افراحنا تتحقق، عندما تكون علاقاتنا في الحب بين ذات وذات !

* د. رضا العطار

لقد كان الفلاسفة المثاليون يضعون الطبيعة والانسان جنبا الى جنب، وكأن العالم الخارجي يضم كلا من عالم الاشياء وعالم الاغيار على قدم المساواة، وربما كان المأخذ الاكبر الذي طالما تعرضت له (الفلسفة المثالية) باعتبارها فلسفة علاقة Relation ، انها قد اعطت الصدارة لعلاقة الانسان بالاشياء على علاقته باخيه الانسان وكأن المعرفة اهم من المحبة. او كأن الاولية هي لعلاقة الذات بالموضوع وليست علاقة الذات بالذات.

لكن الفلسفات المعاصرة لم تلبث ان كشفت للانسان عن قيمة (الحب) باعتباره وعيا مليئا بشخصية الآخر – – – وبينما كان بعض فلاسفة القرن التاسع عشر يعرفون الحب باعتباره مجرد نزوة انفعالية عابرة، نجد بعض فلاسفة القرن العشرين من امثال ماكس شيلر وهارتمان يؤكدون ان الحب احساس بالآخر. وانه اعلى صورة من صور معرفة الآخر. فلم يعد الحب مجرد هوى جامح او نزوة عمياء بل اصبح حدسا عاطفيا بصيرا يسمح لنا بالنفاذ الى باطن غيرنا من البشر.

والحق ان ما يكشف لنا عنه الحب انما هو هذه الحقيقة الاساسية : الا وهي اننا لا نوجد الا بالاخرين وان العالم نفسه لا يوجد الا حين نكون (اثنين) ! فليست الرابطة الاساسية للانسان هي علاقته بالاشياء بل هي علاقته بالآخر. ولعل هذا ما عبّر عنه مارتن بوير حين قال : ان المحور الرئيسي في الوجود البشري ليس هو المحور بين قطبي (الأنا) والاشياء بل هو ذلك المحور الممتد بين قطبي (الأنا) و ( الأنت) وليس الانسان في الحقيقة فردية Individualite بقدر ما هو علاقة مع الاخرين على وجه التحديد.

ومعنى هذا ان العنصر الاساسي في الحب انما هو النزاهة والقيمة المطلقة لذلك (الأخر) الذي نحبه، فالحب عطاء تقدمه الارادة حين تعمل على اخضاع الطبيعة وحين تأخذ على عاتقها ان تضع نفسها تماما تحت تصرف الأخر. وليس هذا العطاء سوى منحة يجود بها الانسان عن طيب خاطر: لانه يشعر بانه ليس اجمل في الحياة من ان يحيا المرء للأخر. وان يجود بنفسه في سبيل الاخر – – – صحيح ان الحب مهدد في كل لحظة بالتحول الى رغبة في التملك او الانحدار الى هاوية الاستسلام حيث يصبح الانسان مجرد موضوع يتصرف فيه الاخر.

لكن من المؤكد ان الحب الحقيقي هو تلك العلاقة الثنائية التي لا يستأثر فيها احد الطرفين بمركز الثقل بل يعد كل منهما نفسه مجرد جزء من كل وينظر في الوقت نفسه الى هذا (الكل) على انه حقيقة تعلو على كل منهما بحيث لا يوجد الواحد منهما والاخر الا بقدر ما يشارك فيها. وهذا هو السبب في ان الحب الحقيقي لا يمكن ان يقوم الا على الشعور بالتبادل والمشاركة Communion واذا كان من شأن الحب القائم على الرغبة في التملك ان يستحيل بالضرورة الى حب فاشل يستنفذ ذاته في افعال (الغيرة) فما ذلك الا لان من شان هذا النوع من الحب ان يجد نفسه باستمرار عاجزا عن تملك الاخر ما دام جانب من ذاتيته الاخر لا بد بالضرورة من ان يندّ عن قدرة الذات على التملك !

الواقع ان المحب الراغب في التملك انما هو في صميمه (غيرة ) عدوانية تريد ان تستأثر بالأخر وان تحيله الى مجرد (موضوع) تمتلكه وتسيطر علبه وبالتالي فانه حب متهافت ينقص ذاته بذاته ويهدم نفسه بنفسه لانه ينتهي في خاتمة المطاف الى عجز تام عن امتلاك الاخر وفشل مطلق في السيطرة على هذا الاخر ! والاّ فكيف لمثل هذا الحب ان يحقق ما يهدف اليه من اشباع في حين انه حتى اذا نجح في الاستحواذ على الاخر فانه لن يجد بين يديه ذاتا حرة تجمع بينه وبين رابطة الحب بل مجرد (موضوع مملوك) تربطه به رابطة الحيازة او الملكية ! .

· مقتبس من كتاب فلسفة مشكلة الحياة، د. زكريا ابراهيم – جامعة القاهرة

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here