الجزائر … تفكيك الاحجية..؟؟…2

د. اكرم هواس

منذ نشر المقالة الاولى اصبحت التداعيات متلاحقة في الجزائر … إعداد المتظاهرين تكاثرت و معها تعاظمت شدة الخطاب السياسي بين الأحزاب و مراكز القوى و اختلفت الإجراءات التي تتخذها هنا و هناك … لكن كل هذا دون تاثير حاسم يغير من نمطية السمفونية التي يبدو ان الجميع ما زال يحرص على سلاسته و ديمومته … حتى تقديم الرئيس بوتفليقة استقالته بشكل رسمي رغم أهميته لا يبدو حدثا يعكر صفو اداء الفاعلين دورهم … بل ربما يعتبر عزفا لإحدى المقطعات الموسيقية مما استوجب تصفيقا كثيرا ممثلا في خروج مظاهر الفرح في الشوارع…

مع كل الاحترام للرئيس بوتفليقة و تراثه الذي يمثل رمزا لمنهج الثورة الجزائرية و المشروع الاستقلالي فانه قد تم اختزال مفهوم التغيير الى منتج تبسيطي و كذلك اختزال النظام الى قضية شخصية … لان الرجل أساسا لم يكن دكتاتورا عتيدا … كما ان ذهابه لن يغير في طبيعة النظام الشيء الكبير ذلك انه لم يكن له دور منذ 2012 الا صورة ذهنية يتم عرضها بين الحين لكي يقتنع الناس بان للبلد رئيسا..

هذه العملية الاختزالية كانت احد اهم عوامل سقوط الربيع العربي و ارتداداته المدمرة… في سوريا طالب المتظاهرون بإعدام الرئيس لكن السنوات الطويلة مضت و كل مدن سوريا تدمرت و شعبها تشرد و اغلب الثوار قتلوا على أيدي بعضهم البعض و بقي الرئيس و جيشه…في مصر …. ذهب الكثير الى السجن و ذهب الرئيس ليرتاح في بيته و ظلت المؤسسة العسكرية هي الحاكمة كما كانت… في تونس تشاجر الثوار و غضبوا من بعض البعض و تصالحو … و ذهب الرئيس الى المنفى في كنف بيت الله الحرام و ظل الجيش كمان كان يلعب بالأوراق وحده…

هذا كان احد نموذجين للعلاقة بين القوى السياسية المطالبة بالتغيير و المؤسسة العسكرية التي تمثل هيكل الدولة و عنوانها الوجودي بغض النظر عن كل التنظيرات عن الديمقراطية و المجتمع المدني … ووو… مقابل فرضية الدولة العميقة و ذراع المخابرات الذي يصل كل ركن في المجتمع…

هناك حقيقية عن تغيب بال بعض المتحمسين من القوى الثورية و المثقفين المثاليين و الحالمين ببركات الديمقراطية و هي ان المؤسسة العسكرية هي الحاكم الأول و الاخير في كل بلدان العالم و خاصة القوية و المستقرة … اما الأنظمة السياسية بكل اشكالها و شبكات علاقاتها و تمظهرها التنظيمي و الأيديولوجي فانها إنما تعبر عن النموذج غير المباشر للحكم عن طريق وكلاء سياسيين يمثلون رؤي العسكر في الادارة المدنية للمجتمع و ليس في تحديد الأولويات الإستراتيجية للدولة التي تبقى منوطا بشكل حصري في القيادة العسكرية … (من المؤكد ان الكثيرين سيختلفون معي في هذه النقطة… كل احترامي للجميع في طرح رؤاهم… لكن دراسة حجم و دور الصناعات العسكرية و بيع السلاح تعطي مؤشرات واضحة حول القوى الحقيقة في أدارة الدول )

و ما حصل في اليمن و قبله العراق… حيث تم تفكيك المؤسسة العسكرية رسميا او بشكل كبير فان تجربة العقدين الآخرين علمتنا بان الجيش نزل تحت الارض و بدا واضحا انه يخرج رأسه كل حين بأشكال مختلفة لتخبر العالم بانه هو المتحكم في القتل و الدمار و بالتالي فان خلاصة الدرس هي ان لا سلم يرتجى الا بعودة الجيش الى واجهة الحكم …( انظر مقالتنا ” العسكر و الديمقراطية سنة 2014 http://www.m.ahewar.org/s.asp?aid=398774&r=0 )

الحالة الجزائرية تبدوا و كأنها تعيش حالة المخاض في اختبار النموذجين أعلاه … تغيير الاسماء مع الإطاحة بمهرجان المطالبات الجماهيرية … او النزول تحت الارض و ممارسة السلطة من هناك مع كل يحمل من مخاطر إلحاق الدمار بالبلد …

لكن بين هذا و ذاك هناك الميزة الخاصة التي ذكرناها في المقالة الاولى و هي الحالة التي يمكن وضعها في اطار مشروع “حيادية الدولة” Autonomous ( سنعود الى تعريف مفهوم الحيادية لاحقا )اكثر مما هي الحال في الدول العربية الاخرى التي تحولت الأنظمة فيها الى ممثلة لطبقة اجتماعية أثنية بحثا عن جذور لترسيخ أسسها الاجتماعية… الدولة في الجزائر ( و كذا الحال في تونس – البورقيبية) كانت مشروعا بنيويا لنمذجة الدولة الحيادية في اوروبا… و عليه فان المطالبات الجماهيرية الداعية الى تغيير النظام لا تعتبر وقوفا ضدها إنما قد تعبر عن نوع مما يمكن تسميته بانسلاخ اجتماعي سايكولوجي Socio-Psychological Breaching

ناتج عن الاحباط بسبب تضارب التصورات حول مفهوم حيادية الدولة و بالتالي خلق بؤر للصراع و الفساد و غيرهما…

اي اننا لم نعد نتحدث عن محاولة قوى سياسية للهيمنة على هيكلية الدولة كما جرت في تجربة التسعينات من القرن الماضي … لاننا كما ذكرنا في المقالة السابقة فان الإسلاميين تعلموا ان لا يسمح لهم بالحكم كما ان الليبراليين ليس لديهم مصلحة في تغيير طبيعة مشروع حيادية الدولة … اما بقايا القوى المنضوية تحت رأية جبهة التحرير الجزائرية فانها توصلت الى قناعة بصورة تغيير ذاتها و هذا ما حصل عن طريق دعم قوى الشارع و التخلي عن الرمز التاريخي المتمثل في الرئيس بورقيبة و هيئة حكمه….

لا اعتقد ان الأمور تنتهي عنا في الجزائر بل لابد ان تغييرات بنيوية في الطريق… لكن يبقى وضع اللمسات الاخيرة حول اخراج السيمفونية مرتبط بشكل او باخر بمآل شمال و غرب افريقيا حيث تتلاطم المشاريع السياسية- العسكرية – و الاقتصادية لقوى العولمة …. و اعتقد في هذا الإطار ايضا ان الجميع بانتظار التطورات في الجانب الاخر من المتوسط حيث تموج اركان الاتحاد الاوروبي بالصراعات و ينشغل الجميع بالطروحات بالتفكيك و اعادة الهيكلة و فرضيات الامتداد جنوبا… حيث الجزائر تمثل شريكا يمتلك الكثير من الامكانيات و القواسم مع قوى جنوب اوروبا التي تشكل احد تشكيلات اتحاد أوروبي مصغر و حيث الصراع الفرنسي الايطالي على اشده على القيادة و على رؤية و كيفية التمدد داخل افريقيا…

نتوقف هنا و ربما نعود لاحقا عندما تتجدد الأحداث في الجزائر و عبرها و حولها… حبي للجميع

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here