الفضّة ، دموع القمر في العصر القديم

بقلم : عضيد جواد الخميسي

كان للفضّة قيمة كبيرة وجاذبية جمالية في العديد من الثقافات القديمة ، وقد أستخدمت لصنع المجوهرات وأدوات المائدة والتماثيل
والحاجات الطقوسية . قطع الخام الفضيّة المعروفة باسم ” هاك سلفر ” Hacksilver ” ( وحدة وزن أو عملة تم تداولها تقريباً في أنحاء مختلفة من العالم القديم ) التي يمكن استخدامها في التجارة أو لخزن الثروة. أُختير المعدن في سك العملة لفترات طويلة بعد الاستحواذ على
مناجم الفضة في أماكن مثل اليونان وإسبانيا و إيطاليا ، و الأناضول ، وكان المعدن سبباً رئيسياً في العديد من النزاعات القديمة .

تم العثور على الفضّة في مناجم قديمة لأماكن أخرى مثل ، الصين ، كوريا ، اليابان، وأمريكا الجنوبية ، حيث تم تحويلها إلى
أشياء مصنوعة بطريقة جميلة تتداولها النخب الحاكمة والطبقات الأرستقراطية كهدايا ، وفي كثير من الأحيان تقدمها الدول المهزومة كـ “جزية ” إلى الدول المنتصرة . من خصائص الفضة ؛ سهلة التنقيب ، ذات مرونة عالية ، وقابلة للتدوير، بالاضافة الى لمعانها وبريقها الزاهي
، وهي واحدة من السلع الأساسية القليلة التي تربط مناطق العالم القديم اقتصاديّاً فيما بينها .

التعدين

تعتبر الفضة ، ورمزها الكيميائي ( Ag) معدناً مطواعاً ، يمكن تلميعه للحصول على بريق شديد الجاذبية ، وهذا السبب الذي
جعله معدناً مثالياً لتهافت الحرفيين القدامى في إنتاج سلع عالية القيمة .

تم استخراج الفضة وصهرها من الخامات التي تضم أمثال ، كربونات الرصاص (PbCO3)
، و كبريتيد الرصاص (PbS) أو غلينا ( galena ) . تحتوي تلك الخامات عادةً على أقل من 1٪ من الفضة ، وان كثرتها أو قلتها في تلك الخامات ، لا يؤثر في صهرها ، والتعدين القديم للمعادن قد كان مربحاً للغاية .

أمّا تعدين الفضة في الأمريكتين مثلاً ، كان بطرق بدائية جداً ، وذلك باستخدام قرون الوعل في الحفر ، وسحق الخام بالصخور
وصهره في البوتقات الطينية ، ولم يكن المنفاخ قد اخترع بعد ، بالتالي ، فإن درجات الحرارة المرتفعة اللازمة للصهر يتم توفيرها بواسطة العديد من الأشخاص الذين ينفخون في النار عبر أنابيب من القصب ، كما أن الفحم كان مصدراً للوقود كما هو الحال في أي مكان آخر من العالم
القديم ، وقد كان عمال المعادن في الأنديز متخصصين في طلاء الفضة وفي إنتاج السبائك التي تمزج الفضة مع الذهب والنحاس والبلاتين .

جغرافية الفضّة

في بلاد ما بين النهرين ، استخدمت الفضة منذ الألفية الرابعة قبل الميلاد ، بالرغم من عدم وجود رواسب لها في المنطقة ،
إلاّ أنها كانت تستورد من مناطق الأناضول ، وأرمينيا ، وإيران ، ثم شاع استخدامها في مدن مثل أوغاريت ، سومر ، وبابل ، كمقياس للقيمة في دفع أجور العمال ، وكان الدفع يتم بوزن محدد من الفضة بما يعادلها من الحبوب ، على سبيل المثال .

أمّا المصريون القدماء ، فقد منحوها منزلة كبيرة في جدول المعادن ، وتعرّفوا عليها من خلال التجارة ، على الرغم من أن
الفضة في الاكتشافات الأثرية المصرية يعتبر أمراً نادراً مقارنة مع الحضارات القديمة الاخرى ، ربما كان هذا بسبب أن المصريين لديهم مصادرهم الخاصة من الذهب ، ومصادرهم المحلية من الفضة محدودة .

كان الفينيقيون أكثر التجار شهرة ونشاطاً في العالم القديم ، فقد قاموا بنشر استخدام الفضة بشكل مكثّف عبر البحر الأبيض
المتوسط ونقلوا أطناناً هائلة منها إلى غرب آسيا ، وخاصة الى ممالك آشور، ومعظمها كان بشكل سبائك ، وأقراص ، وخواتم . ولضمان مقدار الوزن والقيمة ، تختم السبائك والمشغولات بعلامات مميزة . تزن سبيكة الفضة الفينيقية حوالي 30 كيلوغرام وتبلغ قيمتها 300 شيقل ، وتقدّر
قيمة الشيقل الواحد 300 شيقل نحاسي ، و 227 شيقل من الزنك ، وكان الذهب يساوي أربعة أضعاف سعر الفضة ، أما العرض والطلب فكان العامل الرئيسي المؤثر في قيمة السلع مثلما هو الحال اليوم ، إذ تسبب زيادة المعروض من الفضة في بلدان ، الرافدين ، النيل ، فارس ، والأناضول
، إلى انهيار قيمتها بحلول القرن السادس قبل الميلاد .

كانت الفضة معروفة في اليونان و إيطاليا ، وكذلك في بريطانيا وألمانيا ومنطقة البلقان ، وفي الهند تمّ مقايضتها مقابل
التوابل والسلع الفاخرة .

أمّا في مناطق الصين ، فقد أُستغلّت مناجم الفضّة الصينية في الجنوب منذ القرن الثامن الميلادي ، مما أدى إلى استبدال
المعدن بالحرير الطبيعي، على اعتباره الوسيلة الأساسية للدفع من قبل التجار ، وفي اليابان القديمة ، لم يتم استخراج الفضة بمعدلات عالية حتى مطلع القرن السادس عشر الميلادي ، ولكن عندما كان الأمر كذلك ، أصبح المعدن طريقة سهلة للدفع مع التجار البرتغاليين الذين أمضوا
فترة طويلة بتجارتهم مع الصين ، وقد ذهب الكثير من عوائد الفضة إلى جيوب التجار الأوروبيين – 20 طناً سنوياً – وتم استنفاذ الكثير من مناجمها ، مما دفع الحكومة اليابانية في منع تصدير الفضّة إلى خارج البلاد منذ عام 1668 م .

في الأمريكيتين ، كان لدى حضارة المايا القديمة الكثير من الذهب ، بينما الفضّة ليس لها نفس القدر للحديث عنها ، غير أنها
وجدت بوفرة في الجنوب ، وكذلك في إمبراطوريات الإنكا وأسلافهم في شمال أمريكا ، وبالأخص في مناطق شاسعة من كولومبيا والإكوادور . وعند حضارة الأنكا ، مثلما كان الذهب يعتبر عَرَقْ الشمس ، فإن الفضة هي دموع القمر، وإنّ ندرة ومكانة المعدن كان حكراً على طبقة النبلاء
فقط ، أمّا عامة الناس ، كان عليهم بالنحاس أو البرونز ! .

استخدامات الفضّة

لم تكن الفضّة بنفس قيمة الذهب ، إلا أنها استخدمت لنفس الأغراض ولكن في مجال أوسع . وقد استفادت معظم الحضارات القديمة
من الحرفيين المتخصصين الذين يعملون في كثير من الأحيان للعوائل المالكة وجعلوا مساحة مخصصة لهم في المدن لإنتاج عجائبهم اللامعة . صُنعت من الفضّة المجوهرات والأواني والأطباق وأوعية الفلفل الحار والأواني والمجسّمات والأقنعة والأشياء المزخرفة ، ونظراً لقيمتها
العالية ، استخدمت كثيراً في الأشياء المتعلقة بالطقوس الدينية مثل محارق البخور ، وتزيين كهنة المعبد وتماثيل الآلهة ، وكذلك تقديمها كأوسمة ونياشين إلى المحاربين المتميزين في بعض الأحيان . قديماً ، كانت بعض الأقمشة تطرّز بخيوط فضّية ، وقطع الملابس الملكية يخاط
عليها قطعاً من الفضّة للزينة والتباهي في الثراء ، وقد استخدم المعدن أيضاً بكثرة في ترصيع الرماح والسيوف والخناجر والدروع والأثاث وأوعية مواد التجميل .

العملات الفضيّة

كانت النقود المعدنية أحد أكثر استخدامات الفضّة شيوعاً في العصور القديمة ، فقد سُكّت النقود القديمة الأولى في ليديا
( آسيا الصغرى ) خلال القرن السادس قبل الميلاد ، والتي صُنعت من الإلكتروم ، وهي سبيكة طبيعية برّاقة من الذهب والفضّة والرصاص وبعض المعادن القليلة الاخرى ، وتُختم بختم مصمم من قبل المملكة إشارة الى الوزن والقيمة .

ظهرت القطع النقدية الفضيّة اليونانية الأولى في إيجينا 600 قبل الميلاد ( وهي جزيرة قبالة ساحل أتيكا في اليونان ) ،
وتحمل شعار شكل السلحفاة ، كرمز لرفاهية المدينة القائمة على التجارة البحرية ، وإذ سرعان ما تبعتها أثينا و كورنث .

إن انتشار العملة المعدنية في اليونان كان الأوسع ، فهي لم تكن في الحقيقة اختراعاً للرفاهية بل كانت ضرورة مدفوعة بالحاجة
لتحديد رواتب الجنود المرتزقة ، فقد كان المحاربون يحتاجون إلى وسيلة مريحة في حمل رواتبهم ، وفي نفس الوقت الدولة أيضاً كانت بحاجة إلى وسيلة دفع تمكن تطبيقها بالتساوي على الجميع .

حوالي عام 510 قبل الميلاد، استطاع الملك داريوس الأول من إصدار عملة معدنية في بلاد فارس ، وهي عبارة عن شيقل فضي يزن
حوالي 5.5 غرام . أمّا التجار الرئيسيون من الفينيقيين ومنذ فترة طويلة ، كانوا يفضّلون التعامل مع سبائك الفضّة حصراً أينما وصلت مخالبهم التجارية ، لكنهم في النهاية استسلموا للتطور الذي حصل في انتشار وقبول العملة النقدية الفضّية بين التجار المنافسين .. سكّت
النقود الفينيقية الأولى في مدينة كتيون شرق قبرص حوالي عام 500 قبل الميلاد ، ثم في مدينة جبيل شمال بيروت حوالي عام 470 قبل الميلاد. وسرعان ما تبعتهما مدن أخرى مثل صور وصيدا حوالي عام 450 قبل الميلاد .

حلّت النقود المعدنية مشكلة واحدة ولكنها خلقت مشكلة أخرى ، مما أثار مسألة مهمة حول درجة نقاوة المعدن . إذ لم يكن القدماء
على دراية بمفهوم العناصر وخصائصها الأوليّة ، بيد ان أصحاب المسابك اتفقوا على ضرورة إصدار عملة معدنية ذات وزن قياسي . في النهاية تمكنت تلك المسابك أو المصاهر الوصول إلى نقاء الفضة بحوالي 98٪ ، وكانت النقود الفضية ذات قيمة عالية نسبياً ، وربما تساوي أسبوع عمل
واحد لمعظم المواطنين .

تم صدور أولى العملات المعدنية الفضّية الرومانية في أوائل القرن الثالث قبل الميلاد ، وهي تشابه العملات اليونانية المعاصرة
في تصميمها . أمّا في عام 211 قبل الميلاد تم طرح نظام جديد للعملات المعدنية ، إذ ظهرت لأول مرة العملة النقدية الفضية ” ديناري denarii ” ، وقد أُعتبرت العملة الفضية الرئيسية في روما حتى القرن الثالث الميلادي بعد الاستحواذ على مناجم الفضة في مقدونيا عام 167 قبل
الميلاد .

عام 157 قبل الميلاد ، حصلت طفرة كبيرة بمقدار الفضة في صناعة العملات وبشكل تدريجي ، حيث أنفق منها الأباطرة أكثر من
غيرهم ، واستنزفت الحروب خزائنها ، حتى وصل مقدار الفضّة فيها إلى ما يقرب من 70 ٪ ، وبعدها إلى 50 ٪ ، ثم وصل اخيراً إلى أدنى مستوى لها بحدود 2 ٪ أو أقل في الوقت الحاضر .

تم إنتاج العملات الصينية ذات الثقب الوسطي المربع والمميز لأول مرة في النصف الثاني من العصر الحديدي (بحدود 500 سنة
قبل الميلاد ) ، ولكن صناعتها كانت من النحاس ، أما في الهند القديمة تم تداول العملات حوالي القرن السادس قبل الميلاد .

لم يكن لدى الأمريكتين القديمة أي عملات معدنية ، و لكن بالنسبة للفضة ، شأنها شأن المواد الثمينة الأخرى مثل الذهب والمنسوجات
، اذ كانت تستخدم لأغراض تجارية لأنها ذات قيمة عالية ، والسلع المصنوعة منها تستخدم كهدايا ، وأوسمة في حالات التكريم ، وقيمتها تعتمد على المركز الاجتماعي للشخص والسياق الذي تم فيه منحها . أما في كوريا ، فقد استخدم نموذج آخر من العملة الفضيّة على شكل مزهرية
(من القرن الثاني عشر إلى القرن الرابع عشر الميلادي) ، إذ أنها كانت مختومة من قبل الدولة وذات سعر صرف رسمي أسوة بالسلع الاساسية ، مثل الأرز ، ولكن الملك شنغ يل سمح باستخدام قطع محددة الوزن من الفضة الخام بدلاً من المزهرية الفضية لسهولة تداولها ، وذلك في نهاية
القرن الثالث عشر الميلادي .

في الوقت الحاضر ، لم يقتصر استخدام معدن الفضة في سك النقود وصناعة التحف والمجوهرات ، بل توسع توظيفها في العلوم والتكنولوجيا
، فهي تستخدم حالياً في مجال الصناعات الطبية ، و الفضائية ، والتكنولوجيا الحديثة ، وغيرها من القطاعات المتعددة الأخرى …

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مارغريت ستاينرـ دليل أكسفورد للآثار ـ مطبعة جامعة أكسفورد ـ 2014 .

ماريا أوبت ـ الفينيقيون والغرب ـ مطبعة جامعة كامبريدج ـ 2001 .

باتريشيا باكلي ـ شرق آسيا ( تاريخ ثقافي واجتماعي وسياسي) ـ سينجاج ليرننك ـ 2013 .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here