كرة الثلج الهولاكية!!*

الحالة الهولاكية كما هي راسخة في الأذهان تشبه الأساطير , فالذين كتبوا عنها لم يكونوا موضوعيين , إنما أمعنوا بالخيالية والتهويلية حتى تحولت الحالة إلى موضوع خارق , ومن بنات التصورات الهذيانية المنبثقة من ينابيع الرعب الشديد والموت الأكيد.

فالهولاكيون – إن صحت التسمية – مجموعة من الناس الذين هبّوا من قبائل مغولية تثأر للتجار الذين تم قتلهم في تركيا , وهاجوا وإنطلقوا بغضب عنيف أخاف مَن حولهم ومَن مروا بهم فانضموا إليهم , وتعزز هذا الإندفاع بإنتصارات متلاحقة على مجموعات قليلة من القبائل والقرى والمدن , التي عاثوا بها إجراما وتوحشا أفزع الخلائق فيها وبقربها , فتداعت للإنضمام إليهم خوفا على مصيرها الأليم الذي ربما سيكون على أيديهم.

ويبدو أن قادتهم قد إستثمروا في هذه الحالة التي جلبت لهم المزيد من القدرات والقوات , وأججت فيهم إرادة الهيمنة والإنطلاق نحو الآخرين أيا كانوا , لأن جمعهم تنامى وإقتدارهم تعاظم , فإشاعات الرعب المهولة أخذت تسبقهم إلى المدن والقرى , فيدب الهلع ويتحقق الإستسلام والخنوع لهم من غير حرب , لأن الدعايات التي كانت تنتشر على أنهم أقوام متوحشون لا يمكن للبشر أن يقف بوجههم أو يقارعهم , ولهذا فأن المئات من المدن قد إستسلمت لهم ودخلوها بلا حرب وفعلوا الجرائم البشعة فيها وبأهلها , وهم يقنعون الناس بأنهم غضب الله المسلط على الظالمين والفاسدين , وأنهم ينفذون أمر ربهم بعبادهِ الآثمين , فأصبح الناس يصدقون بأن غضب ربهم قد حل بهم وأن مصيرهم المحتوم قد حضر , فكانوا يذبحون البشر وكأنهم المواشي والخرفان , بسبب ما أصابهم من شلل وإستسلام وتجمد رهيب.

فالهولاكيون لم يدخلوا معظم المدن بالحرب وإنما بإشاعات الخوف والرعب والترهيب , وبأساطير وخرافات تناثر ت حولهم , وما هم إلا من الذين أدركوا صدفة أن الإشاعات المرعبة تخدمهم , ويبدو أنهم من أبرع الذين إستخدموا إعلام الحرب للإنتصار على الآخرين.

وكان إعلامهم تسويقيا ناجحا ومهارة تدميرية فائقة التأثير , والتمكن والفعل المزعزع للنفوس والإرادات ومحق الوجود الذاتي والموضوعي لأية دولة , أو قوة تعصف فيها إشاعاتهم المدوية في الكيان النفسي والروحي والإجتماعي , فما أن تنتشر الإشاعة حتى يرتعب الناس وتخور قواهم وتضعف هممهم وتندحر إرادتهم , ويخيّم عليهم الذعر الشديد , فيتمزق المجتمع وتتشتت الدولة وتتحطم القوة نفسيا وسلوكيا , فتتحول إلى موجود خائر يحارب نفسه , ويذعن لمفترسه.

وبهذا تم تدمير بغداد وغيرها من الحواضر العربية السامقة , ذلك أن الهولاكيين قد تكاثروا وتعاظم عددهم مع تواصل إستحواذهم على المدن والقرى , لأنهم يجنّدون أبناءها ويسيطرون على أموالها ويسوقونها معهم نحو ما يريدون.

فالذين أحرقوا بغداد فيهم نسبة كبيرة من العرب , والقليل من الهولاكيين لكنهم هم القادة القابضين على مصير العرب الذين إنضموا معهم في رحلة تنامي كرة الثلج.

وقد بينت الرسائل المتبادلة مع القادة والسلاطين العرب أن الكتبة من العرب الذين يتباينون بدرجاتهم المعرفية والفقهية , أي أنهم عملوا مع الهولاكيين لتدمير العرب , وهم الذين شاركوا في حرق بغداد وتدميرها عن بكرة أبيها , وكذلك ما يتصل بالدولة العباسية من حواضر ورموز عمرانية وإنسانية.

فالقوة التي إقتربت من بغداد لم يذكر المأرخون كم نسبة العرب وغيرهم فيها , إذ ليس من المعقول والصائب أن يكونوا جميعهم من الهولاكيين الذين إنطلقوا من منغوليا , ولكنهم مجاميع متنوعة متعددة الأعراق إنضمت لهم وتعاونت معهم , للحفاظ على وجودها وللفوز بالغنائم والقيام بالإجرام المطلق .

وكان الجيش في بغداد قويا ومجهزا بالعدة والعدد , لكن الإشاعات المروعة أفقدته العزيمة وأصابته بالتخاذل , خصوصا وأن الخليفة كان الضحية الأولى لهذه الإشاعات , وما تمكن من الصمود والتحدي الذي يليق بالدولة العباسية وتأريخها , وإنما عاش في أوهامه وتصوراته , ونفسه المرعوبة , ومشاعره السلبية التي إنتقلت إلى قادته وعسكره وإلى الناس في الدولة , فإنهارت الدولة بما فيها والهولاكيون بعيدون عنها , لأن زوابع الإشاعات وعواصف الدعايات المخيفة , قد غلبتهم وإنتصرت على الدولة العباسية قبلهم , فلم يجدوا عند وصولهم إلا قوات خائرة ومؤمنة بالهزيمة لا بالنصر , لأن الخليفة لم يبث روح العزيمة والتحدي والإصرار على مواجهة الهولاكيين وهزيمتهم.

فدخلوا بغداد بلا حرب شرسة أو مقاومة حقيقية , وفعلوا الذي فعلوه من جرائم بشعة وقتل فظيع وحريق مبيد.

فأسباب سقوط بغداد ليست قوة الهولاكيين وحسب , وإنما ضعف الخليفة وإنهياره نفسيا وروحيا , وتجردة من العزيمة القيادية والإرادة المعبرة عن روح الدولة العباسية , وإذعانه للإشاعات والدعايات التي إنتشرت في ربوع الدولة وأصابت المواطنين بإنهيارات فردية وجماعية , فإنهزموا داخليا ونفسيا , وإستسلموا للغازين وهم يتصورون بأن غضب الله قد حل بهم , وعليهم أن يذعنوا لهذا القدر المحتوم.

وهذه الكرة الثلجية العدوانية تتكرر مرارا عبر التأريخ , وتعاني الشعوب منها وتُباد , لكنها تنبثق وتستعيد قوتها وتتكامل , فتداهمها كرة أخرى ذات عدوان جديد , وهكذا دواليك.

وتبقى العزيمة القوية والإرادة الإيمانية الدريئة الفولاذية النفسية القادرة على صد العدوان.

*قد يغضب المؤرخون مما تقدم , لكنه تقييم نفسي سلوكي للمأساة التي أصابت بغداد في 8\2\1258

د-صادق السامرائي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here