رحيل الجار الوفي

كان أسود مثقفا ثقافة السمع والفطرة، ومتحضرا في منطقه وفي علاقاته، لم يغتال عقله الوهم، الذي هطل هذه الأيام كعاصفة ترابية، واخذ يعمي العقول.
الأربعاء 2019/05/08

أسود وداعة رويح أحد الشهود على العراق المتسق مع نفسه
صار من العادة ألا يُرثى إلا أصحاب المعارف والأقلام والسياسة والمناضلون في الأحزاب والذين لهم شأن في الدولة، من خدمتهم الصدف وفرش الزمن تحت أقدامهم سجادة الحظ، وأنا أنظر للكثير ممن تولوا أمر العراق وصارت لهم أسهم في الدولة المنهوبة لولا الصدفة ما كانوا يُذكرون بشيء، ومثلما يُقال لا بالعير ولا بالنفير، وإذا هم اليوم لا يتنقلون إلا بطوابير من المدرعات الفارهة، وتناهبوا الألقاب والنعوت.

أسود وداعه رويح أحد الشهود على أكثر من زمن من عمر الدولة، يعرف تماما الأطفال الذين شبوا وصاروا مسؤولين، وربما مروا به ولم يتذكروه، ولم يبدوه بالسلام، ومن هؤلاء رفعتهم الأحزاب والتدين السياسي، وهو يعرف تماما تلك القفزة التي ليس لهم فيها فضلا.

بالأمس وصلني خبر نعي جارنا وعامل المدرسة أبي رعد أسود وداعه، الرجل النظيف المظهر والمتحضر اللسان، قياسا بما نرى في هذه الأيام.

دخلنا الأول ابتدائي وتخرجنا من الثانوية، وكبرنا تحت عينه، يقوم بمهام الأهل لنا داخل المدرسة، من هؤلاء التلاميذ صار معلما ومديرا في المدرسة نفسها، التي أخذت اسم العشيرة “الأسدية” تأسست 1924 ولظروف العيش لم يتعلم أسود فيها، لكنه حتى ظهره كي يكون شقيقه معلما، ولما عُين حميد في قرية قصية حمل أغراضه ليوصله أليها معلما مثلما كان يوصله طفلا.

كان أبو رعد مختصا بمديرنا المخضرم الأستاذ وحيد ناصر الأسدي، الذين يحسب حسابه كل شباب المنطقة، لأنه المدير في كل مراحل الدراسة. كثيرا ما كان أسود يحمينا من غضبه، ويسد ما ينقصنا. كنا في الرحلات المدرسية نسير بحمايته، ونؤمن عنده حاجاتنا، دون قلق.

كبرت الأجيال وتبوأوا الوظائف وأسود في مكانه، لم نشعر بأثر السنين عليه، كأنه ذلك الذي كان يستقبلنا صباحا ليستلم البيض منا، بعد تكليفنا بشرائه من الأهالي، وينقدنا الثمن، ثم يقوم وزملاؤه بتحضيره لنا، عندما كانت الدولة تقدم لنا التغذية، بيضة وخبزة وكوب حليب ورأس بصل أخضر وكبسولة زيت سمك.

كان يمسك بأيدينا عندما تأتي مفارز طبية موسمية، لعلاجنا من البلهارزيا وتقديم لقاحات الجدري والكوليرا. كبرنا وصرنا نعاند الدولة، فدخلنا معتقل المنطقة على أثر انتخابات طلابية، وإذا بأبي رعد أسود يدخل المركز ويقول أنا أكفل رشيد، عندما تقرر إطلاق سراحنا بكفالات، دخل قبل أن يأخذ الأهل بالخبر، ودون طلب من أحد.

قبل الخروج من العراق بعام، كنا نتمشى معا، في سكة فارغة، وهو يحكي لي عن مخاطرة العمل السياسي، كي ينبهني إلى ما أنا فيه، وبقيت بعد السفر الطويل اسأل عنه، قالت لي والدتي عندما رأيتها بعد خمسة وعشرين عاما، لما ترك الناس بيوتهم أثر حوادث 1991 ولم يبق معها أحد فلديها من البقرات ولا تقوى على تركها، قالت: صحت على جارنا أبي رعد هل أنتم باقون؟ فقال لها: نعم. وبقت بظل وجودهم.

كان نجله رعد خرج مع الخارجين ووصل إلى رفحا، وتأتيني رسائله إلى أبيه كي أبعثها من مكان محايد إليه، بعد أن اطلع عليها، حماية لأسود مما قد يزجه فيه نجله من انفعالات قد لا يحسب لها حسا داخل العراق آنذاك.

أتذكر ليلة ولادة رعد بعد شقيقته ليلى، فالمنازل منفتحة على بعضها بعضاً، والأبواب هي وأقفالها الثقة، والخُلق العالي، فكل يعرف حدوده وواجباتها، بلا مواعظ روزخونية، أو فتاوى وحكايات وهمية تُقال من على أعواد المنابر، وأعلم جيداً أن بساطته كانت تستند إلى وعي عالٍ، ذلك الوعي الذي حماه مِن التغول في لتخلف.

كبر رعد وصار موظفا صحيا، ويكتب لي عن أحوال والدتي في مرضها الأخير، وقد تولى إعطائها العلاج.

تصلني تحيات جارنا الوفي أسود، يود رؤيتي، وقد كف بصره، وثقلت عليه الحياة، فانسحب منها منزوياً في الدَّار، التي كان يشغلها، من الفجر وحتى الليل.

لم يمر يوم من الطفولة والصبا، بيسرها وعسرها، لم يكن لأبي رعد ذكرى أو أثر فيه، كان جزءا من تاريخ تعلمنا ونشأتنا وثقافتنا، فمن المعلوم أن القراءة والكتابة لا تحتكر الثقافة، كان أسود مثقفا ثقافة السمع والفطرة، ومتحضرا في منطقه وفي علاقاته، لم يغتال عقله الوهم، الذي هطل هذه الأيام كعاصفة ترابية، واخذ يعمي العقول، فإن للزمن وإدارته دوراً، فقد عاش أسود زمن انسحاب الشعوذة، وكف أثرها.

رشيد الخيون
كاتب عراقي

صحيفة العرب

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here