ماهية الإنسان!

ساهر عريبي
[email protected]

شغل بحث ماهية الإنسان ذهن الفلاسفة والمفكرين منذ القدم وقد تباينت رؤاهم في تحديد ماهية هذا الكائن الذي غيّر وجه الأرض منذ نشاتها عليها, إذ أبدع في إكتشاف قوانين هذا الكون وبما مكنه من استثمار تراب هذه الأرض وتحويله الى عمارات شاهقة واجهزة ومعدات وادوات لا حصر لها, حولت هذه الأرض الى مركز للكون ينطلق منها لإستكشاف المجرات والكواكب ولكشف اسرار هذا العالم, بل ولمعرفة كيفية نشأته التي لا تزال الثانية الأولى من بداية خلقه تشغل بال علماء الفيزياء والفلك , الذين أنشأوا مراكز أبحاث لمحاكاة عملية خلق الكون ويأتي في مقدمتها مركز (سيرن) في سويسرا.

هذا الكائن الخارق حار الفلاسفة والمفكرون في تعريف ماهيته, ألا وهي كنهه وحقيقته كما يدل على ذلك المعنى اللغوي للماهية. وقد نشأت مذاهب فلسفية متعددة عبر التاريخ كانت لكل منها رؤيتها في الوجود وكيف جاء والى أين يمضي ومن أين اتت الحياة ولماذا كان الكون مهيئا للحياة. وكان من الطبيعي أن تختلف أجوبتهم تبعا لذلك لسؤال ماهو الإنسان؟ أي ماهيته.

ففيما اعتبر افلاطون تلميذ سقراط ان الإنسان هو النفس العاقلة الخالدة والأزلية التي لا تلتحق بالجسد الا عرضا, عرّف ارسطو الإنسان بأنه حيوان ناطق أي عاقل في صفة جوهرية تميزه عن الحيوان. لكن الفيلسوف ديكارت رفض تعريف ارسطو مؤكدا على ان التاملات الذهنية لا يستمدها الإنسان من حواسه او من الواقع بل من ذاته اي من طبيعته أي ان الحقيقه تنبع من الذات طبقا لقاعدته انا افكر اذن انا موجود. واما الفيلسوف ابن سينا فرأى أن ماهية الإنسان هي جوهر ذاته التي تكمن في النفس المجرده التي يمكننا تصور وجودها ويمكن ان توجد بالفعل دون الجسد وبالإنفصال عنه.

وذهب سبينوزا بعيدا عبر اطروحة مفادها أن الرغبه هي ماهية الإنسان وجوهره، باعتبار الرغبة شهوة واعية، مما يجعلها خاصية انسانية. وتنزل الفيزيائي البريطاني الراحل ستيفن هوكينج بالإنسان واصفا أياه بالحثالة الكيمياوية بالرغم من اعترافه بأن الكون يقف خلفه ذكاء عظيم!

وبعد هذه المقدّمه لست بصدد الخوض في تحديد أي التعاريف هي الأصح للأجابة على هذا التساؤل الأزلي لتحديد ماهية الإنسان, لكنني أستطيع القول أن الإجابة على هذا السؤال فطرية تتجلى للنفس السليمة التي تقدر إنسانية الإنسان ودون النظر الى خواصه العارضة, والتي تبحث عن المشترك بين مختلف البشر ألا وهي ماهية الإنسان.

لقد شعرت بذلك لدى إدخالي الى أحد مستشفيات لندن إثر عارض صحي, حيث ادخلت الى الردهة المخصصة وكانت تضم اربعة اسرة يرقد عليها أفراد من خلفيات متنوعه , فالي يساري شاب بريطاني في الثلاثينات من العمر وأمامي من جهة اليسار شخص من اصول هندية وبجنبه طبيب استرالي عليل! تلقينا ذات الخدمات والإهتمام وكنت اراقب بشكل دقيق سلوك الكادر الطبي الذي كان يقدم خدماته وهو غير ملتفت لخلفية هذا المريض هل هو بريطاني ابن البلد ام مجنّس أم من رعايا دولة اخرى , وهل هو مسيحي أنجليكاني أم كاثوليكي أم مسلم سني او شيعي او هندوسي أو بوذي او ملحد!

لم يلتفت أحد لخلفية المريض وهل هو غني ام فقير , عامل ام عاطل عن العمل, صاحب شهادة دراسية ام لا ومن أي خلفية قومية, وهل يبدو أنيقا مرتبا أم رث الثياب, فالجميع يرتدي ملابس موحدة , فما يتجلى امام الكادر الطبي هو ماهية الإنسان ألا وهي القاسم المشترك بين جميع هؤلاء الراقدين . والكادر ليس بحاجة لمعرفة كنهها او الخوض في تعاريف الفلاسفة لها, فكل ما يمكن معرفته ان هناك قاسما مشتركا بين هؤلاء الراقدين وهو اشتراكهم في تلك الماهية المجردهة عن الصفات العارضة.
مستشفى يعالج فيه المرضى خيرة الأطباء البريطانيين المختصين بأمراض القلب وفي مقدمتهم البروفيسور مايت والدكتور فوكس وطاقمهما المؤلف من عدد كبير من الأطباء والمساعدين ومنهم الدكتور هنري والدكتور يوسف. وعندما جاءني الأخيرا للتحدث معي علمت انه من الشرق وأردت سؤاله عن أصله فلربما يكون عراقيا او سوريا لكنب خجلت وتراجعت فقلت في نفسي لم يسألني أحد من أي بلد أنا فكيف أتجرأ وأسأل هذا السؤال! ثم علمت فيما بعد بانه واحد من أفضل الأطباء الذين نالت أبحاثهم جوائز عالمية.

أتقدم بالشكر لجميع هؤلاء اولا لأني حظيت برعاية مثالية تترك في النفس أثرا طيبا لن يمحى, كما وأشكرهم لأنهم تعاملوا مع تلك الماهية بغض النظر عن طبيعتها وكنهها فليس المهم ذلك بقدر اهمية التعامل معها وإنقاذ ذلك الجسد الذي اتعبته تلك الماهية حتى اعتلّ. وأرجو أن يأتي يوم يتم فيه التعامل مع تلك الماهية في مختلف أرجاء العالم دون الأخذ بنظر الإعتبار العوارض والصفات الطارئة والزائلة التي تعتريها والتي لا تغير من جوهرها.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here