الهدف من سياسة التجريم والعقاب هو حماية المجتمع وتأهيل الجاني

د. ماجد احمد الزاملي

الدعوى الجنائية هي الوسيلة التي نص عليها القانون لضمان حق المجتمع في فرض العقوبة، وذلك بالتحري عن الجرائم ومعرفة فاعلها، والتحقيق معه، ومحاكمته، وتنفيذ الحكم عليه بوساطة السلطة المختصة بذلك ، فالدعوى الجنائية بموجب هذا التعريف تبدأ من وقت وقوع الجريمة وتظل قائمة الى حين انتهاء تنفيذ الجزاء الذي صدر بشأنه حكم بات من السلطة المختصة أو إنقضائها بإحدى الوسائل الاخرى التي نص عليها القانون في حين يذهب بعض الفقهاء الى ان هذه الدعوى تنتهي بصدور حكم بات فيها أو بأحد الأسباب الأخرى التي ينص عليها القانون مبررين رأيهم بوجود نص قانوني يأمر بذلك. ولم يعد من المنطقي ان تقف الوظيفة القضائية عند النطق بالحكم، لأن ذلك لايحمل تحديدا للعقوبة او التدبير، وانما يتحقق أثناء التنفيذ وعقب تطور الحالة ً ، كما ان الهدف المتوخى من الحكم يستبتع بالضرورة مراقبة السلطة القضائية لتوجيهه نحو تحقيق نتائجه، وفي ذلك ربط بين النشاط القضائي في مرحلة المحاكمة والنشاط العقابي اثناء التنفيذ، وهما من طبيعة واحدة حيث يكمل الثاني النشاط الاول النطق بالحكم لذا وجب إخضاعه لنفس السلطة المصدرة للحكم، وليس في ذلك إهدار لمبدأ الفصل بين السلطات لأن القاضي بمشاركته في النشاط العقابي لازال يباشر عملا قضائيا لا ينبغي ان يقف عنده ، لذلك فالرقابة المستمرة على التنفيذ لازمة لمد الخصومة الجنائية الى نهاية مدة التنفيذ، لأن الفكر الجنائي الحديث يجعل غاية الدعوى الجنائية إعادة البناء الاجتماعي للمحكوم عليه خلافا لما كان عليه في ظل الفكر الجنائي الكلاسيكي.

هدف سياسة التجريم هو حماية المصالح الاجتماعية والتي تقتضي حماية المجتمع والإنسان من الاعتداء عليه، وتتضمن سياسة التجريم أيضا بيان القيم والمصالح الجديرة بالحماية العقابية، ومنع إلحاق الضرر بها بإهدارها وتدميرها كليا أو جزئيا أو التهديد بانتهاكها لأن الأضرار الجنائية ماهي إلا نشاط مخل بالحياة الاجتماعية، وكل مجتمع يحتفظ بقواعده وأفكاره وقيمه التي تضبط النظام الاجتماعي. فالقواعد الاجتماعية تنظم سلوك الأفراد والجماعات التي تمثلهم، وبعض هذه القواعد تهتم بها سياسة التجريم فتنقلها إلى قانون العقوبات. وتباشر الدولة وظيفتها الجزائية لحماية المصالح الاجتماعية التي تسود المجتمع فتختار الجزاء الأكثر صلاحية والأقرب إلى التعبير عن مدى تقدير المجتمع لأهمية هذه المصالح. فإذا قدرت الدولة أن المصلحة تستحق أقصى مراتب الحماية القانونية عبرت عن ذلك بالعقوبة. وتتحدد المصالح الجديرة بالحماية الجنائية وفقا لظروف واحتياجات كل مجتمع وتتأثر بتقاليده ونظامه الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ويعتبر التجريم هو أقصى مراتب الحماية التي يخفيها التشريع على نوع معين من المصالح التي تهم المجتمع.

لقد أدى تطور المجتمع البشري و التقدم الذي أحرزه في مجال علم الإجرام و علم العقاب إلى بروز أسس جديدة ترمي في مجملها إلى التركيز على شخصية الجاني ، وأنسنة المنظومة مما ادى إلى ظهور اتجاهات إنسانية وعلمية من مظاهرها نظام تفريد العقوبة العقابية . و بات من الضروري تطوير أساليب الرقابة على مرحلة التنفيذ العقابي لتحقيق ذلك. والقضاء ركيزة أساسية يقوم عليها أمن وسلامة وطمأنينة الإنسان والأمان الاجتماعي نتيجة لتحقيق العدالة ومتى تحققت وجد الأمن والاستقرار والسكينة ومتى ساد الاستقرار تحققت الديمقراطية التي في ظلها يتمكن المواطن من ممارسة حقوقه وحرياته وأداء واجباته والتزاماته تجاه الدولة والمجتمع في العمل والإنتاج والفكر والإبداع والبناء والتنمية وتلك ثمرة العدالة ونظام يحكم الجميع. تسليط العقوبة على الجاني لا يجب أن يحول دون عودته إلى حظيرة المجتمع ، و ما تدخل القاضي في مرحلة تطبيق العقوبة إلا فرصة لمساعدة الجاني في العودة إلى وسطه الإجتماعي ، ويكشف هذا التدخل في الوقت نفسه عن الدور الإجتماعي المسند للقاضي الجزائي في هذه المرحلة ، و هو ما يوسع مجال تدخلاته ، و يتماشى

ووظيفته الأساسية و هي حماية المجتمع ، من أجل ضمان حسن سير عملياته و مع مرور الزمن تأكد هذا الإتجاه و تقرب عالم القضاء من عالم السجون ، فأصبح القانـون والعدالة يهيمنان على مرحلة تطبيق العقوبات ، التي تتطلب هي الأخرى توافر الإقتناع الذاتي لدى القاضي ، كما تتطلب إيجاد قواعد جديدة تشبه تلك القواعد التي تحكم الخصومة الجزائية ، إحتراما للحريات الفردية و مبدأ الشرعية ، و تحقيقا للهدف المرجو من وراء توقيع الجزاء الجنائي،وهو إعادة تأهيل الجاني إجتماعيا.

سياسة التأهيل والإصلاح هي في الواقع كانت وليدة السياسة الجنائية الوضعية التي اعتمدت على التفكير العلمي التجريبي ونادت بوجوب حماية المجتمع من المجرم لا من الجريمة وذلك عن طر يق فحص شخصية هذا المجرم وتحديد درجة خطورته الإجرامية وأسبابها ثم اتخاذ التدابير الكفيلة لمواجهة هذه الخطورة وعلاجها وهكذا نرى أن مركز الثقل في السياسة الجنائية قد تحول من الجريمة إلى المجرم وكان طبيعيا أمام هذا التحول أن تسود أفكار جديدة إجرائية و موضوعية لهذه السياسة كضرورة فحص شخصية المجرم لمعرفة درجة خطورته الإجرامية وعلاجها باختيار التدبير الملائم لها. وتعتبر مؤسسة ملف الشخصية من أهم المستجدات التي وقع إدماجها صلب قوانين الإجراءات الجزائية الحديثة، بفضلها أصبح من بين الإجراءات الموضوعة من قبل المشرع لضمان حقوق الفرد المذنب في محاكمة عادلة، ثم خضوعه لعقوبة تتلائم وشخصيته وإجراء بحث شامل حول ظروفه العائلية والاجتماعية والنفسية ، مما يستفاد منه أن شخصية الجاني تلعب دورا هاما في تحديد العقوبة ، فالتناسب عند الحكم بالعقوبة لا يكون بين العقوبة والجريمة، وإنما بين العقوبة والعناصر التي يتوقف عليها تحقيق أهدافها وهي الخطورة الإجرامية وجسامة الجريمة.

العقوبة السالبة للحرية تستهدف أساسا الى إصلاح المحكوم عليهم و إعادة تربيتهم وتكييفهم الإجتماعي “و أن التربية والتكوين ثم الأعمال النافعة هي من الوسائل الفعالة لإعادة التربية بالإضافة إلى العامل الدائم لترقيتها,وترمي إلى تهذيب خاصية السجناء الفكرية والأخلاقية بصفة دائمة مستهدفة بذلك حماية المجتمع.عكس ما كان عليه سلب الحرية وحده لا يعتبر عقابا رادعا، ولا يطفئ جذوة الانتقام التي تتقد في ضمير المجتمع، وكان ينبغي إيلام السجين لتحقيق الهدف من العقاب الذي هو مجرد قصاص تطهيري؛ لذا كان السجن في تلك الفترة مجرد فضاء يوضع فيه السجين رهن إشارة الجلاد لإيقاع العقاب الجسدي عليه . ونتيجة لتطور الفكر البشري والثورات التي تمت باسم حقوق الإنسان اقتنعت البشرية بان الحرية هي أثمن ما يملكه الإنسان، وأنها مكسب يتطلب الحفاظ عليه ليعتبر الحرمان منها أي الحرية: عقابا شديد القسوة وبالتالي باتت المجتمعات تعتقد أن العقاب الجسدي لم يعد له ما يبرره. و أكثر من ذلك ، فإما أن تكون المرحلة السالبة للحرية إبتداءا لحياة أفضل و إما إبتداءا لحياة أشد إنحرافا ، في المستقبل لما يمكن أن تزود به المجرم من حقد على الإنسانية و على المجتمع ككل ، و هنا يدور التساؤل حول المسؤولية المعنوية التي تتحملها المؤسسة الإجتماعية التي أنيط بها واجب التصدي للإجرام و العمل على الوقاية و العلاج منه ، تماما كما يسأل الطبيب المعالج في المستشفى ، ليس فقط عن الدواء الذي يصفه لمريضه أو عن العملية الجراحية التي يجريها ، و لكن عن الظروف التي تحيط بمريضه أثناء وجوده بالمستشفى ، لكي يأخذ الدواء مجراه الطبيعي دون أن يشل مفعوله إهمال الممرضات أو الفنيين القائمين على المرحلة العلاجية ، و كما لا يمكن للطبيب من الناحية المهنية و المعنوية ، أن يقول بأن وظيفته تنتهي عند وصف العلاج و إتمام العملية الجراحية ، كذلك لا يمكن من الناحية المهنية و المعنوية ، أن يقول القاضي أن وظيفته كقيم على المؤسسة المسؤولة عن التصدي للجريمة ، و معالجتها و الوقاية منها أن وظيفته تنتهي بإصدار حكمه. و الحكم النهائي لا يعد آخر مرحلة في مكافحة الظاهرة الإجرامية ، بل يعتبر إحدى مراحل عملية معقدة تستمر إلى ما وراء النطق بالحكم ، و أن الحكم الجنائي و ما يمليه من إعتبارات خلال مرحلة التنفيذ لايمكن تجاهله ، بحيث أن المبادئ التي تحكمه يجب أن تظل متجانسة من وقت النطق بالحكم إلى غاية نهاية التنفيذ. وعلى ذلك فإن أي قرار قضائي يفرض على

الجاني عقوبة أو تدبيرا ملائما ومناسبا للخطورة الإجتماعية التي سببتها الجريمة التي إرتكبها ، أخذا بعين الإعتبار الظروف التي أحاطت به عند إرتكابها ، فإن هذا القرار يكون أقرب إلى العدالة وأكثر تحقيقا لهدف العقوبة من ذلك القرار الذي لا يعير أهمية لمثل هذه الظروف وتأثيرها وفعاليتها ، ذلك أن الفرد هو نتاج لبيئته ومحيطه والعوامل الشخصية التي تحيط به ، فالعدالة الجنائية لا تتحقق إلا إذا نظر القاضي إلى الجريمة والمجرم نظرة شمولية ثاقبة ودراسته القضية المطروحة للوصول إلى جوهرها الإنساني. ويجب أن لا يكون إيقاع العقاب من أجل العقاب ، بل أن تكون غايته ومبتغاه التصدي للجريمة والحد من تفاقمها بجميع الوسائل العلمية والعملية . ومن هنا ذهب دعاة المذهب الإجتماعي إلى ضرورة اللجوء إلى فرض التدابير الإصلاحية بدلا من العقوبة كلما كان ذلك ممكنا وملائما للفعل.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here