رأينا في العدل الجزء الثاني

مفهوم العدل عند الشيعة :

لقد أخطأت الشيعة حينما أعتبرت – العدل – أحد أصول الدين ، حين أرتكبت مخالفة معرفية ومجازفة غير محمودة حين أعلنت عن ذلك وتمسكت به ، ففي التعريف الأولي لأصول الدين نكتشف إنها موضوعة عامة ، لا تتحرك وفقاً لما يعتبره الفقيه أو الكلامي ، إنما ينطلق من نظرة عامة للدين بوصفه العام نظرة شمولية للحياة والكون ، وفي أن ما ذهب إليه الشيعة في تعريفهم للدين وماهيته ثمة مغالطة مفهومية ومعرفية ، وفي ذلك إنما ننطلق من تعريف الكتاب المجيد للدين ، الذي يعطينا تعريفاً مغايراً لما هو سائد في أدب المتكلمين وأهل الفرق ، فالدين عند الله و في الكتاب المجيد هو ( الإسلام ) ، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى : – [ إن الدين عند الله الإسلام .. ] – آل عمران 19 ، ثم عرف الكتاب المجيد لنا الإسلام على إنه عبارة عن ( الإيمان بالله والإيمان باليوم الأخر والعمل ) ، كما في قوله تعالى : – [ إن الذين آمنوا والذين هادُوا والنصارى والصابئين من : ( آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا ) ، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا يحزنون ] – البقرة 62 ، هذا هو إذن دين الله الذي هو الإسلام ، وهذه هي أصوله وقواعده ومايقوم عليها ، وهذا ليس أخبارا وحسب بل وتعليلا كذلك .

الكتاب المجيد يقول : – إن أصول الدين الإسلامي المعتبرة وقواعده الثابتة هي : ( التوحيد والمعاد والعمل الصالح ) – ، وبهذا القول ينتفي المعنى الذي ذهبت إليه الشيعة في إعتبار العدل والإمامة والنبوة من أصول الدين ، كما تنتفي الأدلة التي أعتمدتها في هذا

المجال لأنها لا تستقيم ولا تنسجم وهذا المعنى ، يقودنا هذا للإقرار بالقول : – بإن ما ذهب إليه العلامه الحلي في هذا الباب كذلك ليس صحيحاً – ، فقوله : – إن العدل أصل عظيم تقوم عليه قواعد الدين والأحكام مطلقاً – ليس صحيحاً ، لأنه في ذلك يخلط بين المعنى الأصيل للعدل وبين المعنى الإشتقاقي له ، والتوهم الذي قاده لذلك أساسه إفتراض ذهني ورد على النحو الأتي : – في إعتبار العدل هو الرابط أو الصلة بين التوحيد والنبوة – ، وهذا الإفتراض الذهني هو إفتراض ظني لا يقوم على دليل ولا يستند إلى منطق ، ذلك إن موضوعة التوحيد شيء وموضوعة النبوة شيء أخر ، ولا دليل دال على أن صحة إعتبار الأول مترتبة على صحة وجود الثاني .

ثم إن هذا الإفتراض لازمه نفي صفة الدليل العقلي و إلغائه ، كما إنه يستلزم من جهة أخرى أن يكون العدل شرطاً مسبقاً في صحة التوحيد والإيمان بالتوحيد ، وجعل ذلك لازماً من لوازمه أو مقتضا من مقتضياته .

وإذا كان ذلك كذلك : فهل التوحيد والتصديق به دليله النقل أم العقل ؟ ، وأيهما أسبق في الإعتبار و الوجود النقل أم العقل ؟ ، أقول : بحسب مقولات أهل المنطق يكون النقل متأخر رتبة ودرجة عن العقل في الوجود والإعتبار ، وإلى ذلك وردت الإشارة من الإمام علي وهو يبين السر من بعثة الأنبياء قال : ( ليثيروا للناس دفائن العقول ) ، فثورة العقل وردت في سياق النص للإشارة لما هو آت ، ويكون العقل بهذا اللحاظ هو القادر وحده على تحريك ما في النقل ليكون ممكنا سواء بواسطة الفعل المباشر أو الفعل غير المباشر .

وكما أن التوحيد يلزمه الدليل العقلي ، كذلك تكون النبوة لازمها الدليل العقلي سواء في إثباتها أو في التصديق بها ، وهذا يُظهرُ سابقية العقل على النقل ، ومن هنا نفهم صحة ماذهب إليه أهل الفلسفة بقولهم : – و

النبوة تحتاج في إثباتها لدليل منفصل – ، وهم يعنون بذلك الدليل العقلي .

نعم يكون الدليل العقلي بمثابة الأرضية التي من خلالها يتم القبول أو التصديق أو الرفض ،

ولا يعني هذا إن إلتزامنا بالدليل العقلي ينفي الحاجة للأدلة المضافة ، بل على العكس فكل دليل تال يكون بمثابة وسيلة إيضاح ، وهذا القيد التوضيحي أتينا به في حضرة البعثة النبوية لخاتم الأنبياء محمد ، والتي أنتفت معها الحاجة إلى المعجزة الحسية أو التجربة العيانية ، تلك التي أدت دوراً إيضاحياً لا بأس به في المراحل السابقة من بعثة الأنبياء ، ولكن هذا النوع من أدوات الإيضاح لم تعد تلبي الحاجة ، في ظل حركة النقلة التي حصلت للعقل الإنساني ، وفيها دخلت – النبوة – مرحلة التحول أو الإنتقال من حال التجربة إلى حال الإدراك العقلي المجرد ، ولهذا السبب الموضوعي قلنا : – إن ما قال به العلامة الحلي لا أساس موضوعي له ، ولا ندري من أين أتت نظرية الصلة المزعومة والتي تمسك بها ؟ – ، ثم إسقاطات هذه النظرية وتواليها على العلاقة بين التوحيد والنبوة ومن ثم على العلاقة بين النبوة والإمامة ، وهذا كما هو ظاهر إتجاه في الفكر مرفوض ويناقض ما عليه مبادئ العقل ومسلماته ، ثم إنه ببساطة يبطل معنى الإيمان بالتوحيد العلمي العقلي والذي تميل إليه في الغالب معظم المدارس الفكرية في العالم ..

نعم لقد بينا في بحث سابق عن طبيعة النبوة وكونها : – شأنا مستقلا مرتبطا بمُراد الله وحده – ، وبأنها في الأصل الأولي تقوم على – الإصطفاء – من قبل الله ، وهي معرفة يقينية تتم بواسطة الوحي .

وقد وقع خلطا في المفاهيم لدى عامة المسلمين بين النبوة والرسالة وبين النبي والرسول ، ولهذا ترآهم لا

يميزون في ذلك وعندهم الأثنين بمثابة الواحد ، ولهذا أيضاً أختلطت الموضوعات والأحكام ، مع إن لكل منهما شأنا وموضوعاً ومعنا مختلفاً ، فالنبوة مثلاً : – ليست من خواصها ولا من طبيعتها و لا من شأنها البحث عن أو في الأحكام والتشريعات – ، والنبي لا يقوم بدور الحاكم ولا يؤدي ذلك الدور ، ومجال عمله ينصب في البحث بواسطة الدليل العقلي عن كيفية الإيمان وطريقته ، الإيمان بالوحي وبالغيب وبالوحدانية والتصديق بذلك ، وهذه تلازم حركة العقل حكماً ودوره في تعزيز فكرة الإيمان عبر الدليل العلمي .

وعليه فالنبوة لا تبحث في الاحكام والتشريعات ولا في تطبيقها وتنفيذها ، فهذه العملية ليست من أختصاص النبي ولا هي لازم من لوازم النبوة ، وإذا كان ذلك كذلك ، فهذا يقتضي أو يستلزم : – رد الفكرة التي تبناها الحلي حكماً وموضوعاً في هذا الشأن – ، لأن تلك الفكرة يُراد منها إستلال فكرة الإمامة من النبوة وبكونها مرتبطة بها وجوداً وعدما ، وهذا كله وهما مضافا إدعاه الحلي و ظنه كرابط وصلة وصل في هذا الإتجاه .

وأما الإمامة فلا يصح فيها الإصطفاء بل ولا يجوز ، هذا بإعتبار موضوعها ودورها وشأنيتها ، فهي من جهة ترتبط بما يقرره الناس وبما يختارونه عبر الإنتخاب الشعبي ، ولا توجد إمامة بالمعنى الديني المحض ، إنما هي حاكمية وإدارة لشؤون الناس والمجتمع ، ولهذا نقول : – لا يكون الإمام إماماً بمعنى حاكماً على الناس إلاًّ بالإختيار أو الإنتخاب من قبلهم – ، وحين عرف الكتاب المجيد الإمامة لم يخرجها من هذا المعنى ، حتى حينما قال الله تعالى : ( .. إني جاعلك للناس إماما .. ) – البقرة 124 ، أي جاعلك رسولاً فالرسول حسب هذا

المعنى هو الإمام ، أي إن – مقام الرسول هو مقام الإمام – ومقام الرسالة هو مقام الإمامة ، وإلى ذلك أشارت المقولة التالية – ليس كل نبي رسولاً – ، في المعنى الذي ذهبنا إليه .

ناهيك عن إن متعلق الرسالة وفعلها في الحياة مرتبطا بإدارة شؤون الناس ، وتنفيذ وإجراء القوانين والتشريعات ، وهذه ليست من مهام النبوة ولا من وظائفها ، والفرق هذا كفيل برد مقولة الحلي ومن تبعه في ذلك ، وكما قلنا ونقول : – ( لا تصح الإمامة بالوصية ولا بولاية العهد ولا بالوكالة ) – ، وإنما تصح الإمامة وتثبت بالإختيار والإنتخاب الشعبي العام ، كما ولا يجوز إخراج دور الرسول في الحكم والإدارة من هذه القيدية وهذا الشرط ، وإلى هذا ألمح النص بالقول : – [ … وشاورهم في الأمر .. ] – آل عمران 159 ، وفي مكان أخر قال : – [ .. وأمرهم شورى بينهم .. ] – الشورى 38 ، وأعمال الرسالة ووظائفها التشريعية والتطبيقية لا تتم بالقهر والإكراه ، وإنما بالحوار والجدل بالحسنى ، ولا يصح من الرسول فرض شخص بعينه على الناس ليكون لهم إماما ، إنما يصح منه الإرشاد والتوجيه بإعتباره فرد من المجتمع ، له رأي في مجال الحكم والإدارة ، والناس ببعد مفوضين في الأخذ بذلك أو توخي المصلحة بحسب الواقع .

ولا نعلم الصلة بين الرسول ولزوم إختيار من يتولى الحكم من بعده والعدل ، نعم هو توجيه إرشادي إن صدر عن الرسول ، ذلك لأن الحكومة ورعاية شؤون العباد مهمة يضطلع بها الناس في خياراتهم ، وليس من يُفرض عليهم بالقوة والغلبة والقهر ، ودور الرسول في ذلك لا يدخل في الحيز التعبدي مطلقاً ، ولا تكون الوصية داخلة في هذا الباب ، إنما المعلوم من خلال جملة الأدلة : – إن الرسالة قد طرحت وتبنت موضوعة الحكم وكذا شروط إنتخاب الحاكم – ، على نحو عام وتركت التفاصيل للناس فهم أولى بشؤون دنياهم ، ومن هنا نقول : – إنها لم تترك الأمر سدى كما يظن بعض المروجين ، إنما تبنت تنظيم قواعد الإنتخاب وركزت على مفهوم ومعنى تصحيح المفاهيم في هذا الشأن – ، مؤمنة بقدرة

الناس على إختيار ما يناسبهم ويديم مبدأ التعاون والعمل الصالح .

إن الترويج الذي تتبناه المذهبية الضيقة و إلغاء دور الرسالة كمؤوسس للحاكمية ، هو الذي عطل مبدأ الإنتخاب و الإختيار الشعبي ، كما وساهم في تعطيل دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، مما كان له أثراً في تعطيل دور المؤوسسات والقوى المجتمعية في رصد وتوجيه المجتع لكي ينتخب الأقدر والأكفأ والأنزه على تولي المسؤولية والحكم ، وماذهبنا إليه مارسه الإمام علي بكل تفاصيله ، فهو لم يرفض ما نتج عن السقيفة على نحو مطلق ، وقبل أن يكون سادس ستة في الشورى التي أختارها عمر بن الخطاب ، وآمن بطريقة البيعة التي حصل عليها من الناس بعد مقتل عثمان ، ونضيف في الأثر : موافقة الإمام الحسن على معاهدة الصلح مع معاوية ، وموافقة الإمام الحسين على دعوة أهل الكوفة له للبيعة والخلافة بعد هلاك معاوية .

إذن فهذا هو المنهج الصحيح والذي يجب أن يُتبع ، في تولي الحكم والإمامة الزمنية ، ذلك إن الإمامة في الواقع ليست دينية إنما هي حق مجتمعي تكون للأصلح والأقدر ، وبقي أن نقول : – لم نجد صلة بين موضوعة التوحيد والنبوة والإمامة من جهة والعدل من جهة ثانية ، كما زعم العلامة الحلي ، مضافاً إلى هذا وذاك الطبيعة الموضوعية المختلفة لكل واحدة من هذه الأشياء والمكونات عن العدل ، لا بصفته التكوينية الإشتقاقية ولا بصفتها التشريعية – ..

تنبيه :

قلنا إن الصلة بين التوحيد والنبوة والإمامة وبين العدل لا تدخل في باب الوجود والعدم ، أي إنها لا يتم وفق ذلك وبمقتضاه ، إنما تكون بحسب المعنى التصوري والتخيلي الإعتباري لمفهوم

الصلة ، والتي تحصل للفرد من باب الإفتراض الذهني الخالص ، وبما إن مفهوم العدل لا يتعدى المفهوم الإشتقاقي فهذا يعني نفي الصلة أو الإستلال ثم التوظيف اللاحق بلسان المتكلم أو الأصولي ، وهذا هو الممنوع عندنا والممتنع الوجوب أصلاً ..

وبما إننا قد أجرينا قواعد الإيمان و الإعتقاد هناك ، فسنجريها هنا كذلك في رفض الملازمة والصلة بين ( التوحيد والمعاد ) ، ونقول : من حيث المبدأ لا يمنع العقل ذلك ، وبان تكون الصلة بينهما بمثابة المقدمة في التصور الإفتراضي و القائل : – يتولد الإطمئنان من الإيمان بالعدل ومنه تتولد الثقة بالوعد الإلهي – ، وهذا القول هو معنا نظري إفتراضي إشتققناه من معنا ذهني ، والعقل لا يمنع مع ذلك ولا يرده ، لأن أصل الإشتقاق مفهوم و مقدمة عقلية محضة تقوم على أساس : – إن الله وعد عباده في الآخرة ، ( فللمحسن منهم الثواب وللمسيء منهم العقاب ) – ، هذه المعادلة قامت في الأصل على أساس العدل ، أي التوازن بين العمل والأجر – ونريد بالعمل مفهومه الدنيوي – ، والذي هو أصل إعتباري تصوري كذلك .

وعلى هذا الأصل أقام الأصولي دليله في إستنباط الحكم على قاعدة : – إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً – الكهف 30 ، وهذه القاعدة أو هذه العلاقة بين العمل والجزاء أعتبرها الأصولي واجبة على الله وأدخلها في باب عدله ، ولكن لا نعلم من أين أتت قضية الوجوب على الله ؟ ، هل المتعلق بالوجوب هو حسن الظن بالله أي المتعلق الذهني ، أم الوجوب هو بأصل العلم بعدالة الله ؟ ، وبالفحص سنجد إن السؤال والجواب لا يخرجان من باب الإفتراض العقلي ، القائل : – بما إن الله محسن فهو لا يفعل القبيح – ، وهو لذلك لا يعاقب ولا يجازي من غير حجة

ودليل ، قال : – ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا .. ) – الإسراء 15 ، فالعقاب من غير دليل أو حجة يُعد قبحاً ، ولا يعقل ان يفعل الله القبيح وهو يدعوا للحسن وخير العمل ، و فعل القبيح لازمه الجهل بالفعل والعمل ، والجهل بحسب التصور العقلي ممتنع على الله ، كذلك يمتنع العجز وعدم القدرة على الله في أن يفعل الحسن ، والعقل يقول : – إن الفعل الحسن لازم على الله – ، لكونه محتاج إلى ذلك في خلقه وصنعه ، ولا ضير إن قلنا : – إن الله محتاج لفعل الحسن ، طالما كان المتعلق به فعله في الموصوف والصفة – ..

تبنت الأشاعرة رأي أو فكرة مشتقة في أصلها من نص يقول : – [ لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون ] – الأنبياء 23 ، وبحسب الدلالة التصورية لمعنى النص ، فهم لا يريدون بذلك المعنى السلبي ، إنما يقولون ذلك في باب الإمكان أو من باب الفرض ، بمعنى ان الله قد يعاقب المحسن حين يرى الله إن مفهوم الإحسان لا ينطبق على عمل هذا وفعله ، و صفة الإحسان وتقريرها يحدده الله عندهم ، وفي ذلك لا يصح القول : – إن الله ظلاما للعبيد – ؟ ، بمعنى إن الحكم منه متعلق ليس بحسب الظاهر ، إنما حكمه متعلق بعلمه الواقعي ، وهذا ينطبق على إن الإطمئنان للعمل من جهة العبد تجاوز غير مرغوب ، وإنما الصحيح هو طلب الرضوان وإن ينطبق مفهوم العمل على المصداق عند الله وليس في الذهن ، وهذا الرأي الأشعري إن كان في هذا السياق فلا غبار عليه ولا شية فيه ، ذلك إذا كان الكلام كله مقدر عند الله ، وليس عندنا و فيما نفهمه نحن في عالم الدنيا ، ووجهات كلام الأشعري حين يتعلق الأمر عند الله و في عالم الأخرة .

وأما في عالم الدنيا فالحسن والقبح مفهومان عقليان ، أي إن العقل يحكم على الأشياء بحسب طبيعتها المادية وما ينتج عنها في الدنيا ، ولهذا يجب التمييز في فهم وإدراك المصطلحات ، فإعتقادنا شيء والحكم على صحة الإعتقاد شيء

أخر ، ومن هنا قبلنا فكرة القائلين بالرضا الإلهي فيما يحكم به في الأخرة ..

وسنعود للتذكير في التعريف الأولي للعدل والذي قلنا فيه – بأنه ضد الظلم – ، والمقابلة في المعنى ذهنية وعقلية ومنها يجوز توظيف ذلك حتى في مقام االله ، ونقول : – لكي ننفي عن الله صفة الظلم في قضية التكوين – ، يلزمنا التأكيد على أن مايثيره الناس في مسائل الحياة من تفاوت وإحتلاف ومرض وتشوهات تكوينية ، ليس ظلماً والمسؤولية في ذلك لا تقع عليه ، مع إن الأمر لا يتعلق بالبشر وما ينتج عن فعلهم المباشر ، إنما هو متعلق ومرتبط بالخلق والتكوين ، وبما إن الكلام في التكوين فسنحيل الجواب إلى ما تقدم في الجزء الأول من هذا البحث فلا نعيد ، نعم يتأكد النفي في هذه الجزئية في عالم التشريع حين نفهم معنى دعوته للعدل بالصفة والفعل وهي لا تخرج عن مضمون التساوي أو قل التوازن ، ومن هنا جاء تعريف العدل في مقام التشريع بأنه ( وضع للشيء في موضعه ) ، ويصح هذا التعريف في مقام النفي للجهل والعجز والضعف عنه ، وفي المتابعة منه لتحقيق هذا التوازن من خلال تبني العدل صفة وفعلا هذا من جهة ، والتشديد على رفض الظلم صفة وفعلاً هذا من جهة أخرى ، ومن باب الملازمة العقلية – لا يصح أن ينهى الله عن شيء ويأتي به أو يتبناه – ، ولهذا قال : – [ إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ] – يونس 44 ، وفي مقام ثاني يقول : – [ إن الله لا يظلم مثقال ذرة ] – النساء 40 ، أو – أن الله ليس بظلام للعبيد – وهذا كله في مقام التشريع .

والظلم كما العدل لا يخرجان عن المفهوم المتبادر في الذهن عن معنيي الحسن والقبح ، وهذا ما يكون بالتقابل أو يكون بحسب دلالة اللغة و اللسان للمعنى ، والقبح كما الظلم يستحق صاحبه الذم والعكس صحيح ، وبتعبير دقيق العدل لا يسمى عدلا إلاَّ حينما يدل على الشيء الحسن في الواقع وبالفعل ، ومثله الظلم في التقابل لا يسمى الظلم ظلماً إلاَّ دل على الشيء القبيح في الواقع وبالفعل ، و لا

يصح نسبة الفعل للقبح أو الحسن إلاّ إذا كان مُراداً ومقصوداً ودل الدليل على ذلك ، وبهذا القيد نفهم ماذا تعني مفردتي الحسن والقبح العقليين عند المتكلمين ؟ !! ..

وخلاصة الكلام لا بد من القول : – إن هناك فرقاً بين مفهوم العدل الإلهي ومفهوم العدل الإجتماعي – ، والفرق نجده واضحاً فيما بين التكوين والتشريع ، ففي التكوين نفتقد للأسم أو أسم الفاعل ، ولكن في التشريع نجد الصفة والفعل حاضرين ، وفي هذا دلالة عن معنى الملازمة التشريعية ، وكأن المُراد في الواقع هو تحقيق العدل بين الناس على أساس مبدئي التوازن والتساوي في الحقوق والأولويات ، وما يتعلق بالتكوين فنرجع القول فيه إلى علم الله ، والذي وردت فيه النصوص تحت بند آيات الله ، ومع إن الأمر لا يخلو من سؤال سيظل يلاحق المتابعين والدارسين إلى أجل غير محدود ، ولعل العلم وما يحققه الإنسان من طفرات معرفيه ستجيب على بعض المسكوت عنه ، عن لماذا ؟ وكيف ؟ ، والذي يهمنا الآن هو التأكيد على تنمية وتطوير معنى العدل الإجتماعي الذي سعى لتحقيقه كبار المصلحين وأهل الفكر في العالم ، والذي به نحقق للإنسان بعض كرامته وبعض ذاته و معنى وجوده ..

آية الله الشيخ إياد الركابي

2 شعبان 1440 هجرية

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here