فلسفة : لا تنفخ في الرماد المنطقئ !

* د. رضا العطار

لاحظ بعض الفلاسفة ان هناك صورتين مختلفتين من صور التعبد للماضي. فهناك اولا صورة مادية بحتة تتجلى في النظر الى الماضي على انه (شيئ متحقق) قد اكتسب ضربا من الوجود الضروري، وكأن الماضي نفسه قد اصبح هو (العلة الكافية) التي تفسر كلا من الحاضر والمستقبل ثم هناك ثانيا صورة اخرى اكثر روحانية، وتلك هي التي تبحث في الماضي عن احلام جميلة وتهاويل براقة وكأن من شان ذكريات الماضي ان تعزي الذات عن نقص الحاضر وغموض المستقبل !

والصورة الاولى من صور عبادة الماضي تمثل اتجاها حتميا او جبريا لا يرى في (الماضي) سوى مجموعة العلل التي تتسبب في حدوث الظواهر الحالية او المواقف الراهنة. ولا ريب فان المستقبل هو عالم (الامكان) في حين ان الماضي هو عالم (الضرورة). ولما كان تفسير اي شئ من الاشياء يستلزم الكشف عما فيه من ضرورة فان من طبيعة التفسير ان يتجه نحو (الماضي) ما دام الاصل فيه ان نربط الشيئ بعلته (اي بما تم حصوله بالفعل) ومن هنا فان الماضي هو عالم (الوجود) و (المعرفة) على السواء. واما (الحاضر) فهو عالم (الفعل) و (النشاط) في حين ان المستقبل هو علم (الامكان) و ( الامال).

ولكن دعاة هذه النزعة يتناسون ان (الحاضر) و (المستقبل) ليسا ماثلين منذ البداية في صميم (الماضي) والا لما كان في العالم اي ابداع. والحق ان الماضي لا يؤثر علينا بالقدر الذي يتصور هؤلاء بل هو حقيقة مرنة تقبل التشكل باستمرار دون ان يكون في وسعنا اعتبار الانسان مجرد اسير مستعبد تماما لماضيه . وما دامت حياتنا في تطور مستمر وتغير متصل فان كل ما حققناه في الماضي لا بد من ان يكتسب طالعا جديدا وفقا لما يطرا على اهدافنا من تغير وما يستجد على مشروعاتنا من تعديل – – – وبهذا المعنى يمكننا ان نقول ان الماضي لا يمكن ان يغني شيئا الا بالنسبة الى ذلك الانسان الذي ياخذ على عاتقه ان يستخدمه وان يخلع عليه باستمرار حياة جديدة.

واما الصورة الثانية من صور (عبادة الماضي) فهي تلك التي تتصرف فيها الذات عن الفعل او النشاط او بذل الجهد في صميم الحاضر من اجل الاقتصار على تأمل اشباح الماضي واجترار ذكرياته وتذوق حلاوة احلامه السعيدة ! وليس من شك في اننا حينما نستعيض عن الحياة بالحلم فاننا قد نجد في صور الذاكرة المختزنة ما قد يعوضنا عن آلام الحاضر ومصاعبه – – – ولكننا كثيرا ما نتناسى ان هذه التهاويل البراقة التي قد تعمد الذات الى بعثها من مرقدها لتعوض نفسها عن اجذاب حاضرها واقفار حياتها الراهنة انما هي احلام كاذبة تسيئ الى الماضي ذخيرة حية نرتد اليها في كل حين حتى نستند اليها في مواجهة حاضرنا ومستقبلنا ولكنه ليس قيدا يأسرنا ويجد من حركاتنا في كل من الحاضر والمستقبل، كما انه في الوقت نفسه ليس مرآة نرتد ايها في كل لحظة لكي نتمني جمال صبانا الراحل او شبابنا الذابل ! وكثيرا من الاحداث التي وقعت لنا في الماضي هي مجرد عوارض عابرة قد قدر لها الزوال فليس من مصلحتنا ان ننفخ من جديد في مثل هذا الرماد ! أجل فان من الماضي ما مضى وانقضى ولا بد لنا من ان ندعه يذهب مع الريح ! وقد يكون من الحكمة ان يدير ظهره لماضيه لكي يتجه ببصره في امل وثقة نحو الحياة المليئة الوفيرة التي تتجدد دائما يوما بعد يوم .

· مقتبس من كتاب فلسفة مشكلة الحياة د.زكريا ابراهيم القاهرة

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here