التراكم النضالي والانتاج المعرفي في الحاضرة التونسية

د زهير الخويلدي

” إن قمع الفكر النقدي أخطر بكثير مما يتصور معظم الناس…وعلى ذلك فالتعليم هو أن يتعلم المرء كيف يفكر بنفسه بتوجيه معلم”1[1]

تتميز الحاضرة التونسية منذ بدء الفتوحات بالإنتاج العلمي والإبداع الأدبي والخلق الفني والنشاط الثقافي وبإعطاء الأولوية للأفكار والمفاهيم على الإنشاء والعرض وتبجيل التساؤل والنقد على التقليد والجواب.

لقد استفادت من مكوناتها الذاتية المتنوعة التي تعود إلى حضارات عريقة مختلفة تضرب بجذورها في صور والسكان الأصليين من الأمازيغ ومن علاقاتها الجدلية مع الجوار المتوسطي ومحيطها الأفريقي والانتماء إلى الديار العربية والرمزية الإسلامية وتواصلها مع المسيحية الأصلية وتسامحها مع اليهودية.

لقد ازدهرت الثقافة في تونس واعتنى السكان بالعلوم الدينية ونظريات التفسير والآداب والفنون الجميلة ونقد الشعر وفقه القضاء وصناعة الكتب والوراقة وانتشرت المذاهب والفلسفات وعلم الكلام والتصوف.

إذا كان المشرق العربي قد شهد نوعا من المركزية العلمية منذ تأسيس المدن التاريخية الكبرى التي اختصت في نشر العلوم والمعارف مثل المدينة والكوفة والبصرة وبغداد ودمشق والقدس وانضمام القاهرة إلى الجغرافية الثقافية المشرقية فإن تونس والقيروان وبدرجة أكبر وأقل مدن الأندلس والمغرب قد نقدتا هذه المركزية وأقامتا علاقة تنافسية ندية مع المشارقة وصلت إلى حد الريادة والسبق المعرفي والمدني.

لقد دخل التونسيون بوابة الفلسفة من شخصية عبد الرحمان ابن خلدون الذي طورها نحو علوم العمران والتاريخ والاقتصاد والسياسة ، ثم عرفوا اهتماما بالطب والتربية لدى ابن الجزار القيرواني والقابسي وبعد ذلك ظهر علي بان زياد وابن رشيق مؤلف كتاب العمدة واشتهر الإمام سحنون وأبو العرب التميمي وكتابه طبقات علماء افريقية وابن عرفة وابن المنظور صاحب معجم لسان العرب والقادمين من الأندلس حازم القرطاجني والشاعر ابن هاني وأبو اليسر الشيباني الرياضي وأبو الحسن علي القلصادي الرياضي.

لقد واكب علماء تونس النهضة العربية الأولى وبرع المصلح خير الدين بكتابه أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك ودعمه أحمد ابن أبي الضياف بكتاب إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس ومحمد بيرم الرابع ومحمود قابادو ومحمد بن الخوجة وسالم بوحاجب ومحمد بيرم الخامس صاحب كتاب صفوة الاعتبار والمؤرخ محمد الصغير بن يوسف والشيخ إبراهيم الرياحي والمصلح الفذ عبد العزيز الثعالبي صاحب كتب مسألة المنبوذين وتونس الشهيدة وروح التحرر في القرآن ومعجز محمد والكلمة الحاسمة.

لقد قدم لنا مؤسسة الزيتونة نظرية مقاصد الشريعة السمحاء على يد الطاهر بن عاشور ودعوة إنصاف المرأة من طرف الطاهر الحداد وكتابه امرأتنا في الشريعة والمجتمع وساندتها مؤسسة الصادقية في بناء الحركة العمالية والوطنية من العديد من المصلحين والمناضلين وتكوين نخب مثقفة وكوادر في الدولة.

كما برز محمد علي الحامي وبلقاسم القناوي ومختار العياري وأحمد بن ميلاد والشيخ الفاضل بن عاشور والشهيد فرحات حشاد في وعي الطبقة العاملة وتأسيس المنظمات النقابية التونسية المقاومة للاستعمار.

من ناحية أخرى فرض الشاعر أبو القاسم الشابي نفسه على الأوساط الأدبية العربية من خلال ديوانه أغاني الحياة وبحثه حول الخيال الشعري عند العرب وانتشرت قصيدة إرادة الحياة ووجد الأديب طه حسين سدا أمام مسرحية السد للأديب محمود المسعدي وحدث أبو هريرة قال.. وروايته مولد النسيان.

لقد أدى هذا الزخم السياسي والترسب المعرفي الى ترسيخ ثقافة التنوير والتسامح والانفتاح على الوافد ومواكب التطور وتركيز قيم التقدم والحرية والانتباه الى الواقع والتشبث بتغيير المدنية وإصلاح المجتمع.

فكيف ساهم هذا التراكم النضالي والمعرفي في تهيئة الأرضية النظرية والعملية لقيام الثورة في تونس؟ ولماذا ارتبط الاستثناء التونسي بالجرأة وممارسة الفعالية النقدية وتدبير التنوع والتعايش بين المختلف؟

المرجع:

1- برتراند رسل ، حكمة الغرب، عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي، ترجمة فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 364 يونيو 2009، ص119.

كاتب فلسفي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here