التكير الصائب والتوافق الاجتماعي 6 الحلقة الاخيرة

* د. رضا العطار

ينبغي ان لا ننسى ان الطمأنينة التامة والعواطف المشبعة . تحدث احيانا ركودا في التفكير . كأن النفس تقول : ( لماذا التفكير طالما كل شئ على ما يرام وليس ما يدعو الى الجهد ) . لذلك نجد ان الصعوبات كثيرا ما تثير التفكير . والاختراعات التي تكثر وقت الحروب يرجع الى القلق الذي تحدثه . وقد كان الجمود الادبي في عصر الملكة فكتوريا في انكلترى نتيجة للنجاح المالي المستمر . لأن الطمأنينة المالية التامة حالت دون التفكير وهذا حق . فنحن في حاجة الى قليل من القلق , كي نتذبذب به ونصحو وننتبه

التفكير امر هام يشملنا ويشمل بعض الحيوانات كذلك , ولكن الذكاء خاص يكاد يقتصر على الانسان, وتحرُك العاطفة يؤدي الى التفكير, اي الى نشاط ذهني محموم، حين ينزع الحيوان للبحث عن الانثى او الطعام . ونحن ايضا، حين نشتهي، نتصرف كالحيوان, تبعثنا العاطفة للبحث عن الطعام وعن الجنس الاخر .

ولكن التفكير العاطفي هذا هو احط انواع التفكير. حين ننساق في عاطفة ملتهبة لا نكاد نحس اننا نفكر . ولذلك يُنصح الغاضب ان يعدّ مئة قبل ان يرتأي او يحكم . لأن عاطفة الغضب تتسلط على عقله وتعطل ذكاءه . ولكن هذا التفكير العاطفي المعطل للذكاء هو التفكير العام بيننا تقريبا. اما تفكير العقل الذي يؤدي الى الذكاء بالمنطق والتبصر فقليل جدا. ومن هنا ينبع سبب تعاسة الانسان .

تصور رجل يسعى الى عيادة طبيب لمعاناته من السمنة المفرطة, فينصحه الاخير بعد الفحص والتأكد من حالته الصحية ان يتوقى النشويات في طعامه بهدف الاقلال من الوزن الزائد. فهذا عقل. ولكنه يجلس الى المائدة و تحدث عنده حركة انعكاسية بتحريك لعابه عند رؤية المكرونة, فتثار عاطفة الجوع وتغيب سيطرة العقل يهجم على المكرونة ويأكل بنهم, وبعد ساعات يتذكر.

او انظر الى الوالد الذي يعرف جيدا قيمة الرقة والملاطفة والحنان مع الاطفال, يرى ابنه يلعب ولا يدرس, فيتعصب وتلتهب عنده عاطفة الغضب فينهره ويضربه. فهو هنا اخمد عقله وترك التعقل والمنطق والرؤية واحيانا العاطفة الابوية.
حين نسلك سلوك العاطفة فقط نكون بهائم , نرى الاشياء رؤية ذاتية كما تصورها عاطفتنا ونحكم ونحن منفعلون بينما حين نسلك سلوك العقل نكون حكماء. نرى الاشياء رؤية موضوعية كما يصورها المنطق والواقع , اي كما هي تقريبا في الحقيقة ونحكم ونحن متعقلون.

انظر الى شاب ينوي الزواج ويعتمد على عاطفته الجنسية دون ان يحكم عقله. فهو هنا ليس بينه وبين الحيوان ادنى فرق. اذ هو يلتفت الى حمرة وجنتيها او تغريه ابتسامتها اوتعجبه توأمي صدرها البارزتين أو الى حركتها المياسة او الى كلماتها الرخيمة, او الى انها قد تشبه أمّه, فعاطفته وحبه الى امّه تجعله يتخيلها اجمل بنات الدنيا, والصورة التي في ذهنه عن هذه الفتاة قد صورها هو لنفسه كما يحب ان يراها وليس كما هي في الواقع

وانظر الى شاب آخر ينوي الزواج ويعتمد على عقله. فهو يسأل كيف تكون هذه الفتاة حين تصبح امّا بعد عشر سنوات ؟ كيف يكون جسمها وعقلها ؟ وهل هي من عائلة خالية من امراض جسمية او عقلية ؟ . واذا كنت انا احبها الان فهل احبها بعد عشر سنوات ؟ وهل ان مستواها الاجتماعي يساوي مستواي انا بحيث نشترك كلانا في القيم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمجتمع الذي سنعيش فيه ؟ .

وواضح ان الاول العاطفي يخفق في زواجه . اما الثاني العاقل فانه ينجح . لانه قد صورها في ذهنه كما هي في الواقع تقريبا وقس على هذا , فان اخطاء التفكير تقوم على اساس واحد وهو اننا نعتمد في تصرفاتنا على العواطف بدل العقل . اي الاعتماد على السلوك الحيواني بدلا من السلوك الانساني.

ان العقل يعود الى جملة عواطف، مختلفة ومتناقضة, يؤدي اخنلافها الى وقفة التردد, الذي يجعل الانسان يحس ويفكر. وانه حر في ان يختار من بينها او يؤلف بينها, وهذا التفسير لا يكفي, انه رأي السيكولوجيين والبافلوفين – العالم الروسي بافلوف – في ان العقل ماهو سوى ثمرة الانعكاسات المكيفة. لان العقل اكبر من هذا. انه ليس بذرة كما وصفوها بانها غدت شجرة كبيرة.

نحن غالبا نعتمد في سلوكنا اما على المنطق الوجداني واما على العقيدة العاطفية. وكثيرا ما نلاحظ ان المؤمن بعقيدة معينة يكره المنطق, كأنه يحب ان ينخدع, كما يحدث للرجل الذي يتعلق بحبيبته, ولا يطيق ان يسمع عنها خبرا يشككه في امانتها. ومن هنا جاء تعلق الناس بالعقائد دون الحقائق.

* مقتبس من كتاب عقلي وعقلك للكاتب الاجتماعي الكبير سلامة موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here