رحلة إلى العالم الآخر ! قصة

كان ذلك بعد منتصف الليل حينما سمعت طرقات مدوية على باب بيتي ، الذي يقع على ضاحية المدينة ، بين بيتوا متباعد عن بعضها . وأعمدة الضوء تبعد عن بعضها بمسافة كبيرة ، وفِي هذا الوقت ، حينما تكتف السماء الغيوم ، يكون الظلام دامساً . فما سمعت الطرقات المدوية ، ارتجفت من الخوف ، ولم أذهب إلى الباب إلا بعد أن تكررت الطرقات ، ذهبت إلى الباب ، وأنا أرتجف , وخوفي يتضاعف ، مع كل خطوة ، فلم لم يكن مالوف لي أن بطرقي بابي بمثل هذا الوقت ، وبيتي معزول ، وصحت ؛

من ، من الطارق ، ماذا تريد ، من تكون !

غير لم اسمع أي جواب ، بيد ان الطرقات تواصلت بنفس القوة . ووفتحت الباب بحذر ، وما زلت أصرخ ؛

من. ، من ، من …..

ولم يأتني أي صوت أو رد ، ألقيت نظره أمامي ، عند الباب ، ونظر على جانبيه ، وأرهفت السمع ، ولكني لم أري شيء أو أسمع صوت ، فصحت بصوت مضطرب ؛ من جديد ؛
من. ، من ، من ……..
بيد لم يرد على أحد ، انتظرت لبرهه ، وأقفت في الباب ، وهوء بارد يهب بوجهي ، والظلام ، يكتف كل الأرجاء ، ماعدا أضواء شاحبة تتراقص هنا وهناك . ولكني لم اسمع أي حركة أو صوت . أغلقت الباب بهدوء ، وعدت لمكاني ، عند المنضدة التي كنت أجلس اليها أقرأ بكتاب ، وقد زادد خوفي ، وموتر سمعي ، فقد خلت أنه قد يعاود قرع الباب من مرة أخرى . وحينما جلست على الكرسي ، سمعت ، وأحد يقول لي ، من عند القنفة التي أمامي ؛
جئت لك بأمر مهم ، أريدك تذهب معي !
جمد الدم في عروقي ، وتسمرت في كرسي ، وأنا أحدق ناحية الصوت ، ولم أرى شيء ، وسمعته مرة ثانيه يقول ؛
لا تخف أنا جبرائيل جئت لك بأمر من الله ، أنه يريد أن يراك !
هل حان أجلي ، هل جئت لتأخذ روحي ؟
فسمعته يضحك ، فأنا لا رأه ولا اسمع سوى صوته . ومن ثم ، قال ؛
أنا لست عزرائيل ، ولست أقبض أرواح ، أنا رسول اللله .
تنفس الصعداء بعد سمعته يقول ذلك . ولكني لم أطمئن تماماً ، لما يدعوني له ، فلماذا يريد الله أن يراني .
ولكن لماذا يريد الله رؤيتي !
فقال على الفور وكأنه كان يتوقع سؤالي ؛
لا أعرف ، لا أحد منا يعرف ما يريد الله !
بيد أن قلقي راح يزداد ، ولذلك قلت له ؛
لماذا أنا ، لماذا اختارني الله؟
لا اعرف !
كان صوته كأنه يأتيني من كل مكان وينفذ في سمعي وكأنه يهمس بأذاني ، ولذلك ، كنت أظن وأخاله ، في كل مكان وليس أمامي على القنفة فقط . وحقيقة أني أنست ، وذهبت الخشية عني ، فهو لم يكن يأمرني ، وأنما يبلغني فقط . ولهذا قلت له ؛
هل يمكنني أن لا أَت معك ؟ لأني لا أعرف لماذا يطلبني !
فجأني صوته أشبه بالهمس ، ومن كل مكان ، بدون صوت ، وكأنه يحاء ؛

أنا لم أبلغ بجلبك ، وأنما بخبارك فقط ، فأنت حر !

هذا الجواب ألهمني جرءة وشجاعة ، حينما حدست أنه على وشك مغادرتي . خطرت لي فكرة ، فجاءةً ، بأن علي أن اغتنم الفرصة فمن ينزل عليه جبرئيل لن يفوت الفرصة لمعرفة شيء عنه وعن الله والكون ، فهذا الكائن حافل في الأسرار ، ويمكن أن يكشف لي شيء خطير قبل مغادرته . فأن أنه سيرجع يخبرني بما يأمر الرب مرة ثانية . إذا ذهب ، فلا شك أني في موقف لا يقدر بثمن ، فأنا أمام أكبر كائن في الكون بعد الله ، وعليه أهتبل تلك الفرصة ، أطرح عليه بعض الأسئلة لكي يكون لي سبق صحفي على الأقل . كان الصمت طال بيننا وأنا في غمرة تلك الأفكار فلم أعد أشعر بوجوده وأنفاسه . لذلك خاطبته ؛

جبرئيل ، ما تزال هنا ؟

وكالعادة جاء الجواب لي ، وقبل أن أكمل سؤالي !

نعم أني هنا ، أني انتظر طلبك ، قل ماتريد ، أني مستعد لجابتك !

أصابني دوار حقيقي مما سمعت فلابد أن يقرأ افكاري . ولهذا لم أعد أعرف كيف أبدأ الحوار معه . فزيارته قد فاجأتني ، ولم تكن لدي أسئلة معده سلفاً . لهذا رحت أبحث في ذاكرتي ، عن أكثر الأسلئلة حسم وضرورة ، وعلي أن أضعها في ترتيب معقول ، وأنا أبدأ معه منذ البدء . وأول ما خطر في بالي هو أن أسلئه عن عمره ، لذا قلت له ؛

كم عمرك جبرائيل ؟

فقال على الفور ؛

أنا لم أولد ، أنا خلقت بيد الله !

فأجبته مباشرة ؛

منذ متى ؟

فرد بسرعه ، وكأنه سئل من قبل نفس الأسئلته !

نحن لا نعيش في الزمان ،

لا شك أن بدايتي معه لم تكن موفقه ، ولذلك علي أن أسئله عما يعرفه أو أظن أنه يعرفه ، فخطابته ؛

هل رأيت الله ؟

فأجاب ؛

لا ، لم رأى الله !

كيف لم تراه وأنت جئت من عنده !

فقال بنفس الصوت لا محدد ؛ من أين يصدر ؛

أنا أتلقى الأوامر فقط ! أنا فقط احدس أنه موجود ولكني لم أراه أبداً ، وهذا يكفيني .

وحقيقة لم افهم ما يعني أنه لم يرى ألله وأنه يحدس بوجود ، فهل هو الآخر مجرد مؤمن ! فقلت بحيرة جبرئيل ،

أن لا فهم فهل أنت تؤمن بالله فقط ولم تراه على الإطلاق ؟

فقال بيقين ؛

الله لا يرى ، ونحن تحدس فقط بوجود ، وهو وعدنا في يوم ما سنراه عندما يموت .

فقلت بعفويه؛

جبرئيل حاسب على كلامك ، هل أنت ملحد ، هل الله يموت !

سمعت ضحكة تملئ فضاء الغرفة ، ثم إخذة تتلاشى بعد برهه ، ليعقبها صمت ثقيل ، وسمعته يقول بصوت تشوبه سخرية مرة ؛

البشر لديهم فكرة خاطئة عن الله !

بيد رددت على الفور ؛

أن أفكارنا عن الله ، أكثرها ماخوذة من الكتب المقدس ، فالله ، كما نعرف عن تلك الكتب حي لا يموت وهو أبدي ، فكيف تقول أنه يريد يموت !

أنا لا مؤمن بهذه الكتب ، وهي ليس فكرة صحيحة عن الله ، فلا تستشهد بها ، وكأنها حجة ،

صعقت من كلامه ، ولم اعرف ماذا يعني به ، لذا ، قلت له ؛

جبرئيل ألم تنزل أنت تلك الكتب على الأنبياء ، وتتطالبهم ببثها بين الناس ، ومن لم يصدقها سوف يكون عقابه النار ،أم ماذا ؟

فرد بشكل حاسم ، لا يقبل الجدل ؛

أني أعرف هذا السخافات التي قيلت بحقي وبحق الله ، ولكننا تركنا للعقل البشري الحرية في قبولها أو رفضها ، فهي واضحت البطلان ، ولم نتعب أنفسنا في تكذيبها . أما أكثرية البشر فقد صدقوها ، للأسباب مختلفة . فأنا لم أنزل على أي أحد بكتاب . فالناس لها الحرية في معرفة الله بالطريقة التي يفهمونها ، ولا تلق لهم ، هذا فكرتنا عن معرفة الله !

وحين سمعت ، هذا عن جبرائيل ، خالجني الشك ، هذا الذي يدعي أنه جبرائيل ، والذي حل علي ، ضيف في منتصف الليل ، أن يكون شيطان ، وليس جبرائيل جاء لكي ، يغريني ، بعد أصبحت صيد سهل لمثل هذا الغواية ، فقد تراكمت شكوكي ، في وجود الله لحد بعيد ، فحل لكي يكمل تلك الشكوك حتى نهايتها . غير أني سمعته يقول ، ما كنت على وشك أن أسئله أباه ، فقال ؛

لا لست شيطان ، وستعلم هذا حينما تصعد معي ، فهناك ستعرف من أكون ، فإذا قبلت أن ترحل معي ، فرحلتنا ، توشك أن تبدأ ، فأنا سجعلك تنام ، لكي أحملك لهناك !

فقلت له باستغراب ؛

لماذا تريد أن تنومني ، فأنا أحب أن أرحل معك مفتوح العينين ، وراء كل ما يصافنا !

فقال بثقة ؛

سوف ترى كل شيء وأنت نائم ، لا فرق ، فهل أنت واثق أنك صاح الآن أم نائم ؟

لم أعرف بماذا أجيبه ، فهل أنا نائم أم صاح ، فهذا ما لا أعرفه بالضبط ، لذلك فركت عيني بحدة وقرصت خدي بقوة ، ولكن هل قرصتهما وأنا نائم أم صاح ، هذا أيضاً ليس متأكدة منه فكل ما يحدث ، يبدو لي وكأنه يحدث في المنام . ولذلك لم ألح معه . وعندئذ سمعته يقول دعنا نذهب .

(٢)

كنا نطير أنا وهو كشهاب ثاقب ، كقصف الرعد ، نخترق سماوات وأفلاك لم تراها عين ولم يتحسسها تلسكوب ، نجوم وشموس ، وكأنها اللعاب نارية ، مجرات واسعه ، وكاداس من الغيوم والتراب ، والصخور المتاطيره ، تمر بِنَا في سلام ونتخرقها بدون أَذًى أو خشية ، منطلقين نسابق الضوء في فراغ رهيب لا يحده بصر ولا خيال . كنت أطير مع جبرأئيل ، كما لو كنت بفكري فقط ، فأنا ما عدت أحس بأي ثقل لي أو وجود لجسدي ، وما رأه من حولي لا أراه بعيوني ، وإنما بعقلي ” وبروحي . ونعدم لدي ، أي احساس بالزمان ، لم نعد نميز بين البرهة والدهر ، بمسافات شاسعة تقطع بلا زمان ولا عد ، فأبعد النقاط وأقربها كلها في مكان واحد . لذلك ، لم تدم رحلتنا كلها ، في ذهني أكثر من طرفة جفن ، فحينما فتحت عينايا ، وجدت نفس في عالم غريب كلياً عما عرفه ، عالم عامر في النور ، تتراقص فيه أشباح وظلال لاتعد ولا يحيط بها بصر وفكر . وفجاءة ، وكأن كل حواسي قد عادة لي ، وشرعت أتحسس الأشياء كما كنت أفعل في السابق قبل رحلتنا السماويه ، فصابني الدوار والذهول . فما يمكن للعيون بشرية يمكن أن تحمل وهج هذا النور الغامر وما تتراقص به من ظلال وأطياف . فندت عني. ، صرخت رعب ، بثت الفزع ، بكل ماهو موجود وحركته صوب صرختي ؛

جبرائيل أين أنا ؟

ولكني ، بغته ، احسست كما لو أني سقط من مكان شاهق ، على أرض صلبه ، وكان لسقوط دوي رهيب ، بث الرعب في كل الظلال والأشباح التي تملئ أرجاء هذا المكان ، بيد لم أحس بألم أو أي شيء آخر ، وكأني سقط على ريش النعام ، على أرض رخوة لا تحدث ألم ، غير أنها تحدث دوي رهيب ، راح يتترد صداه في الأرجاء ، ويوقظ كل من فيه . وسمعت صراخ وفرح غامر يتصاعد من كل أرجاء هذا المكان الفسيح ، وهم يصرخون بصوت واحد ؛

أنه حي ، حي ، إنسان حي ، حي !

سمعت هذا الهتاف في لغة غريب لم ألفها ، ولكني فهمتها في الحال ، كان لها وقع ونغم ، مختلف عن أي لغة بشرية سمعتها من قبل ، فهي أشبه بهمس الأشجار وحفيف أوراقها ، وشدو الطيور ، ممزوجه معاً ، بيد أني فهمتها في لحظتها وكأنها لغة منسية تذكرتها تواً .

وأخذت تدريجياً أسترد حواسي ، وألفه ما حولي ، وميز تلك الظلال والأشباح التي أحاطت بي ، وهي فرحه بسقوطي عليها . وبعد فترة طويله من التحديق وأنعام النظر ، تبين لي أن تلك الأطياف والظلال هي أشكال بشرية ، صور إنسان انمح كيانه كله ، ولم يبق منه سوى ظل وصورة عنها، ولكنها كافي لتعرف عليها ومعرفة صاحبها ، بعد أنعام النظر فيها ، إذا ،كنت تعرفه ، أو رأيت صورته أو تمثاله في مكان ما . وتجمهرت حولي أطياف كثيرة ، لم أستطع تميز أو معرفتها ، فهي أشكال بشرية تعود إلى الألف السنين . رغم عودت كل حواسي لوظائفها المعهودة ، فقد تجمعوا حولي بشكل كثيف ، فقد كان هبوط عليهم ، بجسم البشري فيما يبدو أحدث صدمة لديهم . وكانت الظلال والأشباح لأجسامهم ، قد تراكمت بعضها فوق بعض بعض ، فهم ليس بحلجة كبيرة لمكانه لتشغله ، كبقية الأجسام ، فهم يستطيعوا أن يتراكموا بعضهم على بعض، كأوراق الأشجار ، بدون أن يشعروا بثقل الآخر . ولكني ، مع هذا رأيت أحد تلك الأشباح ينحني فوق وينظر في أمعان ، ومن ثم خاطبني ، وقال ؛

أنا أبو العلاء المعري ؛ سكون مرشدك في هذه الرحلة ؛ فقد أوصني بك جبرائيل ، لكي أعرفك على كل ما يوجد هنا ،

ومد لي يده لكي أصافحه وأنهض ، وصرخت فيه. بلا شعور مني ، فقد فجاءني حضور هذا ، لأني لم أتوقع أن يكون أبو العلاء هو أو من القاه ، فصحت ؛

سيد المبصرين في زمانه أبو العلاء !

هون عليك ، لقد افرحنا حضورك ، فأنا في شوق لمعرفة أخبار معرة النعمان !

كان شبح أبو العلاء واضح ، فهو بدأ لي يعتمر عمامة ، وظلال وجهة مشرقه ، أما قامته ، فهي منتصبه ، وظلال جسده ، تدل ، على أنه في مقتبل العمر . ولم اقدر أن أجبه على سؤاله ، فأنا كنت أكثر منه شوق على معرفة ، حاله ، وتفكيره ، فقلته له ؛

أخبرني أولاً عن يقنك ، فهل وصلت إلى يقين أم باق على شكك ، فأنت القائل ، أما اليقين فلا يقين !

فقال ، بعد أن أستغرق في صمت عميق ؛

ها أنت ترى ، أننا هنا مجرد أشباح ، في أنتظار الفرج ، فكل هؤلاء الموتئ مجرد أشباح وظلال ، تجوس في هذا المكان المترامي الأطراف فالله لم يقل كلمته بِنَا ، وهنا ستجد كل من تريد من الموتئ . وسعرفك على من تحب فأنا دليلك هنا ، ولكن قل لي ماذا فعل الزمان في المعرة ، فهي موطني ، كما تعرف !

فكرت لبرهة بما اجب أبو العلاء عن بلدته ، وكنت أعرف أن الدواعش قد عاثوا فيها الفساد . ولكن تذكرت أني في عالم آخر لا يجوز فيه الكذب ، فقلت لها ،

أنها بات تذكر بأسمك ، ولكنها على حالها من كَر وفر ، فالهجمات مازالت متواصل عليها ، فهي ما تغيرت كثيراً منذ رحيلك عنها، ولولا أسمك ، لما ذكرها أحد .

أني أعرف أنها ذو حظ تعس ، على اي حال ، أريد أن أخبرك قبل أن نشرع في رحلتنا ، بأن تنزع من عقلك كل ما تعلمته ، عن الحياة هنا من أقوال وأفكار ، فهي كلها لا أساس لها ، فليس هنا جحيم أو جنه ، وإنما مجرد أنتظار لشيء يحدث لهم ، وكل الموت هنا متشابهون ويتحدثون لغة واحدة ، وليس لهم أي أنحياز أو دين ، فهم نسوا كل خلافاتهم ، في عالم الدينا ويعيشون في سلام هنا كأنهم أفراد عائلة واحدة ، فنحن كما كنا في الارض نجهل كل شيء عن الله ، إلا بما يأتينا به هذا الدجال جبرئيل من أخبار عنه ، والذي هو أيضاً لا يعرف أي شيء محدد عنه ، سوى رسائل وأشارات تأتي له ، المهم ، أن مهمتي تقتصر ، على تعريفك، بكل ما موجود هنا ، حتى قيام الساعة وظهور الله لنا كما يقول جبرائيل . فهنا نحن كظلال وأشباح ، بحياة مشتركة ، ولكنها أيضاً مقسمة حسب هوايات وميول الموتا ، فالفلسفة ، والعلماء ، والأدباء ، والفنانين وعامة الناس، وكل أصحاب المهن والهوايات لهم نواديهم ومقاهيهم ، ومن كل الشعوب منذ أدم ولحد الآن فأنت هنا تستطيع أن تقابل أي واحد تشاء وتجري حديث معه . ويمكنك تصور حياتهم مثل ما فعلت أنا في رسالة الغفران ، أما دانتي فلا يمكن أن يفيدك بشيء لأن ليس هناك جحيم يمكن أن تصور به عذابات الناس ، كما تخيلها في الكوميديا الألهية ، أنه موجود ، الآن ، ويمكن لك أن تراه ، في مقهى الأدباء ، الذين يسخرون من خياله المريض ، كما يقولون عنه ، وكنت قبله ، أيضاً محط سخرية الأخرين ، لأنهم كانوا يتسائلون ، أين هو الجحيم وأين هي الجنة ! ولكن حينما جاء دانتي هنا ، تحولت السخريه صوبه . هذا معلومات بسيطة يجب أن تضعها في بالك وأنت تجول هنا ، فنزع كل شيء تعلمته في الحياة الدنيا . وهنا أنت ستكون محل حسد الكل لأنك الحي الوحيد بيننا ، والكل يريد أن يعرف شيء ، عما يدور في العالم الأخر ، فأخبار الموتا الجدد لا أهمية لها هنا ، لأنها تعاني الكثير من فقدان الجسد ، لذلك ستكون أخبارك لها أهمية كبيرة . وأنا سبعد عنك من لا أهمية لهم والفضولين المتبطلين ، ومن لا لك معرفة عما يسئلون ، أولئك الذين عن أبناء وقربائهم ، وما حل بهم ، لأني اعرف أنك تريد أن تكتب عمل وتخلف أثر جيد مثل عملي وعمل دانتي .

وفِي هذه كانت الجموع من الاشباح والظلال قد انفضت من حولنا ، أو أبعدهم ابو العلاء ، فهو يبدو لديه سلطة ما ، يصرف بها أي ظل ، يريد ، أو يدعوه إلى الأقتراب منا ، وربما تلك السلطة قد زوده جبرائيل بها ، لأنه ما يوميء إلى أي ظل حتى يبتعد أو يأتي . غير أني ، مع ذلك ، ما زلت أرى الكثيرون على مقربة منا يتجولون في أتجاهات شتئ .

وسمعته بعد ذلك دليلي يقول لي بالهجة حاسمة ؛

هيا ، دعنا نبدأ رحلتنا ، وتذكر ، بأن ليس هنا ساعات وأيام نعد بها الوقت ، فأنت تعيش في الأبدي الآن ، وحينما ترجع للأرض تعرف كم مضى عليك هنا .

نهضت بخفة ، وكأن الأرض التي كنت ممدد عليها أشاعت ، القوة والحيوة في أعضائي ، بيد أني احسست في الإختناق ، فنسمات الهواء هنا قليلة وكأننا في بئر واسع عميق بلا قاع ، ولم أرى ابو العلاء ينفس ويستنشق هواء ، فهو مجرد طيف وظل يتحرك ، بهئية بشرية ، وهو حينما أحس ، بألمي ، قال لي ؛

لا عليك سوف تعتاد الجو ، فليس ثم هواء هنا ، فالبيئة بلا هواء ولا زمن ، نحن هنا في وادي التلمود الذي لا حد له ، والذي لا يمتلئ أبداً !

وسار دليلي أمام بمسافة بعيد ، لأني رأيته ، وكأنه لا يمشي بشكل العادي وأنما كأنه يطير ويحلق فوق الأرض ، وخطواته هي قفزات وليس نقل أقدام ، لذلك أندفعت صوبه بقوة ، غير أني وجدت نفسي بخطوت واحده لجوار ، ولم أشعر أن قدمي لامست الأرض ! وحين رأى الحيرة مرسومة على وجهي ، خاطبني ،

لا تقلق ، لا تقس على الأرض ، هنا كل شيء يختلف ، فنحن لا نبذل جهد في السير ، كل شيء يتم بدون أدنى جهد ، فنحن لا نأكل ولا نشرب ولا ننام ، نحن مجرد ظلال تتكلم وتهمس فقط ، وكل ذلك يحدث بلا جهد ، أو يخلف أَذًى لنا . سوف ترى أشياء لم تراه من قبل ، عليك آلان أن لا تفكر في الأرض !

بيد ما أن سرنا خطوات ، في ما يبدو وكأنه شارع عريض ، حتى سمعنا صراخ وعويل ورأينا جموع وجماهير من الأشباح والظلال تتجه صوبنا ، تصرخ بقوات غير مفهومه . وأشار لي أو العلاء ان توقف ، بعد تتقدم هو صوب المتظاهرين إمامنا ، ليفهم ، ما الذي يريدون . غير أني سمعت الكثيرون يصيحون بأسمي !

هـ ، هـ ، هـ ، أنا غ ، وآخر صاح ، ح ، وآخر ، أنا ج ، صديقك ، وراح الأعشرات من الأسماء تتلى ، وكلهم أسماء أصدقائي ، قتلوا في الحرب أو فقدوا في عهد النظام . فما سمعت تلك الصيحات حتى تملص من رقابة دليلي ، وجدت نفسي وسط تلك الأشباح والظلال التي لم أحس بثقلها أو ملامستها ، أو انفاسها ، وأنما كأني أحتضن الهواء ، بيد أن اطيافهم وصورهم كانت واضحت لي ! وكان غ هو أول من وقف أمامي ، وبذل جهد لكي يكون واضح لي ، فهو صديق القريب والمخلص ، والذي أمسك به النظام ، وهو يحاول الهروب للخارج كما شيع في وقتها ، ولكننا كنا لا نعرف على وجه اليقين أين هو ولا ما حل به ، هو ومجموعة أصدقاء آخرين، كان المفروض أن أذهب معهم ، غير أني تأخرت لسبب ما ، ومنذ ذلك الحين أختفوا كلياً . فصحت به بأعلى صوتى

غ ،ماذا تفعل هنا ، هل أنت ميت ؟

فأنا لم أصدق أنه ميت رغم الأشائعات بأن قبض عليهم وهم يحالون الهروب إلى كردستنان للتحاق بشيوعون في الجبال ، ولكن كان هناك ، أيضاً من يقول أنهم الآن في أوربا ! ولم يعرف أحد ما حدث لهم ، وكنت أمال أن أصادفه في مكان من العالم ، لذلك فجاءني وجوده هنا .

ولقد صرخ بي في بأعلى صوته ؛

اللعنة على الشيوعين كل مهربيهم عملاء للسلطة ، لقد قبض علينا كلنا ، وكنت أنت محظوظ لم تأت معنا ! ولكن ماذا تفعل هنا ، فلا يبدو عليك أنك ميت ، فأنت لكل جسد حي ، شيء غريب أن أراك هنا !

لا لست ميت ، ما زلت حي ، ولكن جبرأئيل جاء بي إلى هنا ! يقول أن الرب طلبني لأنه يريد أن ينسحب من العالم ، ويبلغني شيء ما أنقله إلى العالم ، أنا لا أعرف بالضبط لماذا أنا ، أنها مغامرة ليس إلاً.

فرد غ ضاحكاً ؛

لا تصدق جبرائيل ، فهو دائماً يأتينا في أخبار كاذبه ، نحن لا نثق به ، ولكنه فرصة جيدة أن نراك ونسمع ماذا ماحدث لصدقائنا في الدنيا !

وفِي هذا الأثناء كان الحشود الكبير التي أنبثق منها بدأت تحدث ضجة وتطلق صراخ ، رغم أن ابو العلاء كان يهدأ بها ، ولكن بين حين وآخر نسمع صرخة تند من هنا وهناك تفلت من سيطرة

دليلي . فقلت لصديقي غ ؛

من هذا الجموع التي خلفك ، من يكون ؟

فقال بأسئ وحسرة ؛

أنهم ضحايا صدام ، فلقد وصلتنا الأخبار بأنك من العراق ، فتجمع كل ضحايا صدام ، والذي يسحبو ظلهً في حبل خلفهم . بأن تنقل لهم شكوى .

فقلت بتعجب ؛

أنقل لهم شكوى ، أني مستعد لذلك ، فهذه شيء يفرحني أن أحمل لهم شيء ، ذلك يسرني كثيراً .

فقال ؛

سوف يبلغك بها دليلك ، فهو لا يسمح لأحد لاقتراب منك ، أنه فقط ينتظر موافقتك ، حتى ننسحب ، فهذا ما يمكن لنا نفعل معك .

وبالفعل ، أقترب من أبو العلاء ، وقال لي ؛

أتوافق على أي رسالة لهؤلاء الضحايا، قل فوراً !

فقلت في الحال ؛

نعم أي رسالة ، أي رسالة ، مستعد نقلها !

فقال ؛

حسناً ، سبلغها لك بعد أن ينفض جمعهم .

وتلاشت الجموع ما أن أشار لهم دليلي بالموافق .

وبقينا أنا وهو نقف لوحدنا بعد تبددت الظلال في أتجاهات شتئ . ومن ثم ، سمعت غ يقول لي ؛

لا تخبر أهلي أني ميت ، دع لهم الأمل !

فقلت ، سأفعل ، وهم لن يصدقونني أني جئت إلى هنا ، لا تقلق ، وداعاً ، قد نلتقي مرة آخرى !

وتلاشى غ في جموع الضحايا الذي بدأ بلا نهاية ، وما كنت أصدق مثل هذا العدد ! وبعدها سمعت أبو العلاء يقول لي ؛

أنهم يطلبون من الحكومة أن تقيم له نصب في أحد ساحات بغداد تخليد لهم ، هذا بسيط ومعقول ، أليس كذلك ، والآن عليك أن تختار إلى مقهى التي تود أن تذهب أليها ، تلك التي يجلس فيها الفلاسفة والعلماء أم إلى تلك التي يجلس بها الأنبياء ورجال الدين ، أم إلى مقهى الشعراء والفنانين ، أظن أن ، عليك ، أن تذهب إلى واحدة بعد آخرى هذا أفضل لك !

فقلت له ؛

أني أفضل أن نذهب أولاً لمقهى الفلاسفة والعلماء ، ذلك ما حب !

اختيار جيد ، دعنا نذهب !

ولكني أستدرك ، فجاءة ، كيف لي أن أذهب لمكان الفلاسفة ، وأنا ، بصحبة ، فيلسوف ، أو أديب فيلسوف ، ولم أقم مع حوار . فمن لا يحب أن يعرف وجهة نظر ابو العلاء بعد هذه الفترة الطويلة من موته ؟ لذلك سرت بتمهل خلف ، أجمع شتات أفكاري ، لكي ، أبادره ، بأول سؤال ، فطريقنا ، يبدو يمتد بلا نهاية ! يتبع هاني الحطاب

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here