مخاض وحمل كاذب

علي علي

بين اللغط واللغو، والزعيق والنعيق، والنباح والضباح تنكشفت الغمة عن مخاض الجبل، والمعول عليه أن يلد فأرا -كما هو معهود- إلا أن النتيجة تأتي دائما مخيبة للآمال، إذ أن المخاض في كل مرة ألعوبة سمجة، وأن العملية برمتها (حمل كاذب). وقد أثار هذا المآل حفيظة الصديق والشريف والعفيف، بعد أن كانوا قد رفعوا أقداحهم لتقرع بشربهم نخب احتفالهم بالمولود المرتجى.

ذاك المخاض، مخاض العملية السياسية في العراق الجديد -كما يطلقون عليه- تلك العملية التي بدأت عام 2003 ولم تنتهِ حتى اللحظة، رغم تعاقب الأعراس الانتخابية مرات أربعا، وقد كان الأولى نعتها بـ (المآتم الانتحابية). وجدير بالذكر أن بعضها نسخة طبق الأصل من بعض، بمسميات تتغير، وشخوص تتبدل، وعناوين تعيد نفسها في عملية تدوير سقيمة وعقيمة، الأمر الذي يذكرني بمقولة مارك توين: “السياسيون مثل حفاضات الأطفال يجب تغييرهم باستمرار ولنفس السبب”.

ففي كل مرة تنتهي إجراءات الانتخابات النيابية، ويعود الناخبون من مراكز الاقتراع، مضمخين سباباتهم بتأييد بنفسجي بنية صافية، وياخيبتهم لو علموا أنهم يعودون دوما بخفي حنين، ويا ليت الخفين صالحان، فهما الخفان ذاتهما اللذان لازماهم منذ عام السعد، عام التحرير، عام التغيير. ولعل اسما جديدا هنا أو لقبا مستجدا هناك، يوحي لفئة من المواطنين أن انفراجا يلوح في الأفق على يدي هذا أو ذاك، وإن كان حقا ما يتصورونه، فإن من المؤلم أن معية هؤلاء لن يدعوا الانفراج يتم عن آخره، وهذا ليس جديدا على النخبة الحاكمة في البلاد، إذ لطالما أطفأ سياسي ما أوقده رفيقه من شمعة تنير درب العراقيين، ولطالما حفر أحدهم لأخيه حفرا ليوقعه، ولطالما وضع زيد ما استطاع من موانع وعقبات أمام عبيد، ولطالما كسر سعد مجاذيف عمرو، ولطالما شوه هذا سمعة ذاك، وتطول قائمة التسقيطات وتتعدد أهدافها، بين تسقيط شخصي ومهني وأخلاقي وسياسي، فالغاية لديهم ميكافيلية، وعلى ضوئها يركبون أية وسيلة وموجة للوصول إليها. لذا فإن ما ينجزه سياسي شريف منهم، هناك إزاءه بالمرصاد عشرات السياسيين من غير الشرفاء، يقلبون إنجازه الى ما لا فائدة فيه ولا منفعة ولا جدوى، وقد صدق بشار بن برد حين قال:

متى يبلغ البنيان يوما تمامه

إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم

ولعل خصلة الإثرة التي لازمت أولي أمر البلاد في المجلسين التشريعي والتنفيذي، هي القطب الذي تدور حوله رحى التخلف والتقهقر والنكوص التي تعتري البلاد مجتمعة، وذلك مذ تسنموا مفاصل الإدارة والقيادة تحت قبتي مجلسيهما، وفي هيئاتهما ومؤسساتهما، وقد كان واضحا تمام الوضوح رفعهم شعار: (كلمن يحود النار لگرصته). أو لعلهم متأثرين بأبي فراس الحمداني حين أنشد:

معللتي بالوصل والموت دونه

إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر

ومن باب الإنصاف وقول الحق، لا ينكر أن هناك خيرين صدوقين مخلصين، يتوقون الى خدمة شعبهم، وهم مهنيون جادون في دفع عجلة البلاد الى الدوران بالاتجاه الصحيح، مسخرين

طاقاتهم العلمية وخبراتهم العملية فيما يصب بمصلحة البلاد وملايين العباد، غير أن مايصدمهم فيما هم ماضون فيه نفر من الذين أشرت اليهم، يعكرون عليهم صفو خططهم، ونقاء جداول أعمالهم، وسمو نياتهم، ونبل غاياتهم، فما يكون من الأخيرين إلا الاستسلام -طوعا أو جبرا- فينقضون غزلهم “بعد قوة أنكاثا” فيضيع جهدهم، وتتبدد هممهم. ولعل ما يجسد حال العراق اليوم، بما فيه من ساسة خيرين وآخرين سيئين بيت شعر يقول:

ولو ألف بانٍ خلفهم هادم كفى

فكيف ببانٍ خلفه ألف هادم

[email protected]

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here