لغتنا والادب العربي القديم

– * د. رضا العطار

تخضع الأداب في كل عصر من عصورها لمقاييس من التطور والأرتقاء مماثلة لسنين التقدم التي ترافق حياة الأمم والشعوب . فكان من الطبيعي ان يُنقل الأدب العربي القديم زمن الجاهلية ثم في صدر الاسلام, عبر الدولة الاموية شعرا ونثرا الى العصور العباسية بأزياء جديدة بعد ان اطل العرب على دنياهم المستحدثة وانتقلوا من عهود الفطرة والبداوة الى عهود الحضارة والعمران. ولم يتح لهذا الأدب مثل هذه النقلة في دولة بني امية لقرب هذه الدولة من انماط العيش في البادية ومحافظة الأمويين على التقاليد العربية الغابرة المنحدرة من ازمان الجاهلية، في مظاهر الحياة اليومية سواء اكان ذلك في الملبس والمأكل او في العادات والأخلاق.

اما بنو العباس الذين نقلوا حاضرتهم من الشام الى العراق عام 132 للهجرة بعد معركة الزاب، اعتمدوا على الموالي من الفرس, وقلدوا الساسانيين في ادابهم و عاداتهم وثقافاتهم وازيائهم وطرائق معيشتهم لا بل حاكوهم حتى في معالمهم العمرانية.
فهذا الخليفة هارون الرشيد يبني عاصمته بغداد على غرار عاصمة الفرس، طيسيفون – المدائن – دائرية الشكل مثلما بنى قصره على طراز عمائرهم المتميزة بالدواوين الفخمة. واقتبس العباسيون عن الفرس العلوم العسكرية والنظم المدنية في ادارة شؤون الدولة وصاغوا القوانين صياغة ساسانية بحتة, حتى ان معظم الوزراء كانوا من الفرس.

وفي الوقت الذي كان فيه الأمويون منشغلين في محاربة مناوئيهم والقيام بالفتوح, نجد العباسيين قد كفوا مؤونة الحرب وبسطوا سلطانهم على رقعة واسعة من البلاد المفتوحة , كانت تدر عليهم الأموال والثروات الطائلة. ومع توفر اسباب السلم والغنى تتوفر عوامل الأستقرار. التفتوا الى بناء حياتهم الاجتماعية والادبية على اسس جديدة لا يقوى عليها اصحاب المجتمعات البدوية. وهكذا تحولت حياة العرب من البيئة الصحراوية وطقوس الحياة في البادية الى البيئة العمرانية وطقوس الحياة في المدن , فتجاوزوا شظف العيش وقساوته الى رقيقة لينة وناعمة, فنسوا المضارب والخيام ليتعرفوا الى البيوت المشيدة والقصور، وعافوا الرمال والفيافي والفوا البساتين والرياض وخلعوا ملابس البادية الخشنة بنعالها المصنوعة من الحبال وعباءاتها المأخوذة من وبر الجمال, ليرتدوا الأثواب الناعمة من نسيج الحرير واقمشة الديباج وضروب الأزياء الممؤهة بالذهب.
وبعد ان كانوا يستمدون اخلاقهم من خصال البداوة الحميدة فيتشددون في العفة ويغالون في الأنفة ويتمسكون بالمروءة واهداب العزة, وبعد ان تأثروا في عهد الخلافة الراشدة بالمثل الأسلامية العليا, باتوا في العصر العباسي شديدي الميل الى اللهو والترف . لاسيما بعد ان تمازجت الشعوب وتلاقت عادات الأمم المختلفة في المملكة الواحدة.
كان من المحتم ان يتطور الأدب العربي في هذه الأجواء : فالنثر منه خضع لعوامل الأرتقاء واصبح اداة التعبير عن النشاطات الثقافية المختلفة, واما الشعر فقد اتسعت معانيه بما اقتبس من فلسفة الأغريق الأقدمين وزخرفه العباسيون بضروب الأخيلة وشتى الوان البديع وذهبوا مذاهب شتى في التوليد والأبداع.

وفي هذا السياق يضيف كاتب السطور قائلا : كان شعر الغزل ومجالسه من اكثر الفنون الشعرية التي قطفت ثمار الحضارة , لأن الخلفاء اكثروا من عطاء الشعراء, فظهرت طبقة من شعراء المجون, كان ابو نؤاس اميرهم في شعر الغزل. ومما ساعد على الحياة اللاهية, اقبال معظم الخلفاء على النعيم والترف والأخذ بأسباب البذخ على اختلافها. وقد اثرت هذه الأجواء العابثة حتى في اراء الفقهاء, فقام فريق منهم يحلل النبيذ ومن هؤلاء ابو حنيفة, فالشراب عنده وقف على عصير العنب. وفي هذا المجال يقول ابن الرومي

اباح العراقئ النبيذ وشربه * * وقال حرامان المدامة والسكر
وقال الحجازي : الشرابان واحد * * فحل لنا من بين قولهما الخمر
اما ابو نؤاس فقال
فأن قالوا حرام قل حرام * * ولكن اللذاذة في الحرام

هكذا اولع اهل العراق بلذائذ الخوان فكانوا لا يأكلون الا افخر انواع الطعام ولا يشربون الا اجود الخمور وتطلعت انفسهم الى النزهات والخروج الى الحدائق والرياض وافتنوا بتنظيم الموائد وتزيينها بالزهور والرياحين.

لقد انتشرت مجالس الطرب في بغداد والمدن الكبيرة, بعضها في الحانات العامة والأخرى في القصور الخاصة, وراج شعر التغني بالخمرة. ولا نكاد نستثني شاعرا عباسيا لم يصفها, فأذا هي لون تقليدي كالوقوف على الأطلال في الشعر الجاهلي.
فقد تبارى الخمريون في وصفها ونسبوا اليها مشاعر الأنسان و تغنوا بألوانها ووصفوها تارة بلون الذهب واخرى بلون الزعفران, كما نعتوا رائحتها وشبهوها بشذى ازهار المسك والعنبر و تصورا ان للخمرة طلعة وهيئة, فتارة هي الشمس في نظرهم واخرى هي الكوكب المضئ. واستلهموا من الطبيعة سحرها وجمالها ما يناسب اذواقهم وأستعاروا منها ما يلائم اعجابهم من الشبه والصورة واللون والشكل والمذاق.
هذا ما جاء في كتاب العصر العباسي الاول لشوقي ضيف.

* مقتبس من كتاب البلاغة العصرية واللغة العربية للعلامة سلامة موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here