لعنة العقائد في حياتنا مصائب و نوائب

بقلم مهدي قاسم

عندما دخلت أكثرية الشعوب الأوروبية مرحلة النهضة والتنوير
بعد التخلص من هيمنة الكنيسة وتحرير الدولة من وصاياها وقيودها ، واصلت هذه الشعوب ، شيئا فشيئا ، خطوات مسيرة تطورها وعمليات تحديثها لأطر و أنماط حياتها و بناها التحتية والفكرية والعلمية والفنية على حد سواء ، و بمساع حثيثة نحو العصرنة وقمم التطور التقني الحالية
، دون أن تكتفي بذلك ، أنما واصلت أبحاثها العلمية نحو مجالات أخرى كالفضاء الخارجي ، أي بتعبير آخر أن هذه الشعوب لم تنتكس ــ في سياق مسيرتها نحو التحديث و التطور ــ ارتدادا نحو الماضي المظلم و التخلف الديني لفظائع محاكم التفتيش الجزويتية التي جرت في القرون الوسطى
بكل فاشيتها و ساديتها الهمجية تحت ذريعة حماية الدين المسيحي من الهرطقة و السحر و الزندقة ، فاستمرت تلك المسيرة بالرغم من كون بعض تلك الشعوب و الأقوام قد عاشت فصولا و مراحل أخرى من أنظمة شمولية قمعية و دموية ــ مثل النازية الهتلرية و الشيوعية الستالينية ــ
، إذ فما أن انهارت تلك الأنظمة الشمولية و سقطت راحلة و بشكل نهائي غير مأسوف عليها ـ حتى استعادت هذه الشعوب مسيرة تطورها و تقدمها نحو التمدن الحضاري/ ذات الوجه الإنساني و العصرنة الواعدة بالرفاهية و العيش الرغيد تحت ظل نظام التعددية البرلمانية الراسخة و الوطيدة
، و لعل أفضل مثال على ذلك هو ، الشعبان الألماني و الإيطالي بعد انهيار الأنظمة النازية الألمانية و الفاشية الإيطالية ، و كذلك الأمر بالنسبة لشعوب أوروبا الشرقية التي ما أن تخلصت من الأنظمة ” الاشتراكية ” والبيروقراطية الفاسدة ، بعد سبعين عاما من حكم ديكتاتوري
” مرن ” ـــ هذا دون أن ذكر الأسبان الذين عاشوا تحت ظل الحكم الفرنكوي الفاشي و الديكتاتوري الصارم لفترة طويلة جدا طالت سبعين عاما ، ــ فأنها ــ أي هذه الشعوب الأوروبية الآنفة الذكر ــ سرعان ما تقبلت نظام التعددية البرلمانية وتعيشت معها بأنسجام سياسي و التزام
و احترام للعبة السياسية و الديمقراطية البرلمانية و حتى هذه اللحظة ، دون فرض عقيدة و أنماط حياة إحدهم على ألآخر بالقوة و الإكراه ،ولا بدون أي حنين إلى ذلك الماضي المظلم و الدموي المرعب ذات الصبغة الدينية ..

بينما في حالة العرب المتمسكين بعقائدهم بشكل مهووس
و متشنج ـــ ولكن بآلية شكلية في الوقت نفسه ـــ نجدهم سرعان ما يرتدون نحو الماضي ” الجميل ” و العتيد البهيج و بكل انتكاسة ” كاملة الأوصاف و المواصفات ” بمجرد حصول ابسط هزة أو تغييرات سياسية ، بالرغم من وجود تيارات فكرية نهضوية و ثقافية تنويرية منذ الأربعينات
و الخمسينات والستينات من القرن الماضي وصعودا واستمرارا حتى الآن ولو بوتائر أقل بسبب عمليات القتل و المطاردة التي طالت بعضهم ــ بينما قائمة أسماء الرواد من المفكرين التنويريين طويلة جدا ولا يسع الوقت هنا لذكرهم واحدا واحدا ..

فيا ترى ما هو سبب هذه الردة و و الانتكاسة بين حقب
و أخرى ؟

ولعنا لا نجانب الحقيقة كثيرا إذا قلنا أن السبب الأساسي
يكمن في كون العقلية العربية لم تستطع التحرر ــ قطعا ــ من أسارها وقيودها البدوية والقبلية والعشائرية المترسخة و المتكلسة ، أو بالأحرى بقيت كذلك في جوهرها حتى الان ، مثل خلية جرثومية غافية تنظر فصولها الملائمة لتستيقظ من جديد ، وفي أية لحظة كانت لترجع كما
هي بكل هستيريتها العقائدية الإقصائية و الباطشة القمعية ، وأكبر دليل على ما نقول هو كوارث ” الربيع العربي” ضد أنظمة ديكتاتورية ” علمانية ” التي جاءت بغالبيتها بأحزاب إسلامية شمولية و فاسدة ، في سعي محموم العودة نحو الماضي الإسلامي “الجميل ” و التليد وهو الماضي
الذي قام على غزوات و سبي و سلب و تدمير حضارات شعوب وأقوام أخرى وفرض عليها عقائد دخيلة و جديدة بقوة و إكراه ، عبر فصول دموية من حروب و معارك و مؤامرات و مذابح لم ينج منها حتى ممن كانوا بعضا من قادتها وزعمائها الأوائل..

ولكن لماذا نذهب بعيدا ؟

لنأخذ ــ مثلا ــ مجتمعنا العراقي الذي عاش عصرا تنويرا
و نهضويا ” علمانيا ” بعض الشيء منذ الخمسينات من القرن الماضي، حتى صعودا و استمرارا حيث ازدهر وبشكل كبير وواسع النشاط الفكري و الثقافي و الفني و التمدن الحضاري ، وكان يمكن تلمس ذلك في سلوك وتعامل الناس فيما بينهم و كذلك في أذواقهم الجمالية والفنية وفي طبيعة
الملبس و المظهر الخارجي أيضا من حيث ارتداء ملابس أنيقة و نظيفة ومن ارتياد المسارح و دور السينما و الأندية الثقافية الأخرى، غير أن هذه النهضة التنويرية و الحضارية سرعان ما أخذت تتقهر بمجرد إعلان الطاغية البائد ” حملته الإيمانية الكاذبة ” والتي أخذت بُعد شموليا
و طاغيا بعد تسليم الإدارة الأمريكية السلطة لأحزاب و ميليشيات دينية و طائفية ذات الولاء المطلق للنظام الإيراني في العراق وبعضها الآخر السنية الموالية للنظام السعودي أو التركي أو القطري ، حيث أصبحت الاستجابة الجماعية سريعة للردة الكاملة نحو الماضي والانتكاسة
الشديدة ، حيث أصبحت هذه الردة السلفية سمة طاغية على فئات و شرائح واسعة من المجتمع العراقي ، علما أن عديدا من مثقفين و كتّاب و شعراء وفنانين ومطربين قد خرجوا من بين صفوفها ..

فهنا نلاحظ كم كبير و شاسع الفارق بين المجتمعين الأوروبي
و بين العربي فالأول ــ أي الأوروبي ــ يبقى محتفظا بوعيه التنويري والحضاري حتى لو مرت بخضة و أضطرابات سياسية قد تطول عقودا طويلة ــ الآنفة الذكر ــ بينما العربي أو المسلم و ــ هنا لا نقصد التعميم المطلق ــ سرعان ما يستسلم للموجة الجديدة من الردة الحضارية
أو المدنية ، متخليا شيئا فشيئا ، عن قناعاته السابقة ، مداهنا ، مساوما ، ليرجع سابحا بين لجج ماضيه ” الجميل و التليد ” بذهن مثقل أصلا برواسب مترسخة في وعيه أو في لاوعيه من موروثات دينية و مذهبية و عشائرية أو قبلية لتكون هي بوصلة حياته الراهنة ..

فمن هنا قد تحتاج الشعوب العربية إلى قرون طويلة و
عبر أجيال عديدة و ذات وعي صاف و نقي من شوائب الماضي وترسباته حتى تقبل بالنظام الديمقراطي الصحيح و النقلات الحضارية السليمة ، سيما أن العرب لا يتقبلون شيئا بشكل كامل ومطلق إلا بعدما يتحول عندهم إلى شيء ” مقدس ” !! ، طبعا دون أية ضمانة في عدم الارتداد !..

مجرد ملاحظات سريعة دون إسقاطها على شخص معين أو محدد
:

ــ يحلو لبعض أن يكتب أو ينّظر في الديمقراطية والتمدن
، ولكن دون أن يحرجه ذلك أن يكون مؤيدا و مدافعا عن أسوأ سياسي إسلامي كاره للديمقراطية و كرّس الفساد والطائفية في العراق ، مثل نوري المالكي زعيم حزب الدعوة ، ذلك الحزب الذي يعد نسخة ” شيعية من ” الأخوان المسلمين ” الذين يعتبرون الديمقراطية ” بدعة غربية مستوردة
” يجب رفضها و نبذها !!.

ــ مثلما البعض الآخر الذي يدافع عن الأنظمة الإسلامية
سواء في إيران أو السعودية أم العراق وهو مقيم في الغرب ” الصليبي و الكافر ” رافضا في الوقت نفسه العيش تحت ظل هذه الأنظمة الإسلامية والمساهمة في بناها وتحمل صعوباتها و التلذذ بطيباتها ــ أن وجدت ـ أي تحمل مرها و حلوها في آن إذ : أليس هذا أبسط واجب على شخص ”
عقائدي ” أن يطبق النظرية العقائدية في حياته اليومية تحت ظل الدولة الإسلامية القائمة: مساهمة و بناء ومعايشة وانسجاما ” جميلا ” و تطبيقا رائعا بين النظرية و التطبيق ، طالما يؤمن بها إلى هذا الحد المهووس ؟!! ، لتصبح مزاعمه العقائدية أكثر مصداقية ، سيما أن الساحة
والمجال و الإمكانية مفتوحة أمام هؤلاء العقائديين ، بغية تطبيق النظرية العقائدية بالممارسة العملية في حياتهم اليومية سواء في العراق أو إيران أو السعودية أي حتى ظل أنظمة إسلامية سواء” شيعية أو سنية ” ، حتى يساهموا في بناء صروح النظام الإسلامي الذي يدافعون عنه
بشكل مهووس حينا وهستيري حينا آخر؟!!.

فها هنا قد وصلنا إلى بيت القصيد : أي إذا تعلق الأمر
بالمصلحة أو المنفعة والفوائد الذاتية ومتطلبات التضحية الشخصية فآنذاك ليس من ثمة أهمية للعقيدة في مثل هذه الحالة ، إما إذا جرت المسألة على نحو الدفاع عن هذه العقيدة أم عن تلك عن بُعد بعيد ، و بدون تضحيات شخصية مكلفة ، فتبدو المسألة هينة و سهلة بالنسبة لهؤلاء
وأولئك !!..

نقول ذلك لأننا نستغرب أن ثمة من يقول أو يدعي بأنه
جاهد ” و يجاهد من أجل إقامة نظام إسلامي ، و عندما يكون هذا النظام موجودا فهو يدافع عنه بشدة ، و هذا من حقه ، و لكنه يرفض العيش تحت ” ظله الوارف ” إنما مفضلا العيش في” بلدان صليبية ” يتحكمون بتربية أطفاله و يضعون بناته في مدرسة مختلطة ( وهذا امر مرفوض من
قبل الإسلاميين ) ، فيتقبل كل ذلك على مضض حتى يعيش حياة مرفهة نسبيا على حساب قناعاته الدينية أو المذهبية .

و يبقى أن نقول أنه من حق أي كان أن يعيش في أي بلد
يرغب العيش ، فنحن لسنا وصايا على أحد ، ولكن على شرط أن يكون أصيلا و منسجما مع قناعاته الدينية والعقائدية نظرية وتطبيقا مساهمة و عيشا يوميا في ظل نظام يطبقون عقائده هناك !..

نقول هذا لأن الثائر الأرجنتيني جيفارا ن قد تخلى
عن منصبه كأحد أقطاب الثورة الكوبية الكبار و كوزير في كوبا ، و التحق بثوار بوليفيا مناضلا و مكافحا ، وعانى من صعوبات عيش شديدة وصلت في بعض الأحيان لحد الجوع ، فضلا عن أمراض مزمنة أخرى ، لقد فعل ذلك مدفوعا بقناعاته الثابتة بضرورة تطبيق النظرية في ميادين وتفاصيل
حياة اليومية تلبية لنداء الواجب العقائدي في كل زمان وفي أي مكان ، لتكون عقيدته أكثر مصداقية .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here