فنون العراق الجميلة، تقدم فن الموسيقى والغناء في العصر العباسي ! اقتباس

د. رضا العطار

لقد تقدم فن الموسيقى والغناء في العراق في العصر العباسي تقدما كبيرا لا جدال فيه، وكانت هي اهم التغييرات قاطبة التي صادفتها الموسيقى العربية. واذا تساءلنا عن العقل الذي تمكن من ابتكار هذه الافكار الموسيقية الخصبة البعيدة الاثر وقام بتنميتها لأدى بنا هذا الى التمعن الموضوعي والبصير في القوى الروحية التي كانت قائمة في حنايا ذلك العصر الزاهر – – – يقول ابن خلدون في مقدمته التاريخية ( ما زالت صناعة الغناء تتدرج الى ان كملت ايام بني العباس )

لقد شكل انتقال مركز الثقل السياسي من دمشق الى بغداد بسقوط دولة بني أمية وقيام دولة بني العباس بداية عهد عظيم رحيب في المناحي السياسية والاقتصادية والحضارية والثقافية والاجتماعية، فتحت في وجه الفن الموسيقي مجالات واسعة من بلوغ درجة من الاتقان والعلو والرفعة. وبغداد هي بغداد، هي هذه العاصمة الممتدة الباذخة الشامخة، وصاحبة اكبر نفوذ في عالم تلك المرحلة التاريخية الراقية.

ونتيجة دأب وحرص ورعاية الخلفاء والامراء والولاة والقواد للمواهب الموسيقية ادى الى ظهور خوارق فنية في الموسيقى والغناء من مغنين وعازفين وملحنين من رجال ونساء كان همهم الوحيد هو ان يصنعوا المعجزات ادهشت عقول الخلفاء واعيان الدولة، حيث انهم جاهدوا في تقديم ذروات مشاعرهم الفنية لأعلاء شان مجالس المناظرات الشعرية والخطابية والموسيقية وقيادة السير الحثيث فيها الى مراتب متقدمة من الكمال.

ولم يكن لهذا الرقي الفني هدف التفريج عن المجتمع العربي فقد كان نظام الظلم الاجتماعي ضارب اطبابه غير مكترث لأمور الشعب ومتغيراته الكبرى بل اكتسب هذا الرقي الفني وذلك العلو دورا قياديا، حتى غدت الموسيقى والطرب شعار السلطة الحاكمة ورمز عظمتها – – – ولاشئ يعطي لهذا الرقي والعلو الفني صورتهما الرفيعة سوى ما حدثنا التاريخ عنه من ان الخليفة العباسي لحظة تعيينه احد ابنائه وليا للعهد، يجري تثبيت هذا الاجراء الاحتفالي الامبراطوري عن طريق لحن موسيقي يجري امام رجالات الدولة – وبهذا الاقتران العظيم الفخور يجري التعبير عن الارتقاء الى المرتبة الملكية بالموسيقى على وجه الخصوص.

في عام 156 هجرية اسس الخليفة ابو جعفر المنصور مدينة بغداد التي لم تصبح عاصمة الامبراطورية العباسية ومركز العالم الشرقي فحسب ولكن الموطن الخالد للفنون والاداب والعلوم بمختاف اتجاهاتها، بل وجميع اوجه النشاط الثقافي والفكري .
وبغداد هذه سرعان ما جذبت الاخبار المتناقلة عن اسرار هذه المدينة العجيبة بقصريها الكبيرين (باب الذهب والخلد) جذبت المفكرين من كل مكان كما جذبت نخبة ممتازة من الشعراء ورعيلا فذا من الموسيقيين، وكانت الطبيعة الهادئة الوقورة الفاتنة تحيط بغداد من مياه كثيرة وجو معتدل واشجار باسقة وارض منبسطة، خضراء غناء قد الهمت الفنانين بخيالات واسعة، اذ تعلم هؤلاء محاكاة الطيور واختراعوا الالات لتصاحب الغناء مع تطوير الات تقليدية. ولما كان انسجام الموسيقى يقتدي بانموذج الانسجام الطبيعي فمن الممكن مساعدة الانسان على ان يحيا وفقا للطبيعة اذا اسمعناه الاساليب والايقاعات الموسيقية الصائبة.

وفي بغداد العصر العباسي كانت الموسيقى اقدر الفنون على الارتقاء بالانسان الى مراتب عالية من النقاوة والصفاء – – – كان النبض الايقاعي لهذه الموسيقى يقود النفوس الى استشراق رسالة الفن في الحياة والى الاستجابة السريعة لدواعي الجمال الى ابعد الحدود – – – حتى برع بعض من الجواري في الدولة في نظم الشعر وفن الغناء الى جانب اتقانهم فن الرقص مجتمعة. مما كان يرفع من مستواهن الفني درجات ويزيد من انوثتهن سحرا واغراء، فيغدون بذلك فتنة من فتن العصر، كالجارية عريب مطربة المتوكل والجارية دنانير مطربة البرامكة.

كان الناس في المجتمع العباسي يعشقون الغناء , فقد اقترنت موسيقى الطرب لديهم برقة عواطفهم وخلجات نفوسهم حتى غدت نعيمهم المفضل, تثير فيهم البهجة والسرور الى حد كانوا يستقبلون عذوبة الألحان بالدموع. ولهذا كثرت مجالس الأنس والطرب، مثلما كانوا يستعذبون سماع الشاعر الفحل ابن الجهم، حين يشدو اشعاره :

الورد يضحك والاوتار تصطخب والناي يندب اشجانا وينتحب
والراح تعرض في نور الربيع كما تجلي العروس عليها الدر والذهب (

* مقتبس من كتاب حضارة العراق لعادل الهاشمي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here