ما علاقة الديمقراطية بالتخلف وتفشي الخرافات؟

د.عبدالخالق حسين

منذ سقوط حكم البعث وإلى اليوم، هناك حملة مسعورة ومستمرة، ليس لتسقيط السياسيين العراقيين ما بعد 2003 فحسب، بل وحتى الإساءة للشعب العراقي، ونظامه الديمقراطي. وآخر هذه التلفيقات التسقيطية للشعب، وللديمقراطية، أكذوبة مفادها أن مؤسسة بحثية قامت باستطلاع كافة شعوب العالم لمعرفة قدرتها على التحدث باللغة الإنكليزية!، فاحتل الشعب العراقي مرتبة ما قبل الأخير. ومع الأسف، صدق كثيرون بهذه الفرية، وراحوا يعممونها على مواقع التواصل الإجتماعي، كما وأسرع البعثيون وأشباههم في إلقاء اللوم على الديمقراطية في كل ما يحصل في العراق من جرائم وفساد وإرهاب وخرافات، ونعتها بالديمقراطية “ألأمريكية”!! واستغلها أحد أيتامهم، فكتب تعليقاً سخيفاً قائلاً: هذه نتيجة الديمقراطية الأمريكية التي صدع عبدالخالق حسين رؤوسنا بها، فما جوابه على ذلك؟

جوابي هو أني بحثت في غوغل عن هذا “البحث” المفترض به أنه أكاديمي، فلم أجد له أثراً. لذلك فهو بلا شك كذبة أخرى من تأليف وتلحين وأداء أيتام البعث وغيرهم من أعداء العراق والديمقراطية. وحتى لو كان الاستطلاع حقيقة، وهو ليس كذلك، فما علاقة الديمقراطية بالتخلف والخرافة؟ فلو كانت الديمقراطية سبب التخلف ونشر الخرافة لكانت الدول الديمقراطية في الغرب والشرق من أشد دول العالم تخلفاً ومرتعاً للخرافة، بينما الحقيقة عكس ذلك. علماً بأن العراقيين معروف عنهم في رغبتهم الشديدة لتعلم اللغة الإنكليزية وغيرها من اللغات الأجنبية، حيث يبدؤون بتعلمها من تعليم الابتدائي. وهناك كليات مثل كليات الطب، وطب الأسنان، والصيدلة، والهندسة وغيرها تدرِّس معظم مناهجها باللغة الإنكليزية. وقبل أشهر استمعتُ من راديو بي بي سي، إلى محادثة بين مراسلها في العراق، وطالبة في كلية طب بغداد، تجيب بطلاقة بإنكليزية سليمة. ولما سألها المراسل كيف تعلمتْ الإنكليزية بهذه الطلاقة، وفيما إذا كانت قد عاشت في بريطانيا، فأجابت بالنفي، وأكدت أنها تعلمت هذه اللغة في المدارس العراقية، وحسنتها بالاستماع إلى البي بي سي، ومشاهدة الأفلام الناطقة بالإنكليزية.

لم يكتفِ صاحبنا بإلقاء اللوم على الديمقراطية في هذه الأكذوبة، بل راح يذكر موجة تفشي الخرافات، وما يقوم به بعض الدجالين المعممين من أمثال المدعو عبدالحميد المهاجر (اسم مستعار)، شاهدتُ له عدداً من لقطات الفيديو، ينشر خرافات، وبعضها مقززة ومقرفة، في أوساط الفقراء. ولا أدري ما ذنب الديمقراطية في تصرفات هؤلاء الدجالين. فالديمقراطية توفر حرية التعبير والتفكير، والشفافية، وتسمح للناس بالتعبير عما يريدون وضمن القانون، وفي هذه الحالة حتى أعداء الديمقراطية يجدون لهم موطئ قدم لبث سمومهم، والدجالون لنشر خرافاتهم. ولكن صاحبنا هذا يلقي اللوم على الديمقراطية (للكشر)، على حد تعبيره، وعلى أمريكا بالذات، وكأن عبدالحميد المهاجر أحد خريجي جامعة هارفارد الأمريكية العريقة، وأرسلته أمريكا خصيصاً للعراق لنشر الخرافات!! عجيب أمر هؤلاء.

غني عن القول، أن الغرض من هذا التسقيط هو ليقولوا أن أحسن نظام عرفه العراق هو حكم البعث. والكل يعرف مدى الأضرار البليغة التي ألحقها حكم البعث بالتعليم ، حيث أعاد العراق إلى ما قبل الدولة وتكوين الشعوب. يجب أن يعرف هؤلاء أن التخلف والخرافة، وتفشي عدم الشعور بالمسؤولية والوطنية وغيرها هي من نتاج حكم البعث وليست وليدة ما بعد سقوطه.

أكاذيب لا نهاية لها، وكنت في الماضي أجمعها، وأتصدى لبعضها وأحذر القراء منها، إلى أن سأمتُ منها. ولكن أيتام البعث وأشباههم لا يملون ولا يكلون، بل يواصلون ديندهم في الكذب. فكيف يسأمون، وقد تعلموا من أستاذهم جوزيف غوبلز صاحب مقولة: (إكذب ثم إكذب حتى يصدقك الناس، وحتى أنت تصدق كذبتك). وهذا بالضبط ما يجري في العراق مع الأسف الشديد.

وبالمناسبة، هناك ضجة هذه الأيام حول ما تناقلته وكالات الأنباء عما قالته النائبة العراقية السيدة هيفاء الأمين في ندوة عقدت في بيروت قبل أيام، مفادها أن هناك تخلف في العراق وخاصة في الجنوب. وهذا هو واقع الحال بسبب الإهمال المتعمد من قبل الحكومات الدكتاتورية الطائفية السابقة لهذه المناطق. فقامت عليها ضجة مفتعلة من بينها صحيفة (المسلة) الإلكترونية، كيف تجرأ لتقول مثل هذا الكلام “المهين” بحق أهل الجنوب؟ بينما، وكما علق أحد الأخوة في أحد مواقع التواصل الاجتماعي: لم نقرأ و لم نسمع من المسلة أية إدانة عندما قال فائق الشيخ على أن قندرة أحمد حسن البكر أشرف من هؤلاء (ويقصد بذلك المسؤولين وأعضاء البرلمان). أدرج أدناه رابط مقال السيد إياد السماوي حول هذه الضجة المفتعلة بلا مبرر(1). ولنا موقف من هذا الموضوع في مقالنا القادم.

فالديمقراطية أيها السادة هي سيف ذو حدين، يمكن استخدامه من قبل المثقفين التنويريين الأخيار لنشر الفكر التنويري، والتقدم الاجتماعي، ودعم العدالة، وفضح الفاسدين والمجرمين، وكذلك يمكن للدجالين نشر خرافاتهم، وللأشرار تضليل الشعوب، ولكن في نهاية المطاف، الديمقراطية نفعها أكثر من إثمها، بل ضرورة لا بد منها، إذ كما تفيد الآية الكريمة: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ).

في الحقيقة، الديمقراطية هنا تلعب دوراً إيجابياً في فضح الخرافات والأكاذيب وغيرها من الأمراض الإجتماعية. فالديمقراطية تكشف أمراض المجتمع وتفضحها من أجل مواجهتها من قبل المثقفين التنوريين لمكافحتها، إذ يجب تجنب سياسة النعامة التي تدفن رأسها في الرمال كي لا يراها الصياد. وقد نشرتُ مقالاً قبل سنوات في هذا الخصوص بعنوان: (الديمقراطية تفضح المجتمع العراقي)(2).

وللإساءة لها، يردد أعداء الديمقراطية أن هذه الديمقراطية هي أمريكية مزيفة. نؤكد لهؤلاء أن الديمقراطية هي واحدة وليس هناك ديمقراطية أمريكية، أو هندية أو غيرها، وهي من إنتاج فلاسفة التنوير الأوربيين لمئات السنين، و من أروع ما أنتجته الحضارة البشرية، وهي السبب الرئيسي في تقدم الغرب في جميع المجالات. أما الحكومات المستبدة التي حكمت شعوبها بالنار والحديد فهي التي تحارب الديمقراطية، وسبب تخلف شعوبها، وتفشي الخرافات فيها، لأن الديدان والطفيليات المرضية لا تعيش إلا في المستنقعات الآسنة، كما في الدول العربية والإسلامية.

لا نريد الدفاع عن الحكومة، لأن من يدافع عن الحكومة يعتبر من عملائها والعياذ بالله، ولكن الحقيقة يجب أن تقال، أن نظام الحكم الحالي في العراق هو ديمقراطي بكل معنى الكلمة، لأنه ملتزم بجميع شروط الديمقراطية مثل تعددية الأحزاب السياسية، ومنظمات المجتمع المدني، و الإلتزام بمواعيد الانتخابات الدورية ونزاهتها، وحرية الصحافة والإعلام، والتعبير والتفكير، وحرية العبادة وغيرها. وإذا كانت هناك مشاكل وتجاوزات، فأعداء الديمقراطية هم وراءها من أجل تشويه صورتها، وصورة النظام الديمقراطي.

يردد هؤلاء أن شعبنا ليس مهيئاً للديمقراطية، وهذا خطأ كبير، إذ كما قال الخبير الاقتصادي الهندي أمارتيا كمر سين، الحائز على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية لعام 1998: “يجب ألا نسأل أنفسنا هل شعب ما مؤهلاً للديمقراطية أم لا، وإنما يجب أن نعرف أنه لا يصبح أي شعب مؤهلاً للديمقراطية إلا من خلال ممارسته لها. لذلك، فالديمقراطية هي ليست الهدف فقط، بل وهي أيضاً الوسيلة لتحقيقها”.

وأضيف: إن الديمقراطية هي السلاح البتار لمحاربة التخلف والخرافة وليست سبباً لهما. [email protected]

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here