الحصار والحرب بخدمة صفقة القرن!

ساهر عريبي
[email protected]

تتسارع الأحداث في منطقة الشرق الأوسط منذ ان أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إنسحاب بلاده من الإتفاق الذي وقعته مجموعة دول 5+1 مع ايران حول برنامجها النووي في عهد إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك اوباما في العام 2015, واضعا بهذا الإنسحاب الإتفاق في حالة موت سريري. كان توقيع الإتفاق ثمرة لجهود تفاوضية استمرت لعدة سنوات وساهمت فيها سلطنة عمان بشكل فاعل, لينهي ازمة عمرها 12عاما حول برنامج ايران النووي.

وأثار التوقيع على الإتفاق حينها موجة من الإرتياح في العديد من دول العالم وخاصة الدول الأوروبية التي سارعت لتوقيع اتفاقيات اقتصادية مع ايران. فيما أثار حنق وغضب دول اخرى في المنطقة وخاصة السعودية واسرائيل. إلا أن دونالد ترامب أعاد الأزمة الى المربع الأول عندما أعلن العام الماضي الإنسحاب من الإتفاق واصفا إياه ب“الكارثي“ معلنا إعادة العمل بالعقوبات الاميركية المرتبطة بالبرنامج النووي للنظام الايراني, ومحذرا بفرض عقوبات شديدة على كل بلد يساعد ايران في سعيها الى الاسلحة النووية بحسب قوله. لتبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة من التعاطي الأمريكي مع هذا الملف أبرز سماتها تشديد العقوبات والتلويح بالحرب.

الحصار
توّج الرئيس الأمريكي إعادة فرض العقوبات على ايران والتي تشمل المعاملات المصرفية, بإعلانه حظرا على شراء النفط الإيراني دخل حيز التنفيذ أوائل الشهر الحالي بهدف تصفير صادرات ايران النفطية , في محاولة لمحاصرة ايران اقتصاديا وإجبارها على اعادة التفاوض حول برنامجها النووي. ويعوّل ترامب في ذلك على هذه العقوبات لأنها تحرم ايران من 40٪ من عائداتها مما ينعكس سلبا على الإقتصاد الإيراني الذي يعاني من التضخم ومن انهيار في العملة, على امل أن يؤدي ذلك الى إنفجار شعبي, إضافة الى تقليص التمويل الإيراني لحلفاءها في المنطقة وخاصة في سوريا ولبنان وبعض الفصائل العراقية.

لكن شكوكا تساور العديد من المراقبين بل وحتى إدارة اترامب نفسها حول مدى فاعلية هذا الحصار الإقتصادي ونجاحه في إجبار ايران على الجلوس على طاولة المفاوضات. فتجربة الأربعين سنة الماضية وهي عمر الجمهورية الإسلامية, أثبتت فشل سلاح العقوبات بل إنه جاء بنتيجة عكسية, إذ حققت ايران في ظل العقوبات تقدما في مختلف المجالات ومنها المجال النووي حيث نجحت في تخصيب اليورانيوم الى مستويات فاقت النسب المطلوبة لتشغيل المفاعلات النووية التي تنتج طاقة كهربائية, كما وان النفوذ الإيراني تعاظم بشكل كبير في المنطقة برغم الحصار.

لكن الإدارة الأمريكية وبرغم كل ذلك عادت مرة أخرى لإستخدام هذا السلاح بعد أن زادت من فاعليته ليشمل النفط وصادرات المعادن ليصبح أشد حصار يفرض على الجمهورية ومنذ ولادتها قبل أربعة عقود. ومن جانب ايران فإن تجربتها غنية في كيفية التعاطي مع العقوبات والإلتفاف عليها والبحث عن مخارج, إلا كل ذلك أصبح رهنا بعوامل خارجية ومنها الصراع الإقتصادي الأمريكي الصيني الذي قد يقلب معادلة الحصار رأسا على عقب فيما لو دخلت الحرب الإقتصادية بين أمريكا والصين مرحلة حرجة تدفع الصين الى خرق الحصار ومعاودة شراء النفط الإيراني وبذلك تفتح ثغرة في جدار الحصار قد تتوسع اذا مانضمت لها دولا اخرى.

وفي هذا الخضم يبدو عامل الوقت حاسما , فإن إدارة ترامب تسعى لقطف ثمار الحصار خلال الأشهر القليلة القادمة التي تسبق الإنتخابات الرئاسية الأمريكية المقرر إجراؤها في العام المقبل, ولذا فإنها ستمنع اي محاولة لكسر الحصار خلال الشهور القليلة المقبلة. ومن جانبها فإن ايران تعي ذلك وستحاول الصمود واستيعاب آثار هذا الحصار على امل حصول متغيرات دولية أو على اسوأ التقادير الإنتظار وحتى نهاية العام المقبل بانتظار خسارة ترامب للإنتخابات.

الحرب

ولذلك فإن الخشية الأمريكية من أن لا يؤدي الحصار الى فتح ثغرة في جدار الصمود الإيراني, دفعت الإدارة الأمريكية الى التلويح هذه المرّة بخيار الحرب , وهو خيار ليس نظري أو تهويلي او تخويفي , بل هو خيار واقعي يتبناه صقور إدارة ترامب وعلى رأسهم مستشار الأمن القومي بولتون, إلا أنه يبقى الخيار الأخير فيم لو فشل خيار العقوبات في تحقيق أهدافه أو في حال إقدام ايران وحلفاؤها على تصرف يستدعي ردّا عسكريا.

فالولايات المتحدة تبدو اليوم أكثر جدية من أي وقت مضى لخوض الحرب مع ايران. فقد إتخذت إدارة ترامب سلسلة إجراءات تصعيدية, بدأت بتصنيف الحرس الثوري الإيراني كمنظمة ارهابية وانتهاءا بإعادة انتشار قواتها في الخليج ومرورا بإرسال حاملة الطائرات ابراهام لنكولن وقاذفة B52 الى المنطقة. مما يوحي بالإستعداد الأمريكي لشن الحرب أو على أقل التقادير تصعيد الحرب النفسية ضد ايران وبما يجبرها على البقاء في حالة تأهب قصوى لأمد غير محدود وبما يؤدي لإنهاكها إذا ما اخذ بنظر الإعتبار العقوبات الإقتصادية, وهو الواقع الذي أجبر الرئيس الإيراني حسن روحاني على الإعتراف بان ايران تمر بظرف تاريخي حساس ومنذ نشأة الجمهورية الإسلامية.

الشروط الأمريكية والمفاوضات

لقد وضعت الولايات المتحدة وعلى لسان وزير خارجيتها جورج بومبيو 12 شرطا للتوصل الى اتفاق جديد مع ايران. وعند النظر الى تلك الشروط فيمكن تقسيمها الى مجموعتين, الأولى تهدف الى تحجيم قدرات ايران العسكرية سواء النووية منها او الصاورخية واما المجموعة الثانية فتتمحور حول تقليص النفوذ الإيراني المتعاظم في المنطقة. وتتضمن هذه المجموعة وقف دعم ”الجماعات الإرهابية في منطقة الشرق الأوسط“ ووضع حد لدعم فيلق القدس ونزع سلاح فصائل الحشد الشعبي في العراق والتوقف عن دعم الحوثيين في اليمن والإنسحاب من سوريا وأخيرا وهو المهم ”وضع حد لتصرفات ايران المعادية لإسرائيل والدول الحليفة لواشنطن في منطقة الشرق الأوسط“.

لقد اختصر وزير الخارجية الأمريكي تلك الشروط بكلمتين وهي ان على ايران ”تغيير سلوكها“ وهذا يشمل سلوكها في المنطقة وكذلكك برامجها لتطوير قدرتها الذاتية. وعند النظر الى هذه الشروط فمن الطبيعي أن يكون رد الفعل الإيراني الأولي عليها هو رفضها وهو ما أكد عليه المرشد الإيراني وكذلك كبار المسؤولين وفي مقدمتهم الرئيس روحاني ووزير الخارجية ظريف. إلا انه وبرغم هذا الرفض فإن مراقبين استشفوا من وصف المرشد للمفاوضات بالسم ! أنه ترك الباب مفتوحا أمام إمكانية إجراء مفاوضات مع الإدارة الأمريكية في تكرار لتجربة إنهاء الحرب العراقية الإيرانية قبل ثلاثة عقود.

فالجلوس على طاولة المفاوضات يبعد على الأقل شبح الحرب ويخفض التوتر في المنطقة ويمنح ايران فرصة للتوصل الى إتفاق جديد يفضي الى رفع العقوبات عن كاهلها وإن كان بتقديم تنازلات كبيرة. فالجمهورية تمر بمرحلة حساسة ومصيرية من تاريخها وهي ميتعدة للتضحية ببعض المكاسب من أجل الحفاظ على هذا الكيان الذي تجاوز مصاعب ومؤامرات كبيرة ومنذ تأسيسه في العام 1979. لكن الإدارة الأمريكية تبدو في عجلة من امرها لإنهاء هذا الملف وعدم التسويف فيه. فمن ناحية تقع إدارة ترامب تحت ضغط الإنتخابات الرئاسية المقرر إجراءها اواخر العام المقبل ومن ناحية ثانية فإنها بصدد تمرير أكبر صفقة لحل قضية فلسطين فيما بات يعرف بصفقة القرن.

صفقة القرن

بدأت التسريبات عن ما بات يعرف اليوم بصفقة القرن منذ العام 2016 وبعد تولي ترامب الرئاسة, عبر بعض وسائل الإعلام الأمريكية والإسرائيلية التي تحدثت عن مشروع لحل شامل للنزاع العربي الإسرائيلي تعتزم الإدارة الأمريكية طرحه على اطراف النزاع في المنطقة. وبحسب تلك التسريبات الإعلامية فإن صهر الرئيس جاريد كوشنر يعتبر مهندس هذا الطرح الذي بدأت إدارة ترامب بتهيئة الظروف لتسويقه.

نجحت هذه الإدارة خلال الفترة الماضية في توفير بعض مقدمات هذا التسويق , وأبرزها هي تحالفها الوثيق مع كل من السعودية والإمارات ودعمها لسياساتهما في المنطقة وخاصة في اليمن وفي منطقة الشمال الأفريقي. كما وانها اعلنت أن القدس عاصمة أبدية للدولة العبرية إضافة لإعلانها أن الجولان جزء لا يتجرأ من اسرائيل. واما الأخيرة فأعلنت من جانبها أنها دولة يهودية, وبذلم اتضحت الثوابت الإسرائيلية والأمريكية التي لا يمكن التفاوض حولها في أي صفقة.

بدأت اول ملامح صفقة القرن بالظهور بشكل جلي عندما أعلنت إدارة ترامب عزمها عقد ورشة إقتصادية في البحرين خلال شهر يونيو المقبل تهدف لدعم مشاريع إعمار المتناطق الفلسطينية, واصفة هذا الإعلان بانه يمثل الخطوة الأولى لتمرير صفقة القرن!. فهذه الصفقة تقوم على إقامة كيان فلسطيني بلا جيش و يخضع للحماية الإسرائيلية واما القدس فمدينة مشتركة يتوقف فيها كل من الفلسطينيين والإسرائيليين عن شراء الأراضي, وإلغاء حق عودة ملايين الفلسطينيين و إستقطاع مساحات من أرض سيناء لإقامة مطار ومنشآت أخرى وأخيرا تخصيص مئات المليارات من دولارات المانحين لإعمار المناطق الفلسطينية, ويتولى ذلك كل من دول الخليج والإتحاد الأوروبي.

لكن تمرير هذه الصفقات يواجه عقبات على أرض الواقع وخاصة في العراق وسوريا. فمحاولات إسقاط النظام في الأخيرة فشلت فشلا ذريعا بالرغم من الدعم المنقطع النظير الذي قدمته السعودية وحلفاؤها لفصائل المعارضة السورية, كما وان مشروع داعش فشل فشلا ذريعا في العراق وكنتيجة لذلك ولدت قوة عسكرية جديدة في المنطقة هي الحشد الشعبي, واما في اليمن فإن الحرب السعودية على اليمن لم تفشل فقط في إعادة عبد ربه هادي منصور الى صنعاء, بل إن السعودية وبعد مرور أكثر من أربع سنوات من الحرب فإنها أصبحت في مرمى صواريخ الحوثيين.

إن هذه الصورة تكتمل بهيمنة حزب الله على لبنان وفي تحالف الفصائل الفلسطينية في غزة مع ايران وهو ما يؤكد وبما لايدع مجالا للشك بان صفقة القرن لا يمكن تمريرها في ظل هذا الوضع, فهذه الأطراف التي تحتفظ بعلاقة وثيقة مع ايران ستسعى بكل ما اوتيت من قوة لتعطيل هذه الصفقة وهي تمتلك اوراقا رابحة تلعب فيها في المنطقة. وفي ظل هذه المعادلات فإن إدارة ترامب وجدت ان العقبة الإيرانية هي الوحيدة التي تقف بوجه هذا المشروع وهو ما يستدعي تجاوز هذه العقبة الكأداء عبر سياسات الحصار والتلويح بعصا الحرب.

فكانت أولى ثمار هذه السياسات هو الإعلان عن ورشة المنامة الإقتصادية التي لايبدو أن هناك في الأفق معرقلا لها, فإن نجاحها يضع صفقة القرن على مسارها المرسوم من قبل أمريكا واسرائيل وبإمضاء من حلفائهما في المنطقة. ولذا فمن الواضح ان المستهدف من هذا التصعيد ضد ايران ليس برنامجها النووي, بل هو منعها من عرقلة صفقة القرن التي ستفتح صفحة جديدة في تاريخ المنطقة وعلى مقاس أمريكا وإسرائيل. فهذه الإدارة عازمة على تمرير هذه الصفقة سواء عبر النجاح باحتواء ايران او عبر شن الحرب عليها.

فهذه الصفقة يقف خلفها صقور الإدارة الأمريكية واللوبي اليهودي الأمريكي الذي لا يجرؤ صناع القرار الأمريكيين على معارضته بشقيهم الجمهوري والديمقراطي. وهكذا تبدو ايران أمام خيارات أحلاها مر فإما السماح بتمرير صفقة القرن وإما مواجهة تبعات عرقلتها الكارثية. ولايبدو أن ايران بصدد المسارعة لتبني الخيار الأول فمازل الوقت مبكرا لذلك, ولكن بقاء الوضع على ماهو عليه سيؤدي في النهاية الي تمرير الصفقة في ظل التهديد الأمريكي الحالي لإيران برد قاس فيما لو أقدم أي من حلفاؤها في المنطقة على تهديد المصالح الأمريكية أي بتعبير آخر المساس بصفقة القرن المقدّسة!

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here