فاعل ومُنفعل!!

كلمتان يرددهما المفكرون العرب , وما تمكنوا على مدى عقود وعقود من إحداث التغيير اللازم للإنتقال الحضاري المعاصر في البلاد العربية.

فهم يتحدثون عن تفعيل العقل , والعقل الفاعل والمنفعل , وغير ذلك من المصطلحات التي لا تطعم من جوع ولا تؤمّن من خوف , وإنما تبدو وكأنها هذيانات اليائسين الذين لا يجيدون غير الكلام والتخريجات التسويغية للإستكانة والتأسن المرير.

والبعض يريد إستحضار إبن رشد وما جاء به من أفكار وطروحات في القرن الثاني عشر والذي ركز على إعمال العقل في النص الديني , وكأن الحياة دين وحسب , ويغفلون التطورات الهائلة التي حصلت في مسيرة البشرية منذ ذلك الحين , فإبن رشد ربما لا يصلح لهذا الزمان الذي تسيد فيه التفكير العلمي والبحث العلمي وتنامت المعارف إلى مستويات مطلقة.

وموضوع تفعيل العقل في النص الديني لن يقدم ولن يؤخر , لأن العقل لا يمكن تفعيله في المعتقدات التي هي إنتماءات عاطفية إنفعالية شديدة عمياء , لا ترى ولا تسمع ولا تفقه إلا ما يؤازر إنفعاليتها وإلتصاقيتها وإنتمائيتها الهوجاء لما تعتقده وتترسخ فيه وتراه.

فالعقل العربي فاعل في النص الديني وبسبب هذا التفعيل وُجِدَت المذاهب والفرق والجماعات , والفلسفة التي أدخلها المأمون إلى العرب بترجمة كتب اليونان , هي التي فعّلت العقول وأوجدت التعددات الإعتقادية والتصورات التأويلية التي لا تنتهي , وبسبب ذلك كفّر الغزالي الفلاسفة في كتابه تهافت الفلاسفة , وحاول إين رشد الرد عليه بكتب تهافت التهافت وفصل المقال ومناهج الأدلة , لكنه لم ينجح , وتم إخراجه من الوعي العربي وعاش في الوعي الغربي , فأطلق العقل عندهم لأنه لم يكن متصلا بالنص الديني وحسب , وإنما لمواجهة الطبيعة والتحديات الأخرى التي أوصلت الغرب إلى التفكير العلمي , والبحث الجاد الذي يساهم في حل المشكلات.

فالمطلوب هو التفكير العلمي والبحث العلمي , فعندما تنتشر ثقافتهما وتتراكم الخبرات في ميادينهما يتأكد العقل ويبدع ويشارك في بناء الحضارة الإنسانية.

إن تمحور المفكرون العرب حول موضوع تفعيل العقل , والعقل الفاعل والمنفعل , إنطلاقا من رؤى إبن رشد في القرن الثاني عشر في الأندلس , عبارة عن دوران في دائرة مفرغة , لن توصل إلى نتيجة حضارية نافعة.

وهي تعبيرات إستهلاكية لحالات عفا عليها الزمن , وكأنهم يستحضرون الماضي الذي يدّعون بأنهم يريدون تجاوزه والتفاعل مع المستقبل , فإبن رشد مضى عليه ثمانية قرون , ولا يمكن التوهم بأن الأمة متأخرة عن الدنيا بثمانية قرون وعليها أن تبدأ من حيث إنتهى إبن رشد , ففي هذا تكسير وتنكيس لإرادة الأمة وإفهامها بالإنهزامية والتراجعية.

فالأمة في القرن الحادي والعشرين وليست في القرن الثاني عشر , ومن غير المعقول أن نتصور غير ذلك , ونحسبها على هوانا وأمزجتنا وتصوراتنا التي نتوهم بأنها عقلانية ومنطقية وذات قيمة حضارية.

إن ما يغفله المفكرون العرب أن العقل البشري فاعل دوما , ولا يمكنه أن لا يتفاعل مع واقعه الذاتي والموضوعي , لكن الفرق ما بين البشر في الموضوعات التي يتفاعل معها العقل.

ففي المجتمعات المتقدمة يتفاعل العقل بمفردات ويواجه تحديات غير التي يتفاعل معها العقل في المجتمعات الأخرى , والعقل الصيني يتفاعل مع حالات لا يتفاعل معها العقل العربي , ونوع التفاعل العقلي يرسم حالة الواقع البشري.

فالقول بالعقل الفاعل المقصود به من وجهة نظر المفكرين العرب أن نسلط أضواء العقل على النص الديني ونتركه يرى ويتصور ويؤول , وكأن السبب في التخلف والتأخر عدم تسليط العقل على هذه الأمور , وكأن الدين لوحده هو سبب المأساة العربية , وكأن العرب لوحدهم أصحاب دين وتأريخ.

هذا إقتراب لا يتوافق وبديهيات المنطق , وإنما هو توهم وإنحراف في الرؤية والتصورات , وتعبير عن التفاعل التسويغي والتبريري الذي مضى عليه المفكرون العرب على مدى أكثر من قرن.

ومن الواضح لو سلطتَ جميع العقول العربية وفعلتها وركزتها على النص الديني فلن يتقدم العرب , وإنما سيزدادون تمحنا وتمزقا وتورطا بذاتهم وبموضوعهم , ولن ينتصروا على الأصولية , لأنها من سلوكيات البشر المتأصلة فيه والماضية في أعماقه عبر الأجيال , فالأصولية أول سلوك قام به البشر وأدى إلى القتل وسفك الدم , وما قصة قابيل وهابيل إلا تعبير صارخ عن الأصولية التي فعلت فعلها وقضت بقتل هابيل.

والأصولية ليست ظاهرة عربية أو تخص الإسلام , وإنما هي ظاهرة بشرية موجودة في جميع المجتمعات والأديان , ومهما تقدم البشر فلن يتخلص أو يتحرر من الأصولية الدينية خصوصا وغيرها من الأصوليات.

والفرق بين المجتمعات الأخرى والمجتمع العربي أن عقول أبناء المجتمعات منشغلة في موضوعات معاصرة , ومجتهدة في العلوم والبحوث العلمية والنشاطات الإنتاجية والإقتصادية النافعة , وفي المجتمعات العربية يتم حصر تفعيل العقل في الموضوعات الدينية , وكأن النص الديني هو بيت الخراب العربي.

فالمجتمعات تتراجع وتتقهقر عندما لا تتفاعل مع حاضرها ولا ترى مستقبلها , فتندحر في معتقداتها وتتوهم أن النجاة ستكون بها لا بغيرها , وأنها في أسوأ حال لأنها تركت العمل بمعتقدها , ولا بد لها أن تعود إليه لكي تستعيد قيمتها ودورها وقدرتها على الحياة , وهذا بحد ذاته إنتكاسة حضارية مروعة وقاتلة.

فالأديان معتقدات ولا يمكنها أن تصنع تقدما أو حضارة أو تقيم مجدا بذاتها , وإنما بالعقول التي تتفاعل مع مفردات الحياة وتستولدها ما يساهم في رقائها وتقدمها وإنطلاقها نحو المستقبل المطلق.

فلا توجد حضارات بأسماء دينية أو تنسب لأديان , فهذا نوع من التشويش والخداع والتضليل , الموجود في الواقع البشري حضارات إنسانية نابعة من جد وإجتهاد عقول الأمم والمجتمعات , وما يبرز فيها من أفراد وأشخاص أفذاذ يقودون ركب المسيرة فيها إلى حيث يرتقون.

فالحضارات والثورات المعرفية من بنات الأفراد وليست من بنات الأديان والعقائد , كما يُراد له أن ينغرس في الوعي الجمعي العربي , لكي يتحقق عزل الإنسان العربي عن حاضره ومستقبله ودفنه بما يعتقده , وطمره بماضية الذي يتم حشوه بالأساطير واللامعقول.

فلا تقل فاعل ومنفعل , وتفاعل مع مكانك وزمانك , بما فيك وما فيه من المكونات والمرتكزات وفاعلها في أوعية إبداعك ومعارفك وعلمك وإستولدها ما هو أصيل.

وإن العلم مفتاح الأرب!!

العقل الفاعل: هو العقل الذي يتعامل بمنطقية وسببية إبداعية تساهم في الإتيان بما هو أصيل وجديد , وتقدم تنويرا إدراكيا غير مسبوق.

العقل المنفعل: هو العقل التبريري التسويغي المُستعبد المرهون بالعاطفة والإنفعال المهيمن على الإرادة الإنتمائية لأي حالة قائمة في دنيا البشر , فهو عقل عاطل وراكد.

د-صادق السامرائي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here