عوني كرومي: خسارة فادحة للإنسان والمسرح

كاظم حبيب
في السابع والعشرين من شهر أيار/مايو 2019 تمر الذكرى السنوية الرابعة عشرة على رحيل الفنان المسرحي الكبير والكاتب العراقي عوني كرومي (1945-2005م) حين توقف نبض الحياة المشع والمشرق في قلب هذا الفنان الذي كرس حياته لفن المسرح. وكانت وفاته المبكرة خسارة فادحة للجالية العراقية والعربية في برلين وألمانيا، وخسارة فادحة لعائلته الفاضلة وللأخت العزيزة أم حيدر وشبيبتهما، كما إنها خسارة فادحة لا تعوض للشعب العراقي.

ولد عوني كرومي في عام 1945 في مدينة الموصل وفي محلة أغلب ساكنيها من اليسار العراقي، وكان أحد مناضلي اليسار البارزين في مجال اختصاصه وأعماله الفنية. تميز بالحيوية والنشاط والتواضع ودماثة الخلق الرفيع، كان إنساناً ثورياً في فكره ومسالماً في سلوكه وعلاقاته مع كل الناس، لا يعرف الحقد والكراهية والتمييز، متمرداً على التقاليد البالية في أعماله الفنية وعلى خشبة المسرح مقتنعاً بأن: “وظيفة المسرح تجعل الانسان يفكر بكينونته كي يمتلك القدرة على الحوار من أجل الوصول الى الحقيقة بالاقتناع ويتخذ موقفا مما يعرف فيتحول الى طاقة إبداعية مفكرة.. منتجة.. ” من هنا فأنه وجد في مسرح بريشت ومنهجه وظيفته التنويرية التي تبدأ بعملية التغريب في النص وعلى خشبة المسرح، وكسر الايهام بالواقع عند جمهور المشاهدين كخطوة ضرورة أولى تساعد في ممارسة النقد والتغيير. ويلخص الناقد علوان السلمان دور عوني كرومي المسرحي في دراسته” تأملات على جبين المسرح: “لقد حاول (كرومي) تطبيق أفكاره في الكتابة والاخراج والتمثيل.. فكان يعتبر كل جزء مستقلا بذاته ويمثل لذاته.. لذا كانت تجربته فذة غنية تحاول التوفيق بين الشكل والمضمون الاجتماعي.. وبهذا أصبح من المشاركين في تشكيل رؤية صحيحة لفكرة المسرح وشكله.. على أن تخدم هذه الرؤية في التعبير احتياجات الانسان المعاصر.. فأعماله التي يختارها كانت للإنسان ومن الانسان.. فهي ذاته وقلقه ووجوده وطموحه وما يدور في ذهنه من أسئلة.. ورائعته (غاليلو غاليلي) تقدم خلاصة وعيه ورؤاه.. اذ الصراع بين قوة السلطة وحقيقة العالم ..

وكتب د. عوني كرومي بدوره:” إن حركة التمرد بها بداية، ولكن ليس لها نهاية، تظهر عندما تبرز أسماء المبدعين المدافعين عن حالة التمرد والثورة. لأن التمرد يطمح إلى التغيير وإعادة التكوين ويأخذ شكله من الزمن الذي يظهر فيه والمكان والمجتمع لأن التمرد على الأشكال والمضامين نسبي. ففي بلد ما يعتبر ما هو تمرد على الأشكال في بلد أخر يعتبر هذا الفعل أو الشكل مستهلكاً وتم تجاوزه. لأن المسرحيات الأكثر تمرداً هي التي تُسائل مفاهيم سائدة، وبهذا تثير السخط من المحافظين والتقليديين وتتهم بالانحطاط والابتذال وعدم الفهم… كما إنها تهدد قيم المجتمع السائد لأنها تتصدى للأزمات العميقة وتقترب من المحرمات”. (راجع: د. عوني كرومي، كتاب المسرح الحديث والتمرد على التقاليد “هاينر ملر نموذجاً” في كتاب صادر لمجموعة من الكتاب من أصدقاء عوني كرومي.. اختيار ومراجعة الدكتور نزار محمود، إصدار المعهد الثقافي العربي، منظمة غير حكومية، برلين، 2007، ص 8).

كان د. عوني كرومي صديقاً محباً لأصدقائه ومعارفه يناضل دوما ضد الكراهية والحقد والتمييز ضد الآخر ولاسيما ضد المرأة، ولهذا أحبه الجميع أيضاً ومن مختلف الاتجاهات الفكرية، فيما عدا أولئك الذين حرموه من البقاء في العراق وأجبروه عملياً على مغادرة البلاد إلى عمان ومنها اللجوء إلى ألمانيا والإقامة فيها. وفي ألمانيا قدم أوراقه للحصول على الإقامة في برلين فاستعان في حينها بمنظمة الدفاع عن حقوق الإنسان في الدول العربية/ ألمانيا (أمراس) لتسريع إنجاز قبوله لاجئاً سياسياً ومنحه الإقامة مع عائلته في ألمانيا. وفي حينها كتبت له تلك الرسالة بكل ممنونية واعتزاز إلى المسؤولين الألمان باعتباري أميناً عاماً لهذه المنظمة حينذاك. وقد أشرت فيها إلى مكانة هذا الفنان الكبير في العراق وإلى أجواء الاضطهاد التي عاشها في ظل حكم البعث الدكتاتوري البغيض، ولاسيما في الفترات الأخيرة وتحت وطأة الحروب والحصار التي عانى منها الشعب العراقي، ومنهم الفنان عوني كرومي. ولم تطل فترة الانتظار فقد منح الإقامة الدائمة في ألمانيا. وكان هذا محل ارتياح جميع العراقيين والعرب، إذ كسب العراقيون والعرب إنساناً مثقفاً ومسرحياً مبدعاً قادراً على تحريك الأجواء الثقافية، ولاسيما المسرحية، في برلين وألمانيا وقد حصل ما توقعوه فعلاً.

في أحد أعوام وجود الدكتور عوني كرومي في برلين زاره الفنان المسرحي الكبير خليل شوقي في نهاية العقد الأخير من القرن العشرين، فالتقينا سوية وتناولنا الحديث عن العراق، وكان همنا المشترك، واقع المسرح العراقي حينذاك والمشكلات التي تواجه من تبقى منهم في العراق وسبل تقديم العون لهم. كان اللقاء وتناول الغداء في مطعم على مقربة من مسرح برتولد بريشت “برلينر إنسامبل” (فرقة برلين)Berliner Ensemble ) وفي الساحة التي هي باسم هذا الفنان الألماني التقدمي الكبير التقطنا بعض الصور التذكارية التي أوصلتها للصديقين الكبيرين اللذين فقدناهما واحداً بعد الآخر وفي الغربة القاحلة نفسياً. كما فقدنا الفنان الرائع والممثل المسرحي المعروف منذر حلمي (أبو سلام) في برلين أيضاً. اعتقد جازماً بأن الهم العراقي وهم المسرح العراقي كانا ضاغطين بقوة هائلة على عقل وقلب هؤلاء الفنانين الكبار في قلوبهم وعقولهم وأعمالهم، ومنهم العزيز الغالي عوني كرومي.

درس عوني كرومي التمثيل والإخراج المسرحي في معهد الفنون الجميلة ببغداد وتخرج فيها عام 1965، ثم واصل دراسته المسرحية في أكاديمية الفنون ببغداد وتخرج فيها عام 1969. حصل على زمالة دراسية في جمهورية المانيا الديمقراطية ودرس في معهد العلوم المسرحية في جامعة هومبولت في برلين وحاز على درجة الماجستير في العلوم المسرحية عام 1972، ثم واصل دراسته في نفس الجامعة وحاز على درجة الدكتوراه دولة في عام 1976. بعدها عاد إلى العراق ليعمل

استاذاً في بعض الجامعات العراقية وليساهم في تقديم الكثير من الأعمال الفنية وخاصة على خشبة مسرح الستين كرسي. وقد اعتبر هذا المسرح مختبراً لأعماله المسرحية الحديثة.

قدم عوني كرومي الكثير من المسرحيات على خشبة المسرح العراقي وفي الدول العربية وألمانيا، ومنها برلين. وكان شعلة وضاءة لم نكن نعتقد أننا سنفقدها بهذه السرعة وبشكل مفاجئ رغم علمنا بما كان يعانيه من علة في القلب. لم يمنح قلبه الراحة ولا عقله الهدوء والسكينة. كان همه الكبير هو العراق الذي حرم من البقاء فيه وتقديم أعماله المسرحية على خشبات مسارحها. حين حاوره عبد الرزاق الربيعي أثناء وجوده في مسقط أجابه عن الموت قائلاً “الموت لا يخيفني ومتى يأتي أهلاً به، لأنني ألعب في الوقت الضائع ويبقى الموت الصدمة الإنسانية التي تهزني لأن موت الآخرين بالصدفة أو بأسباب لا معقولة إن كانت حروباً أو أوبئة أو خلالاً في البيئة أو استعمال أسلحة دمار يقلقني ويهزني ولهذا أمل أن يقوم المسرح بتعرية هذا سأكون دائماً مع الفريق الخاسر في أي حرب لأنه هو الفريق الأكثر دماراً وسأبقى ضد أي منتصر لأن انتصاره ما هو إلا مزيد من تراكم رأس المال وأن وراء كل حرب دوافع اقتصادية قبل أي شيء آخر ولدي قناعة أن البشر يمكن أن يتعايشوا وأدجلة الحروب بأي شكل لا أبررها حتى حروب التحرر الوطني أدينها لأنها تقتل الإنسان فإذا استطعنا أن نقف ضد العنف بجميع اشكاله سنستطيع أن نقف مع إنسانيتنا”. (عبد الرزاق الربيعي، حاوره في مسقط، الموت لا يخيفني ومتى يأتي أهلاً به لأنني ألعب في الوقت الضائع، المصدر السابق نفسه، ص 44).

ويذكر يوسف العاني: كان د. عوني، الذي رفد المسرح بعدد كبير من المسرحيات باللغات العربية والكوردية والالمانية وشكل حضوراً أكاديمياً رفيع المستوى، يبحث عن الاصالة في الابداع مع معرفة شاملة لعلم وفن المسرح ولا سيما مسرح بريشت الذي كان مدرسته الرصينة التي تعلمها ومارسها نظرية وتطبيقا. عوني.. بعد تلك التجربة بقيت اتابعه باعتزاز عبر سنوات ليست قليلة وهو يتنقل من بلد لأخر.. لألتقي به في مهرجانات ومؤتمرات كثيرة حتى لا يكاد مؤتمر او مهرجان يخلو منه وهو ذاك الانسان والفنان المبتسم والضاحك رغم الالم يصافح هذا ويسلم على تلك ليجدد صداقات كانت.. ويفتح صداقات جديدة اخرى. من اجل ان يتسع به عالم المسرح الذي صار فيه رمزا من رموزه الشريفة والامينة”.

من أهم المسرحيات التي قدمها الفقيد الغالي: فطور الساعة الثامنة، في منطقة الخطر، كاليكولا، غاليلو غاليلي، كريولان، مأساة تموز، القائل نعم والقائل لا، تداخلات الفرح والحزن، فوق رصيف الرفض، الغائب، حكاية لأطفالنا الأعزاء، كشخة ونفخة، الإنسان الطيب، صراخ الصمت الأخرس، ترنيمة الكرسي الهزاز، بير وشناشيل، المحفظة، المسيح يصلب من جديد، الصمت والذئاب، عند الصلب، في المحطة، الشريط الأخير، المساء الأخير، الطائر الأزرق، أنتيجونا، فاطمة، السيد والعبد.

إن فقدانه المبكر قاد الى برنامج من أعمال مسرحية لم تنجز وكثرة من كتبه المؤلفة لم تنشر.

لتبقى ذكراه خالدة في قلوب عائلته ومحبيه وكل من عرف وعمل مع هذا الفنان الكبير: عوني كرومي.

ملاحظة: عرضت المادة على الصديقين قيس الزبيدي ويحيى علوان ساهما بإضافات وملاحظات مهمة، فشكراً لهما.

كاظم حبيب

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here