القوى الرأسمالية والبرجوازية حتى الماركسية تخلت عن مبادئها الاصلية، واصحبت بمثابة طوق حول عنق الفرد، بعد ان تحولت المؤسسات الكبيرة الى قوة رجعية ودكتاتورية.

ماهي اهداف المدرسة النقدية؟
قامت المدرسة النقدية بمبادرة نادرة على رغم قلة مؤيديها، حيث عملت على إيقاف الانحدار عند العقل أكثر فأكثر ، فأوقفت الناس من تبني مبادئ الفلسفات الحديثة( الوضعية والبراغماتية والحداثة وما بعد الحداثة والعدمية والتفكيكية) بصورة اعمى او اعتبارها أفكارا تقرب الانسان اكثر فاكثر من الحقيقة المبهمة، على امل : ” فتح ثغرة في عالم اليقين الوهمي الذي خلقه النظام البرجوازي والاقتصادي الرأسمالي امام العقل”، فوضعت في مقدمة أولوياتها إعادة العقل الى مساره الصحيح (كما نوهنا) الى الطريق الذي دشنه رواد الفلسفة الكبار والعلماء في بداية عصر الانوار من امثال ديكارت وبيكون، وسبينوزا، وكانط ، وتحريره من مظاهر الحضارة الخداعة ومنتوجاتها البراقة ذات البعد الواحد(1) حسب آراء روادها.

لعل يسال القارئ ما الذي عملت الفلسفات الحديثة كي تضعها المدرسة النقدية في خانة الفلسفات المحبطة للإنسان؟؟
كما نوهنا ان الفلسفات السائدة في القرن العشرين شجعت على التشتت المجتمع باسم الحرية والليبرالية وساعدت على انقسام العائلة وتفتتها و تفتيت المجتمع وهدم كل المؤسسات التي هوية شمولية و موضوعية على أساس انها انظمة توتاليتارية ودكتاتورية وانها تتشبث بالفكر الرجعي وضد التطور، كذلك قادت المجتمعات الإنسانية الى الضياع والتشظي، لأنها اوحت ان الفردانية هي الحل وجلب السعادة للإنسان ، بعد ان يصبح كل انسان منتجا!!، لكن ما حصل في الحقيقة هي زيادة الإحباط لدى الفرد وزيادة ميله للجريمة والسرقة والتعاطي المخدرات التي مميزات الفلسفة العدمية، بكلمة أخرى هذه الفلسفات لم تزيد معرفتها أي شيء إيجابي لحياة الانسان، بل زادة عملية التشظي والانقسام في التكتلات البشرية أوصلت بها الى درجة يصعب وجود دولة ذات نظام مستقر بسبب الصرعات الداخلية الكثيرة.

ما مدى الترابط بينها وبين النظرية الماركسية؟
على الرغم وصف البعض ان المدرسة النقدية انها من بنات الفكر الماركسي، بسبب حملها بذور نفس الفكر (هويته النقدية)، الا انها في الحقيقة لم تأخذ من الماركسية سوى البعد الإنساني واسلوبها النقدي المستمر للأفكار المطروحة، فهي تحاول جلب حلولا لاستقرار الحياة وتحقيق العدالة والتوازن بين طبقات المجتمع أي تحقيق سعادة البشرية، بالاختصار كانت مهمة هذه المدرسة الرئيسية هي الربط بين علم الاجتماع والعلوم السياسية والاقتصاد مع الفكر الفلسفي.

من هم رواد النظرية النقدية
هم مجموعة مختلفة من الفلاسفة والعلماء وهم:
العالم الاقتصادي كارل غرونبرك( Karl Grunberg 1891-1972)
والعالم الاجتماعي ماكس هوركهايمر) Max Horkheimer 1895-1973)،
والعالم الاجتماعي والتر بنيامين (Walter Benjamin 1892-1940) ،
وعالم الاجتماع هربرت ماركوس (Herbert Marcuse 1878-1950)،
والفيلسوف الألماني لتيودور ادورنو (Heodor Ludwing Wiesenground 1903-1969)
وأخيراستلم قيادتها الفيلسوف يورغن هابرماس (صاحب النظرية النقدية التواصلية) (Jürgen Habermas 1929)

اهم محاور التي تناولتها النظرية النقدية
1- نقد فكرة (تشيء الانسان)
عارضت بقوة فكرة تشيْ الانسان عن طريق النظام الرأسمالي العالمي (البرجوازية والرأسمالية) الذي يسحق الانسان وترسيخ طرق السيطرة والياتها عليه.

2- إعادة التوازان للمجتمعات
حاولت تقليل تأثير التقلبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية حيث وضعت في مقدمة أهدافها حماية مصلحة الفرد والمجتمع معا وتجنب تفضيل أي طرف على الاخر.

3- فضح دور الفلسفات الحديثة وتأثيرها على المجتمع
قامت هذه المدرسة بنقد الفلسفة المثالية الألمانية والوجودية والحداثة وما بعد الحداثة والتفكيكية والبنيوية والظاهراتية، وبالأخص الفلسفة الوضعية التي حاولت إيجاد مبرر من غير درايتها ان النظام الاقتصادي العالمي غير مستقر عن طريق طروحاتها وتزكيتها العلوم وضرورة تبنيها.

4- مواكبة التطور الفكري
حدث تجديد في النظرية النقدية، حيث قام يورغن هابرماس بداخل مفهوم (التواصلي
Theory of Communicative Action)، الذي يعني اعادة اللحمة بين الفرد والمجتمع والكيانات والمؤسسات الشمولية في حوار هادئ من إيجاد مخرجا لمصيبة التي وقع فيها الفكر (العقل). لهذا كثير من العلماء والفلاسفة رفعوا قبعتهم لأشهر فلاسفتها لـ(يورعن هابرماس) صاحب نظرية النقد التواصلية، التي دعت على ضرورة التواصل بين الذوات عوضا عن انعزال هذه الذوات عن نفسها والتركيز على همومها وتحقيق رغباتها.

بكلمة أخرى حاول يورغن هابرماس إيجاد توازن بين الموضوعية والفردانية، والعقل والغريزة في عصر خدع العقل بالألوان والأفكار المادية ومبادئ الفلسفة الوضعية التي اوصلته الى قبول فكرة تشيء الانسان.

نقد وتعليق
– ان نجاح العقل في كشف اغوار الطبيعة واخضاعها للإنسان لم يمر بدون ثمن، أدت هذه الإنجازات الحضارية الى نسيان العقل ذاته والابتعاد عن مهمته الأصلية، وراح يفضل تبسط قياساته، فتبنى (العقل) نظرية البعد الواحد، الامر الذي خلق ازمة أخلاقية في مجتمعات البشرية في القرن الحادي والعشرين بعد زوال القيم الغيبية عنده، والابتعاد من التأمل في الطبيعة(3)، لان كلها أدت الى ولادة قناعات فارغة، الى درجة تقوم بتاليه الطبيعة وعبادتها، كان ذلك انتصارا كبيرا للفلسفة الواقعية، فخسر العقل موقعه مثلما يخسر ملكه عرشه.
……………………………..

1- كتب هربرت ماركوز كتاب مهم تحت عنوان: “إنسان البعد الواحد”، وقد صدرت كتب أخرى على نفس المنوال، مثل كتاب سقوط الحضارة لكولن ويلسن، سقوط الحضارة الغربية لأحمد منصور، أفول شمس الحضارة الغربي مصطفى فوزي غزال وغيرهم.
2- فعل التأمل فقد معنها التقليدي القديم الذي أوصل الناس الى مرحلة النبوءة والفيلسوف والشاعر والفنان.

…………………..
المصادر:
1- النظرية النقدية، مدرسة فرانكفورت، آلن هوا، ترجمة ثائر ديب، دار العين للنشر، القاهرة، 2010م.
2- أساطين الفكر، روجيه بول دورا، ترجمة علي نجيب إبراهيم، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 2012.
3- النظرية النقدية التواصلية يورغن هابرماس، حسن مصدق، المركز الثقافي العربي، دار البيضاء، المغرب، 2005م.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here