3660 یوماً …مذكرات شاب كوردستاني في المعتقلات العراقية (50)

برهم علي
14 أيار 2019

آلام كلية شديدة المت بيّ

هذه الشخصيات العراقية التي تم اعتقالها اخيرا، تم حجزهم وايداعهم في (المطعم رقم2). سبق وان تم تأسيس(المطعم رقم2) لنزلاء السجن، الا انه تم تحويله تاليا الى قاعة لمبيت السجناء. وقد تم حجز اغلبية اصحاب رؤوس الاموال والتجار العراقيين الذين تم اعتقالهم في هذا القسم من السجن.

شيئا فشيئا اخذت قاعات السجن تستقبل المزيد من المحكومين الجدد، واروقته وقاعاته اخذت تغص بالنزلاء الجدد. يبدو انه كتب على هذا الوطن ان يكون وطنا لسجون ومعتقلات. تم في شهر آيار من هذا العام اعتقال مجموعة من الشبان الكورد والآشوريين واحيلوا الى ابوغريب، منهم (طارق غفور، هاوري عثمان، رزكار عزيز حاجي، علي، جنكي، فخرالدين، محمود، سركوت، كمال، وشيار، محمد روستم، فرحان حريري، حسن حريري). هؤلاء تعرضوا اثناء فترة التوقيف لمزيد من التعذيب، تم حلاقة رؤوسهم بدرجة الصفر، اغلبيتهم كانوا من اهالي السليمانية وتابعين لتنظيمات الحزب الديمقراطي الكوردستاني والحزب الشيوعي العراقي والاتحاد الوطني الكوردستاني والحزب الاشتراكي الكوردستاني وحزب كادحي كوردستان.

في هذا العام الذي امضيته في السجن، كان احد اساليب تعذيب السجناء عبارة عن اناطة تنظيف الساحة والقاعة وممرات السجن يوميا بالسجناء. هؤلاء النزلاء الجدد كانوا في البداية غارقين في بحر من الحزن والهموم، لكنهم بعد ان تعرفوا علينا وعرفوا بان سنين عديدة قد مرّت على اعتقالنا ولا يشملنا اي عفو تصدره السلطات العراقية، اخذ الهدوء يدب في نفوسهم رويدا رويدا وهم في طريقهم للانسجام مع الجو التعيس للسجن.

البعض منهم باتوا اصدقاء قريبين لي حيث كنا في تماس يومي مع بعضنا، اتذكر منهم خصوصا كل من الرفيق بولا (هاوري بولا، بالباء الكوردية، تعني الفولاذ (والذي كان حقا شابا شجاعا وبمعنويات فولاذية، طارق غفور كان شاب مخلصا، الرفيق عثمان هو ايضا كان شابا شجاعا ومقداما، بايز، قانع جوماني (جوماني، نسبة لبلدة جومان، قضاء يقع شمال شرق محافظة اربيل) والذي كان شابا مليح الكلام. قدوم النزلاء الجدد للسجن كان يعني بان السلطات البعثية كانت تنوي اعادة ملأ قاعات السجن بالسجناء، الاعتقال كان يطال العراقيين بمختلف اطيافهم ومكوناتهم القومية والاثنية والدينية والمذهبية والخلفيات الفكرية والايديولوحية وتواصل دون توقف، كنت تجد بين القادمين من المحكومين الكوردي والعربي والاشوري والتركماني والشيعي والسني.. الخ، يوميا كانت قاعات السجن تستقبل النزلاء الجدد من الشباب والمراهقين والمعمرين واصناف الناس.

شتاء هذا العام اصبت بالآم شديدة في الكلية، بحيث نادرا ما كان يمضي يوم من دون ان اراجع المركز الصحي للسجن لتلقي العلاج، وفي كل مرّة كانوا يزودونني بحبوب مهدئة تفيدني لمدة محددة، ومن ثم يعاود الالم ليبطحني ارضا من شدته. الالم كان يشتد يوما بعد آخر، كليتي كانت تلتهب وآلام الجهاز البولي كانت تحاصرني بشدة، وقال لي طبيب المركز الصحي لاكثر من مرّة “حجيرات كلسية صغيرة قد تكونت في كليتك، عليك الاكثار من شرب الماء.”

في احد ايام شهر تشرين الثاني من نفس العام، احسست بالم شديد في كليتي، انطويت على نفسي من كثرة الالم ولم يعد باستطاعتي التمدد، لقد انكمش جسدي كالحلزون واسودت الدنيا امام ناظريّ، لذلك اسرعت الى المركز الصحي عسى ان اتلقى علاجا يخفف من وطأة ألمي. توسط المضمد ابو محمود وبذل الكثير من اجل ان احال الى المركز الصحي التابع لقسم الاحكام الثقيلة من السجن. لان هذا المركز كان فيه طبيب جيد ويحوي الادوية الجيدة ايضا. آلام الكلية قد حرمتني من الاكل والشرب والنوم وحولت حياتي الى جحيم لا يطاق. وفي المركز الصحي لقسم الاحكام الثقيلة، اجرى الطبيب فحصا دقيقا لي وكتب لي وصفة بستة ابر. قلت له بانني لا استطيع ضرب الابر كوني اعاني من الحساسية.

لم يصدق الطبيب الذي قلته، نادى المضمد وقال اضربه ابرة في وريد عضده. وحال ضربي الابرة، حصل تورم في عضدي، وشعرت بالدوار ومن ثم سقطت على الارض مغميا. وبعد ان افقت من الاغماء، شاهدت نفسي جالسا فوق كرسي امام الطبيب، بعدها اعطاني مجموعة من حبوب الكفلكس ونصحني بان لا ارهق نفسي واشرب المزيد من المياه وابتعد عن البرودة. طلبت من الطبيب بان يزودني بورقة الى مسؤولي السجن بحيث يتم اعفائي من مهمة تنظيف السجن وان لا يجبرونني العمل عنوة. زودني الطبيب بورقة تم بموجبها اعفائي لمدة اسبوع من هذه المهمة. لكن بعد ان لاحظت بان جهدا كبيرا كان يقع على كاهل المعمرين من السجناء، ضميري لم يسمح لي الاستمرار بالجلوس وهؤلاء المعمرون يقومون بالتنظيف، لذلك طلبت مرّة اخرى من مراقبي السجن ان يأخذوني لتنظيف السجن.

جواسيس السجن

في شهر كانون الاول من نفس العام، ادخل ظهيرة احد الايام 103 شخصا الى قاعتنا، هؤلاء جميعهم كانوا جنودا في الجيش العراقي صدرت احكام بالسجن بحقهم. هؤلاء هربوا في خضم الحرب العراقية الايرانية الى ايران، حيث مكث البعض منهم لمدد مختلفة في السجن هناك. بعدها وبموجب قرار عفو خاص صادر من السطات العراقية، عاد هؤلاء الجنود الهاربين من ايران وسلموا انفسهم للسطات العراقية. مع ان عودتهم كانت بموجب قرار عفو رسمي، الا ان السلطات البعثية احالتهم الى محاكم صورية اصدرت احكاما بالسجن المؤبد مدى الحياة بحق هؤلاء. وابرز الذين كان بين هؤلاء الجنود شاب من اهالي زاخو كان اسمه برخو. برخو وقبل استدعاءه للخدمة العسكرية كان استاذا جامعيا لامعا. وبعد ان اصبح جنديا في الجيش، هرب منذ الايام الاولى للحرب الى ايران، حيث امضى فترة ثماني سنين بالكامل في السجن هناك. ونتيجة ذلك اصيب بمرض فقدان العقل. مع كل هذه المعاناة، فحال عودته الى العراق وتسليم نفسه للسلطات، حكم عليه بالسجن المؤبد مدى الحياة. اثناء اتيانه الى سجن ابوغريب كان قد فقد عقله تماما.

خلال هذه الفترة ايضا جيء بعدد من السجناء الكورد، وكان جميعهم من اعضاء وانصار الحزب الديمقراطي الكوردستاني. واتذكر منهم كل من (عزت، جزا، سالار حاج عثمان، هفال خالد، والي محمود وشابان آخران من اهالي بلدة جمجمال بين كركوك والسليمانية).

مهما يكن، فقد غدت قاعات سجن ابوغريب لا تسع النزلاء لكثرة تواصل المحكومين الوافدين الجدد. زحمة السجن بالنزلاء جلب معه العديد من الظواهر السلبية والشاذة، وفي مقدمتها ظاهرة التجسس على السجناء من قبل البعض من نزلائه العرب. كانوا يتجسسون على زملائهم لصالح مسؤولي ورجال السجن.

كرّة اخرى وبعد ان ازدحمت القاعة بالنزلاء، برزت ظاهرة الشكوى والشكاوي بين السجناء، في كل مرّة كان الجلادون يقتادون مجموعة من السجناء الى اماكن التعذيب، من دون ان يعلم هؤلاء علة تعرضهم للتعذيب من قبل السجانين والجلادين. مجموعة جديدة من الحرّاس وعناصر الامن والجلادين قدموا الى ابوغريب، وظيفتهم اليومية كانت تعذيب نزلاء السجن وممارسة اساليب التحقير والاهانة بحقهم. لم تبق اي فرصة للتفاهم بين السجناء وسجانيهم. هؤلاء الحرّاس الجدد كانوا اناسا ساقطي الخلق والاخلاق يتقاضون الرشاوي من السجناء. شيئا فشيئا بدأ الخوف والحذر والحيطة تسود في اجواء القاعة، لا احد من نزلاء السجن اصبح يثق بالآخر.

وبعد كل هذه الاجراءات المتشددة بحق السجناء، اصدر مسؤولو السجن قرارا يقضي بمنع التحدث والتكلم والجلوس والمشي بين السجناء سوى لاثنين فقط مع بعضهم، ولو جرى الحديث بين ثلاثة او اكثر، فكلهم يتعرضون للمساءلة والتعذيب. مع صدور هذا القرار وفرضه على نزلاء السجن، الا ان تجاوزه كان يحصل هنا وهناك في البداية، الا ان التعذيب الشديد الذي كان يتعرض له هؤلاء المخالفون للقرار والاستخفاف والاهانات التي كانوا يتلقونها، جعلت الكل يتحاشى تجاوز هذا القرار وعدم تكرار تجاوزه بالمطلق.

الشيء الذي يجعلنا نحن الكوردستانيون على اختلاف قومياتنا وادياننا ان نفتخر به، هو اننا لم نمارس في اي يوم من الايام التجسس على النزلاء لصالح مسؤولي السجن. اقول هذا على اقل تقدير طوال السنوات التي قضيتها انا في سجن ابوغريب، لم اسمع ولم ارى كوردستانيا قد انخرط في سلك التجسس على السجناء.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here