نظرة في كتاب “الاقتصاد العراقي – الأزمات والتنمية للسيد الدكتور علي خضير مرزا الحلقة الثالثة

د. كاظم حبيب

قراءة في الفصل الثالث: السكان وقوة العمل

يقدم الباحث العلمي والكاتب الدكتور علي خضير مرزا دراسة علمية ممتعة ورزينة عن التطورات والتغيرات السكانية وقوة العمل والفقر في العراق خلال فترة مديدة، ولكنه يركز بصواب على العقود الأخيرة ويطرح استنتاجاته، إضافة إلى استشرافه لتطور البنية السكانية وقوة العمل في السنوات القادمة. ويعتمد في ذلك على ما هو متوفر من إحصائيات عن السكان والأحوال الاجتماعية، التي غالباً ما يكون، كما أرى، احتمال أن يصل الانحراف فيها بما يتراوح بين 7-15%، وغالباً ما يكون نحو الأسفل حين يتعلق الأمر بأرقام البطالة والفقر والفساد. وقد أشار إلى ذلك بقوله: “ومنذ اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية بدأ التحفظ في نشر البيانات. وتدريجاً اختفت منشورات رصينة خاصة ما يتعلق ببيانات الجهاز المركزي للإحصاء والبنك المركزي”. ثم يقول في مكان آخر “وبالرغم من إن الكاتب يعتقد إن معظم البيانات المستخدمة في هذا الكتاب تمثل المُتغيرات التي تصفها بصحة معقولة، في المتوسط، ولكن بسبب ظروف القلاقل وعدم الاستقرار في إعدادها من قبل الجهات الإحصائية فأن درجة من عدم اليقين حولها. لهذا السبب ينبغي الحذر في تفسير النتائج والتوصيات التي تعتمد على البيانات المستخدمة، والنظر إليها كتوجيهات عامة صحيحة، بدلاً من كونها تشير إلى وقائع دقيقة”. (أنظر: مرزا، ص 3). وتأكيداً لما ورد في أعلاه أروي هنا الحادثة الآتية التي شاهدتها كغيري من الناس: في ندوة عامة نظمت لصدام حسين في نهاية عام 1977 ونقلت عبر قناة التلفزة العراقية قال فيها بشأن عدد سكان العراق حينذاك ما مضمونه: حين يقرر القادة السوفييت بأن حجم إنتاج الحنطة أو الرز في الاتحاد السوفييتي وصل عام كذا إلى كذا طن، فأن جميع المسؤولين يلتزمون بهذه الأرقام ولا يحيدون عنها وتسجل في الإحصاءات الرسمية كواقع حال. وأنا صدام حسين أقول هنا أيضاً بأن عدد سكان العراق في عام 1977 بلغ 12 مليون نسمة وعلى الجميع الالتزام بهذا الرقم ولا يجوز ذكر غيره! وهكذا يجد المتتبع هذا الرقم قد سجل في الإحصاء الرسمي العراقي ولم يحد عنه أحد. ومنذ عام 1978 تقريباً توقف الجهاز المركزي للإحصاء، وكذلك البنك المركزي عن نشر تفاصيل إحصائية مهمة عن الاقتصاد والمال والمجتمع في العراق بقرار من صدام حسين نائب رئيس مجلس قيادة الثورة حينذاك. ومن هنا برزت الكثير من المصاعب التي واجهت الباحثين والإحصائيين وراسمي السياسات الاقتصادية والاجتماعية في العراق. وهي حالة لا تقتصر على العراق فحسب، بل تمتد إلى الكثير من الدول النامية. وفي قناعتي فأن إحصائيات المرحلة الراهنة وفي الكثير من المجالات غير دقيقة، لا بسبب القلاقل وعدم الاستقرار فحسب، بل بسبب طبيعة النظام السياسي وتجلياته في السلوك والممارسات الكثير من مؤسسات الدولة، رغم حصافة وسلامة وحسن نية ووجود جمهرة من موظفي الدولة النزيهين. ويعتبر العراق أحد النماذج الصارخة في مجال الإحصاء وعد الدقة في المعلومات، ولاسيما في موضوع البطالة والفقر وإيرادات الدولة والفساد …الخ.

يبحث الكاتب في هذا الفصل المكثف عدداً من تفاصيل القضايا السكانية ويستكمل بها ما طرحه في الفصل الثاني عن النمو السكاني في “أرض السواد”، رغم إن أرض السواد لا تشمل العراق كله، بل البصرة ووسط العراق وبغداد وجزء من ولاية الموصل القديمة. فالتقديرات السكانية للفترة الواقعة بين 1867 -1905 في الولايات العثمانية الثلاث (بغداد

والبصرة والموصل) تؤكد زيادة سكانية ضعيفة جداً لا يزيد متوسطها السنوي البسيط للفترة الواقعة 1867-1905 عن 23700 نسمة. علماً بأن تقاليد سكان الريف والبادية كانت تميل بقوة صوب إنجاب المزيد من البنين، باعتبارهم والمال زينة الحياة الدنيا، وهم بحاجة لهم للزراعة أو لرعي الماشية أو للغزو، ولكن البؤس والفاقة والأمراض السارية والفتاكة والفيضانات كانت تفتك بنسبة عالية من السكان، ولاسيما الولادات الجديدة، وبالتالي يكون صافي الزيادة السكانية ضئيل جداً. (أنظر: د. محمد سلمان حسن، “التطور الاقتصادي في العراق 1864-1958″، الفصل الأول، نمو وتركيب السكان، المكتبة العصرية، بيروت، 1065؛ الدكتور فاضل الأنصاري، “مشكلة السكان، نموذج القطر العراقي، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1980؛ د. كاظم حبيب، لمحات من عراق القرن العشرين، الكتاب الثاني من 11 مجلد، الفصل الخامس: البنية الاجتماعية لسكان العراق في الفترة الأخيرة من العهد العثماني، دارا أراس، اربيل، 2013). كما إن التحولات في البنية السكانية من حيث البداوة والريف والحضر قد بدأت عملياً وتدرجياً مع إجراءات مدحت باشا الإصلاحية الذي حكم العراق خلال الفترة 1869-1872، حيث اتخذ جملة من الإجراءات التي أدت فيما بعد إلى حصول تغير نسبي في نسب توزيع السكان بين البدو والريف، في حين حافظ سكان الحضر على نسبتهم بين عام 1867-1905 ولفترة غير قصيرة، إذ قدر سكان البدو والريف بـ 35% و41% على التوالي من إجمالي السكان، في حين تغير التناسب في عام 1905 لصالح الريف على النحو التالي على التوالي: 17% و59%. أما السكان الحضر فقد احتفظوا بنسبة 24% من السكان. وتسارع هذا التحول بعد إجراءات داوسن بالنسبة لتسوية حقوق الأراضي وإجراءات أخرى قادت إلى حصول تحول كمي مهم لصالح الريف أولاً، والمدينة ثانياً، على حساب سكان البادية في العام 1935، والتي وضعها الدكتور علي مرزا أمام القارئات والقراء وعلى النحو التالي: ريف 65،1، بدو 6،5، وحضر 28،4 بالمائة. (أنظر: مرزا، ص 42).

ولا بد هنا من الإشارة إلى أن المجتمع حتى عام 1947، وربما بعد ذلك أيضاً، لم يكن قد أدرك أهمية الإحصاء السكاني بالنسبة للاقتصاد الوطني والخدمات الاجتماعية وقضايا السكن …الخ، وكانت الخشية بالأساس من الخدمة العسكرية التي قوبلت منذ عهد مدحت باشا بثورة أهالي بغداد ضد التجنيد الإجباري، واستمر هذا الرفض والخشية من التعداد السكاني عقوداً طويلة لاحقة. وبرزت ظاهرة مهمة في فترة الحرب العالمية الثانية حين بدأ الحصول على حصص تموينية بسبب شحة المواد الغذائية والاستهلاكية عموماً، إذ بدأ الناس يسجلون الولادات الجديدة، مما أعطى دفعة مناسبة للإحصاء السكاني، كما إن احتياج القوات البريطانية للسلع الاستهلاكية في فترة الحرب قد دفعت بريطانيا على الموافقة في إقامة مجموعة من المشاريع الصناعية الاستهلاكية التي ساعدت على نزوح إضافي من الريف إلى المدينة وحسنت بشكل ملموس من التوزيع النسبي للسكان بين البادية والريف والحضر.

واليوم يواجه العراق إشكالية جديدة تمس التعداد السكاني على صعيد العراق كله، الذي تعرقل تنفيذه في عامي 2009 و2017 لأسباب ثلاثة هي: 1) عدم الثقة في الوصول إلى تعداد سليم ونزيه بشأن إجمالي السكان الكرد في العراق ونسبتهم إلى إجمالي عدد السكان، 2) الخشية من بروز تناسب ف البنية القومية لسكان محافظة كركوك ومناطق أخرى ، يطلق عليها “المناطق المتنازع عليها” بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم بما يميل لهذا الطرف أو ذاك، و3) حول مقدار الحصة التي يفترض أن يتسلمها الإقليم من الميزانية العامة بالارتباط مع عدد ونسبة سكانه. ومن حق أي باحث التشكيك بالأرقام التقديرية التي تجنح إما إلى تقدير مرتفع أو منخفض لعدد سكان العراق عموماً والإقليم خصوصاً، للأسباب المذكورة في أعلاه. وبالتالي فأن العراق بحاجة إلى بناء ثقة جديدة تسمح بإجراء هذا الإحصاء الذي ربما يساعد على حل بعض المعضلات القائمة.

لقد ورد لدى الزميل د. مرزا ما يلي: “وبعد عام 1997 لم يجر تعداد سكاني شامل. وكان المقرر إجراء تعداد في 2009 ولكنه لم يتم وأخذ يؤجل كل سنة، فيما بعد”. (أنظر: مرزا، ص 45). وكان المفروض أن يشير الزميل إلى تفسير هذه الحالة الشاذة، لاسيما وأن الإقليم لم يشارك في أي تعداد سكاني بعد عام 1977 والذي جرى في ظروف معقدة أيضاً، فيما عدا إشارته إلى عدم شمول المحافظات الكردستانية بالتعداد السكاني عام 1997 “بسبب “استقلالها الفعلي” عن الحكومة المركزية”.

هناك مسألة أخرى كان بودي أن يشير إليها الدكتور ميرزا، والتي لم يشر إليها الكثير من الكتاب العراقيين خلال تلك الفترة وما بعدها، والتي أثرت، شئنا أم أبينا، على الزيادة السكانية في نفوس العراق والتي حصلت بعد تعداد السكان لعام 1947، وأعني بها إسقاط الجنسية عن يهود العراق في العام 1951 والأجواء السلبية المناهضة لليهود بسبب الوضع في فلسطين وقرار التقسيم عام 1947، والذي أدى إلى هجرة 138 ألف نسمة من العراق إلى إسرائيل، وقلة قليلة منهم إلى بدول أخرى، في فترة زمنية لا تتجاوز الأربع سنوات. وهي خسارة فادحة في موزائيك العراق السكاني أولاً، وفي المستوى الرفيع للكوادر العلمية والفنية والأيدي العاملة اليهودية التي هُجرّت من العراق ثانياً، وتأثير ذلك على عدد ونسب الولادات خلال الأعوام اللاحقة للتهجير ثالثاً. (أنظر: كاظم حبيب، يهود العراق والمواطنة المنتزعة، الشرق الأوسط، بيروت، 2015).

يضعنا الدكتور علي مرزا أمام مجموعة من المشكلات المعقدة التي تواجه العراق من الناحية السكانية والاجتماعية وأبرزها:

1. واقع حصول معدلات نمو سكانية عالية تجد تعبيرها في دخول أعداد كبيرة في سوق العمل سنوياً وعجز الاقتصاد العراقي استيعابها بسبب غياب التنوع في بنية الاقتصاد الوطني والذي دفع بالحكومات المتعاقبة إلى التوسع في عملية التوظيف الحكومي التي قادت حتى الآن إلى بروز ظواهر سلبية منها: استنزاف نسبة مهمة وعالية من الدخل القومي أو من الميزانية الاعتيادية؛ تضخم الجهاز الحكومي وبروز بطالة مقنعة مرهقة للاقتصاد والمجتمع؛ استمرار وجود بطالة مكشوفة بسبب حالة الاشباع أو التخمة الحاصلة في استيعاب البطالة من قبل الجهاز الحكومي وعدم وجو فرص عمل في قطاعات اقتصادية إنتاجية.

2. إن الخلل الكبير في الاقتصاد العراقي المرتبط بالنمو السكاني يبرز في وحدانية التطور الاقتصادي العراقي، اقتصاد يعاني من تخلف قطاعي الصناعة التحويلة والزراعة، وغياب تحديث وسائل إنتاج الصناعات السلعية أو الحرفية الصغيرة.

3. اللجوء إلى زيادة استخراج وتصدير النفط الخام للحصول على عوائد مالية أكبر لتأمين ما يسد حاجة العراق لتمويل الميزانية الاعتيادية ودورها في إضعاف “العلاقة بين مستوى إنتاج النفط الأفضل كما تقررها متطلبات ميزان المدفوعات من ناحية، والمعدلات الفنية للإنتاج التي تمد في عمر هذا المصدر” من ناحية أخرى، إضافة إلى تعميق وتشديد الطابع الريعي للاقتصاد.

4. الدور الكبير والأساسي للموارد المالية من تصدير النفط الخام في التشغيل الحكومي بحيث تهيمن الحكومة على نسبة عالية من العاملين، التي تخلق بدورها تبعية مباشرة لنسبة عالية من العاملين وعائلاتهم لإيرادات الدولة المالية وسياسات الحكومة في تأمين رواتبهم ومعيشتهم.

5. عدم وجود سياسة موحدة حول معدلات النمو السكاني المطلوبة، فهناك من يرغب في تحديدها، وهناك من يرى ضرورة زيادتها.

6. التأثير السلبي لعدم وضوح الموقف من وجهة النمو السكاني على قدرة المشرع في تأمين علاقة عقلانية بين النمو السكاني والخدمات العامة، كالصحة والتعليم والنقل والسكن … الخ، إضافة إلى تأمين الأمن الغذائي للسكان.

7. العلاقة المختلة بين تشغيل الرجال وتشغيل النساء، فرغم إن نسبة النساء في العراق تعادل نسبة الرجال في إجمالي السكان فأن تشغيلهن في حدوده الدنيا، لأسباب ترتبط بطبيعة علاقات الإنتاج السائدة والدور الذكوري المخل في المجتمع ودور الدين وشيوخه، إضافة إلى تخلف الوعي وتخلف العملية الاقتصادية والاجتماعية والحضارية في العراق.

8. ويضع الكاتب قراءه وقارئاته أمام عدة مسائل مهمة، رغم غنى البلد بالموارد المالية الناشئة عن اقتصاد النفط الريعي، منها: أ) وجود نسبة عالية من العاطلين عن العمل، وهي بطال مكشوفة، إضافة إلى وجود واسع لبطالة مقنعة، وعواقبهما السلبية على المجتمع، إذ كلما ازداد عدد أفراد العائلة بالنسبة لمعيل واحد، وهي ظاهرة عامة في العراق، ازداد فقرها ووقوع تلك العائلات تحت خط الفقر، وب) النسبة العالية للفقر في العراق وعواقبه على الصراعات والنزاعات المجتمعية، ج) تحمل ميزانية الدولة الاعتيادية أعباء لا طاقة لها، ويأتي ذلك على حساب الحصة التي يفترض أن توجه لأغراض التثمير الإنتاجي في الاقتصاد وتغيير بنيته. علماً بأن الأرقام الرسمية تطرح صورة قاتمة عن البطالة والفقر، ولكن الواقع يفوق ذلك بكثير.

9. ويشير الكاتب بوضوح إلى مشكلة معقدة جداً برزت في العراق بعد إسقاط الدكتاتورية البعثية في العراق عام 2003 والتي تتلخص ببروز من يطلق عليهم بالفضائيين، أي أن هناك عشرات وربما مئات الآلاف من الأسماء المسجلة في دوائر الدولة وتقبض رواتب على الورق في حين لا وجود مادي لتلك الأسماء في أجهزة الدولة. وأن هناك من يتسلم تلك الرواتب عنهم. وحسب المعلومات المتوفرة لديّ والمنشورة في الصحف العراقية والمعترف بوجودها حكومياً، فأن هذه الظاهرة ليست مقتصرة على إقليم كردستان، بل هي منتشرة في جميع محافظات العراق وجميع دوائر الدولة تقريباً، إضافة إلى وجودها في القوات المسلحة والمليشيات الطائفية المسلحة التي تشكل الهيكل العظمي للحشد الشعبي. وهي تكلف خزينة الدولة المليارات من الدنانير العراقية، دع عنك أشكال الفساد الأخرى.

وبودي هنا أن أشير إلى ثلاث مسائل جوهرية يفترض أن يتوجه لها اهتمام الباحثين، كما أرى، في البحث العلمي عن الاقتصاد والمجتمع في العراق، والتي أختم بها هذه الحلقة، وهما:

1. لا وجود لاستراتيجية تنموية وسياسة اقتصادية واجتماعية عقلانية في العراق منذ عقود، وقد تفاقم هذا الوضع منذ سقوط الدكتاتورية واحتلال العراق وقيام النظام السياسي الطائفي وتجلياته في المجال السكاني أيضاً. ويتجلى التذمر الشعبي من واقع الأوضاع المتردية في تفاقم حملات الاحتجاج والتظاهر والإضرابات بسبب البطالة وتراجع الخدمات ومنها الطاقة الكهربائية والماء والسكن والنقل .. الخ، والتي يمكن أن تتعاظم خلال الفترة القادمة. وتقدم بغداد والبصرة والموصل، لوحة قاتمة حقاً عن الأوضاع المزرية لغالبية السكان.

2. إن تجارب العقود المنصرمة التي شهدتها جميع الدول النامية ذات الاقتصاد الريعي، ولاسيما النفطية، والعراق نموذج حي وراهن لها، تشير إلى إنها الأكثر استعداداً وتحفزاً لممارسة الاستبداد والقسوة والتحكم بالثروة والمجتمع في آن واحد، وهي الأكثر استعداداً لممارسة القمع والاضطهاد وملء السجون والمعتقلات بأصحاب الرأي الآخر، في سبيل

البقاء في السلطة والاحتفاظ بها والهيمنة على الثروة والنفوذ الاجتماعي، وهي الأكثر فساداً وتفريطاً بأموال الدولة والمجتمع. وتجربة الدول العربية الريعية كلها دون استثناء تجسد هذا الواقع المحزن الذي يستوجب إبرازه والكتابة عنه ولاسيما من قبل الباحثين في الاقتصاد والمجتمع، والتي عانى ولا زال يعاني منها شعب العراق بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه.

3. أشعر بأهمية وضرورة مثل هذه البحوث القيمة المهتمة بالشأن الاقتصادي أن تبحث في الوقت ذاته الجانب الاجتماعي، باعتباره التجلي الفعلي لطبيعة السياسات الاقتصادية والمالية التي تمارس الدولة. ومن نافل القول أن أشير إلى أن معالجة إشكالية الطبقات والفئات الاجتماعية، باعتبارها واحدة من القضايا الجوهرية في البنية السكانية وذات العلاقة المباشرة ذات أهمية فائقة بالارتباط مع الواقع الاقتصادي والتحولات الجارية فيه من خلال أربع مسائل جوهرية: أ) دور الطبقات والفئات الاجتماعية باعتبارها، من حيث المبدأ، الحاملة الفعلية للمجتمع المدني والديمقراطية، وهي البرجوازية المتوسطة، ولاسيما الصناعية، والطبقة العاملة، وفئات المثقفين، ب) دورها في إنتاج الثروة المادية والروحية في المجتمع، 3) ودورها في تغيير الوعي الفردي والمجتمعي، 4) وتأثيرها الفعلي على تحديد معدلات النمو السكانية للتحولات الفعلية في موقف متحفظ لدى العائلات البرجوازية والطبقة العاملة الصناعية من إنجاب الكثير من الأبناء والبنات، بخلاف العائلات الريفية والفلاحية. أعني بذلك حجم ودور وتأثير هذه الفئات من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. إذ خلال العقود الأخيرة، ومنذ النصف الثاني من العقد التاسع من القرن العشرين تغيرت بنية المجتمع العراقي الطبقية، بفعل الاستبداد الفردي المطلق والحروب والحصار الدولي وتدمير البنية التحتية والمشروعات الاقتصادية والصناعية، وغياب الاستثمار الإنتاجي الحكومي والخاص والأجنبي. فقد تقلص حجم الطبقة العاملة العراقية بشكل دراماتيكي، وتراجع دورها في إنتاج الخيرات المادية، كما تقلص عدد الفلاحين الشباب العاملين في الزراعة، وتدهور الإنتاج الصناعي، ودُمرت أو أغُلقت الكثير من المشاريع الصناعية العائدة لقطاع الدولة، أو للقطاع المختلط والقطاع الخاص، إضافة إلى تدهور القطاع الصناعي الحرفي الصغير بقواه المنتجة البشرية، ووسائل إنتاجه ونوعية الإنتاج. وقد أدى هذا الواقع إلى تدهور شديد في حجم ودور وتأثير العمال وفئات البرجوازية الصغيرة، والبرجوازية المتوسطة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، كما تراجع دور البرجوازية المتوسطة في مجمل العملية الاقتصادية، وفي الصناعة خصوصاً. في مقابل ذلك ارتفع حجم فئة أشباه البروليتاريا، والعاملين على هامش الاقتصاد العراقي، والذين يعيشون على هامش المجتمع أيضاً، والذين هم بعيدون تماماً عن الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية. إنها بنية طبقية مشوهة وناتجة عن تشوه بنية الاقتصاد الوطني. وكل ذلك ترك تأثيره المباشر على وعي الإنسان الفردي والجمعي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي. وسأفرد لهذه النقطة التي لم اجدها في مفردات ومضامين كتاب الزميل الدكتور علي مرزا حلقة خاصة بالارتباط مع الفصل العاشر من الكتاب حول تطور القطاع الصناعي في العراق.

انتهت الحلقة الثالثة وستليها الحلقة الرابعة

31/03/2019

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here