اخترنا لكم لأهميتها :كيف حطّمت الصين سور العزلة العظيم

بقلم مهدي قاسم

” منقول”

((
كيف حطّمت الصين سور العزلة العظيم
بعد
مرور 40 عاما على انطلاق الانفتاح، تمتلك الصين اليوم أكبر احتياطي من العملات الأجنبية، تجاوز 3 تريليونات دولار. ويصنف الاقتصاد الصيني كثاني أكبر اقتصاد في العالم، بناتج إجمالي يفوق 11 تريليون دولار.

الأحد
2019/03/31

الصين تجني ثمار عبقرية دينغ

لنبدأ بهذه الأرقام.. شهدت الفترة بين عامي 1944 و1978، أي منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية وحتى إعلان الانفتاح، سفر 200 ألف مواطن فقط خارج البلاد، بينما سافر العام الماضي وحده 130 مليون صيني إلى دول العالم المختلفة.

كيف حصل ذلك، ومن يقف خلف المعجزة الصينية؟

مهندس الانفتاح الذي أعلنته الصين عام 1978 هو دينغ شياو بينغ، “الدكتاتور الحكيم” الذي صنع قصة النجاح.

بعد مرور 40 عاما على انطلاق الانفتاح، تمتلك الصين اليوم أكبر احتياطي من العملات الأجنبية، تجاوز 3 تريليونات دولار. ويصنف الاقتصاد الصيني كثاني أكبر اقتصاد في العالم، بناتج إجمالي يفوق 11 تريليون دولار. وارتفعت حصة الصين في الاقتصاد العالمي من 1.8 بالمئة عام 1978 إلى 18.7 بالمئة عام 2019.

ولكن القصة بدأت قبل ذلك..

في عام 1920، ترك الشاب دينغ (مواليد 1904) قريته ورحل إلى ميناء شنغهاي، حيث تعلم شيئا من الفرنسية، فأتاح له ذلك الحصول على منحة دراسية في فرنسا، مع مجموعة من أقرانه.

“كان الشعور السائد في الصين حينها أن دولتنا ضعيفة، فأردنا أن نجعلها قوية، سافرنا إلى الغرب واحتملنا المتاعب لنتعلم”، هذا ما قاله دينغ في ما بعد، وهذا ما حدث.. جعلوا من الصين دولة قوية.

كانت غربته قاسية وكثيرة المتاعب، حيث كانت فرنسا تعاني من أزمة اقتصادية خانقة، فاضطر إلى قضاء خمس سنوات متنقلا بين أعمال بسيطة.

انضم في تلك الفترة إلى تنظيم البروليتاريا، وتعلم درسه الأول عن الشيوعية من عمال المصانع اليساريين. يسّر له ذلك السفر إلى موسكو لدراسة الماركسية اللينينية عام 1926.

عندما عاد إلى الصين نشط في الدعوة إلى أفكاره الجديدة بدعم من السوفييت. وفي أقصى الجنوب الصيني التقى ماو تسي تونغ، فنشأت بينهما علاقة قوية، بحلوها ومرها.

كان رفيق نضال وموضع ثقة مؤسس الصين الجديدة، لكن ذلك لم يكبح جرأته المعهودة، فأعلن خلافه معه. كان ماو تسي تونغ يفضل أن يبقى الصينيون “فقراء في ظل الاشتراكية، على أن يصبحوا أثرياء في ظل الرأسمالية”. وكان رد دينغ على ذلك “الفقر ليس اشتراكية (..) لون القط لا يهم طالما يصطاد الفئران”.

وجاهر بخلافه مع العديد من شعارات الثورة الثقافية، وكلفه ذلك الإبعاد القسري عن الحياة السياسية، مطلع السبعينات من القرن الماضي، حيث وقع نفيه إلى صحراء شنغيانغ، وأجبر على القيام بأعمال تنظيف مقار اللجنة المركزية للحزب الشيوعي.

وأطبقت عليه أحداث ما بعد ماو، بصراعاتها ومؤامراتها، تبتغي رقبته أو كتم أنفاسه.

ولكنه في كل مرة كان يثب ويبرز عاليا، إلى أن قدّر له في النهاية أن يقود دولة يسكنها خمس سكان العالم. وتحت قيادته دخلت الصين منعطفا جديدا، يليق بمكانتها وبنظرتها إلى نفسها والعالم.

بدأ شياو بينغ عهده أواخر السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، بإرسال البعثات الطلابية إلى الغرب لتعلم الهندسة والاقتصاد والإدارة الحديثة، معتمدا على التكنوقراط في حلّ مشكلات الصين. فكان الطلاب خير نخبة يعتمد عليها في الصناعة والتطوير والانتقال من مجتمع زراعي بحت إلى مجتمع صناعي.

بعد عام 1985 أصبح معظم الفريق الحاكم من التكنوقراط، واليوم باتت المجموعة الحاكمة في الصين من أكثر السياسيين على مستوى العالم، يتم اختيارها من النابغين في العلوم الهندسية والاقتصادية والإدارية.

ولا تزال الصين ترسل البعثات إلى نخبة كليات الاقتصاد والعلوم الهندسية في بريطانيا وفي الولايات المتحدة لاكتساب المعرفة.

وفقا لسياسة بينغ الجديدة، أصبح في مقدور الفلاحين أن يمتلكوا قطعا صغيرة من الأراضي يزرعونها بحرية لحسابهم، وأن يستثمروا مدخراتهم في المصانع والمعامل. وسرعان ما تغيرت الصورة في الريف والقرى.

لم تعد هناك مجاعة ولا شح في مواد الطعام، بل صار البعض يملك من المال ما يكفي لبناء مسكن. وظل يدعو الصينيين إلى اقتناص الفرصة التي أتاحها لهم.

يعتبر الانتقال من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق من أهم وأبرز إنجازات دينغ شياو بينغ.

في يناير 1979 زار الولايات المتحدة، وتمكن من إعادة ربط العلاقات مع واشنطن، وانتزع اعترافها الرسمي بالصين الشعبية.

وحقق حلما طالما انتظره الصينيون، وهو التفاوض مع البريطانيين لإعادة هونغ كونغ إلى الصين الأم عام 1997، لكنه لم يعش ليشهد هذه اللحظة، حيث توفي قبل أشهر من الموعد في 19 فبراير 1997.

وكانت آخر كلمات “الدكتاتور الحكيم” على فراش الموت “إن الزعماء والقادة بشر وليسوا آلهة”.

دينغ أن يجعل من الصين الضعيفة دولة قوية.. وهذا ما حدث حقاأراد الشاب دينغ أن يجعل من الصين الضعيفة دولة قوية.. وهذا ما حدث حقا

وكأنه أراد أن يعتذر من الشعب الصيني عن أي خطأ ارتكبه.

لعب شياو بينغ دورا كبيرا في نمو اقتصاد الصين، وفي تحقيقه لأهداف الرفاه الاجتماعي، متبعا في ذلك سياسة خارجية براغماتية. وبفضل سياسات الإصلاح التي انتهجها، تم فتح الأبواب أمام الشركات الخاصة والحكومية للاستثمار في الأسواق الداخلية والخارجية على مستوى واسع.

اليوم، بدأت سياسات تحقيق النفوذ تخلف السياسات الخارجية القائمة على البراغماتية، بقيادة الرئيس الصيني الحالي شي جين بينغ. حتى بات نفوذ بكين مصدر قلق لبعض دول العالم، خاصة مشروعها الذي يطلق عليه اسم “الحزام والطريق” وبات يعرف باسم “طريق الحرير الجديد”، ويشمل 68 دولة.

ما يعني أنه صمم لكسر الهيمنة الأميركية على التجارة العالمية من جهة، وتغيير النظام الدولي من جهة أخرى.

وتهدف الصين إلى إقامة خطوط جديدة للسكك الحديدية والطرق والموانئ والطاقة للربط بين الصين وأوروبا وأفريقيا.

وفي إطار المشروع، قامت الصين باستئجار ميناء غوادر الباكستاني الاستراتيجي، كما استثمرت في العديد من المنشآت الاستراتيجية في أوروبا، على غرار ميناء بيرايوس اليوناني، وأكبر شركات تزويد الطاقة الكهربائية في البرتغال.

وتعتبر الصين قضية إنشاء بنية تحتية في البلقان على رأس أولوياتها، حيث باشرت بإنشاء جسور في صربيا وكرواتيا. ومن المنتظر أن تختصر سكك حديدية جديدة وقت السفر بين بودابست وبلغراد إلى النصف. وهناك استثمارات أيضا في مصانع الحديد والصلب ومفاعلات توليد الطاقة الكهربائية.

ويصف مجلس العلاقات الخارجية، وهو مركز أبحاث أميركي، المشروع بأنه “أكثر مشروعات الاستثمار طموحا في مجال البنية التحتية عبر التاريخ”.

والمشروع، الذي كُشف عنه النقاب لأول مرة عام 2013، هو مشروع الرئيس الصيني القوي شي جين بينغ. ويرى فيه الكثيرون “حصان طروادة” الذي تسعى من خلاله الصين إلى توسيع نفوذها على صعيد الجغرافيا السياسية في العالم.

بينما ترى الصين في المشروع أداة لتحقيق المزيد من النمو الاقتصادي وتعزيزا للعلاقات التجارية.

وتوجه منظمات وجهات دولية اتهامات إلى الصين بأنها تمارس “العبودية المعاصرة” في القارة الأفريقية، حيث بلغ مجموع الديون والقروض التي منحتها البنوك الصينية لدول أفريقية 143 مليار دولار خلال الفترة بين 2000 و2017.

وتعهدت بكين بتقديم مساعدات للدول الأفريقية بقيمة 60 مليار دولار على شكل هبة وقروض دون فائدة.

وترى المفوضية الأوروبية أن الاستثمارات الصينية “كثيرا ما تتجاهل الاستدامة الاجتماعية والاقتصادية والمالية، وقد تنجم عنها مستويات مرتفعة من الديون”. مع ذلك أبرمت العشرات من الدول، من بينها 13 دولة عضوا في الاتحاد الأوروبي، اتفاقيات مع الصين لدعم مبادرة “الحزام والطريق”.

ويعمل قادة دول الاتحاد الأوروبي الـ28 على وضع أسس لجبهة أوروبية مشتركة في وجه بكين، تديرها باريس وبرلين، قبل قمة الاتحاد الأوروبي في 9 أبريل القادم في العاصمة البلجيكية.

هل كان الشاب القروي دينغ شياو بينغ يعلم، وهو في سن العشرين، أن 5 سنوات أقامها في مدينة ليون الفرنسية، حيث اكتشف الشيوعية واعتنقها، ستكون الحجر الأساس لتغيير مستقبل الصين، وربما العالم. وهل كان يتخيل أن 28 دولة أوروبية ستجتمع مكرهة لوضع خطة تواجه بها التنين الصيني.

ماو تسي تونغ كان يعلم ذلك.. في زيارة إلى موسكو عام 1957 خاطب الرئيس السوفييتي نيكيتا خروتشوف وقال له وهو يشير من بعيد إلى دينغ “انظر إلى هذا الرجل القصير هناك، إنه مفرط الذكاء، وله مستقبل عظيم يعلو كثيرا فوق قامته”.

أراد الشاب دينغ أن يجعل من الصين الضعيفة دولة قوية.. وهذا ما حدث حقا.

علي قاسم

كاتب سوري مقيم في تونس

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here