نظرات في كتاب: “مقالة في السفالة” للدكتور فالح مهدي الحلقة السابعة

كاظم حبيب

العراق المعلول ونظام الحكم الملكي
في القسم األول من كتاب األستاذ الدكتور فالح مهدي “مقالة في السفالة” وتحت باب العنف يجد الباحث الكثير من
العناوين التي حملت أفكارا تسنى لي طرح بعض ما جاء في هذا القسم من عناوين ً مهمة وجريئة تستحق المناقشة. وقد
والتعليق عليها، ولكن يصعب تناولها كلها، وأتمنى على غيري من الكتاب تناولها ألهميتها في وضع العراق الراهن الذي
يتميز بالسفالة الفعلية وفي مختلف وقائع الحياة في من الحلقة السابعة سأتناول بعض عناوين القسم
ً
الع ارق. وابتداء
الثاني من هذا الكتاب والموسوم “العراق المعلول” وأمل أن أتناول بعض أفكار القسم الثالث الموسوم: لماذا وصلنا إلى
هنا؟ مالحظات وانطباعات.
يبدأ الدكتور في هذا القسم بإعطاء فكرة عن واقع العراق الجغرافي وتنوع مناطقه ودور الصحراء في تكوين المجتمع
وتشكيلته االجتماعية، والسيما واقع البداوة ومن ثم الفالحة خالل الفترة التي سقط العراق تحت االحتالل والحكم المغولي
منذ العام 1258 ،ومن ثم االحتالل والحكم العثماني البغيض حتى خسارة الدولة العثمانية في الحرب العالمية األولى
لمستعم ارتها في الشرق األوسط، ومنها العراق. قبل وخالل القرون األربعة من االحتالل العثماني لبالد ما بين النهرين،
لوادي الرافدين المعطاء، خسر العراق كل ما تحقق له في القرنين التاسع والعاشر الميالديين، الثالث والرابع الهجريين
من تطور حضاري وثقافي كبيرين. يكتب د. مهدي عن هذه الفترة: “إن المرحلة الممتدة من 1258 وإلى 1914 مثلت
الموت السريري لهذا البلد والذي كان في القرون الوسطى وعبر مدينة بغداد يمثل أرقى ما توصل إليه اإلنسان من رقي”
)الكتاب، ص 120( .)من المفيد هنا االطالع على الحضارة العباسية في عدد كبير من الكتب منها: كتاب األستاذ
الدكتور عبد العزيز الدوري الموسوم “تاريخ العراق في االقتصادي في القرن ال اربع الهجري، الصادر عن مركز د ارسات
الوحدة العربية، بيروت/ ط 3 ،1995 ،)وكتاب أحمد فريد رفاعي، عصر المأمون، جز1 و2 ،الهيئة المصرية العامة
للكتاب 1997 ،وكتابي الدكتور شوقي ضيف الموسوم العصر العباسي األول والعصر العباسي الثاني، ومئات الكتب
األخرى(. لم يكن في مقدور المغول مهاجمة العراق واجتياحه واحتالله لوال التدهور الكبير الذي حصل في داخل
اإلمبراطورية العباسية حينذاك، و السيما تدهور العالقة بين الخليفة والرعية، وكذلك في تفكك المجتمع العباسي في قلب
وعاصمة الدولة العباسية بغداد. ولكن العراق في ظل االحتالل المغولي والدويالت القزمية التي نشأت ومن ثم االحتالل
العثماني غاص العراق، والسيما في الفترات األخيرة من الحكم العثماني، في أعماق مستنقع التخلف االجتماعي والجهل
واألمية والفاقة واالستغالل األكثر بشاعة للفالحين الكادحين، والسلوك المتوحش للجندرمة العثمانية، إضافة إلى إثارة
الحروب ضد القوميات األخرى في الدولة العثمانية. لقد بلغ التخلف مداه العميق في كل مناحي الحياة بما في ذلك تخلف
عموما وكان العراق عرضة فعلية لحمى العثمنة العنصرية والهيمنة ً اللغة العربية وانحطاط األدب والثقافة والفنون .
العثمانية البغيضة لقرون خلت. كتب الدكتور فالح مهدي بصواب ما يلي: “العثمنة ألغت هذا البلد الذي كان له تاريخ
مجيد ثقافيا تان وردتا في ألف ليلة وليلة من ضمن الماضي الذي مضى، فيذكرا ً وأصبحت بغداد والبصرة المدينتان الل
كما تذكر أثينا أرسطو اإلسكندر، وطروادة التي وردت في ملحمة هوميروس في اإللياذة”. ))مهدي، الكتاب، ص 122.)
2
جاء في كتابي الموسوم “لمحات من ع ارق القرن العشرين، المجلد الثالث، ما يلي: ” لم تتسم سياسة الدولة العثمانية
بالطبيعة القرقوشية والخرافية واالنفالت والظلم والبطش ونهب المجتمع وإفقار البالد وتخلف البنية التحتية والخدمات
حسب، بل اتسمت أيضا بعنصرية متوحشة وتعصب ديني شرس ومسعى مستمر لعملية تتريك قسرية للمجتمعين العربي
ُردي
ً. )كاظم حبيب، لمحات من ع ارق القرن العشرين، المجلد
والك و في آن واحد”، والتي شملت بقية القوميات أيضا
الثالث، بداية االحتالل البريطاني للعراق ونهاية االنتداب 1914 – 1932 ،العراق الملكي، الجزء األول”، دار أرس،
أربيل 2013 ،ص 6 .)ومن هنا يرى الدكتور مهدي بصواب إن نهاية الحرب العالمية األولى واحتالل العراق من قبل
القوات البريطانية فتحت نافذة لدخول رياح التغيير والحضارة الغربية على العراق. لقد كان العهد العثماني يلتهم األخضر
واليابس المنتج في الع ارق دون أن يشارك في بناء هذا البلد ليحقق المزيد من الربح له وتحسين أوضاع الناس، وهو
استعمار قديم شرس يجسد مضمون الرؤية اإلقطاعية في التهام كل الريع المتحقق في الزراعة دون المساهمة في
تحقيق أي تراكم فعلي في الثروة االجتماعية، وهذا بخالف االستعمار الحديث حينذاك، الذي يجد ضرورة في سبيل تحقيق
مصالحه االقتصادية أن يقوم بالتعمير ومد خطوط سكك الحديد والكهرباء والماء…إلخ. وقد كان ماركس قد انتبه لهذا
الواقع و أشار إليها في تحليله للدور المزدوج لبريطانيا في الهند. إذ ال يمكن لبريطانيا أن تحقق استخراج النفط وتصديره
و تحقيق أرباح هائلة منه، إضافة إلى عمليات تصنيعه وتصديره، دون أن تقيم انابيب نقل النفط والسكك الحديد والشوارع
أو دون تعليم وتدريب العمال وتوفير سكن وخدمات أخرى…الخ. إنها عملية ذات جانبين متالزمين في مصلحة بريطانيا
وفي مصلحة المجتمع، ولكنها تبقى نسبية ومقننة بالنسبة للجانب الثاني.
وهنا بودي أن أشير إلى مسألة أخرى لم يتطرق لها الدكتور فالح مهدي في هذا الكتاب، وأعني بها ثورة العشرين، التي
كتب عنها د. محمد سلمان حسين ود. على الوردي وصدرت عنها عشرات الكتب، طرحتها في كتاباتي عن ثورة العشرين
في العراق. وبتقديري إن هذه الثورة لم تكن ثورة وطنية ضد المستعمر البريطاني بشكل مجرد عن أي سبب أخر، بل إن
قادة هذه الثورة من رجال الدين وشيوخ العشائر وبعض كبار المالكين قد استهدفوا التصدي لرياح التغيير القادمة من
الغرب االستعمار ي من الغرب البريطاني الكافر، على الموقع الدينية واالجتماعية للقوى الدينية ولشيوخ العشائر وكبار
مالكي األراضي الزراعية، وعلى العالقات اإلنتاجية شبه اإلقطاعية في الريف العراقي، وعلى العالقة الحميمة والمالية
بين المرجعيات الدينية الشيعية وكبار مالكي األ راضي الزراعية، كما أنهم حاولوا مهاجمة بريطانيا كدولة مستعمرة من
الجانب الديني بشكل خاص، إذ جرى التركيز على إنها دولة كافرة، ألن سكانها يدينون بالديانة المسيحية دون أي اعتبار
واحترام للمسيحيات والمسيحيين في العراق الذين يتبعون الديانة المسيحية بطوائفها العديدة أيضا.
عد االحتالل البريطاني للع ارق في
ُ
كتب الدكتور مهدي بصواب عن االحتالل البريطاني للع ارق ما يلي: “… ي تقديري بداية
دخول هذا البلد في حركة التاريخ وحيويته. االحتالل البريطاني يمثل موضوعيا !”. )الكتاب، ص ً إعادة والدة هذا البلد
128 .)ثم يشير إلى مجموعة من اإلصالحات التي نفذها المستعمر البريطاني خالل فترة االنتداب )1932-1918 )في
العراق منها “في مجال العمران وبناء السدود والجسور، والمدارس والمستشفيات الخ، بما لم تقم به اإلمبراطورية العثمانية
خالل أربعة قرون”. )الكتاب، ص 128 .)هذه اإلشارة صحيحة ويمكن إضافة مسائل أخرى مهمة مثل وضع الدستور
الديمقراطي العراقي الذي اقر عام 1925 ،و بداية تكوين نوادي و منظمات المجتمع المدني في البصرة وبغداد والموصل
و التي تأسست حينذاك بفعل وجود الجنود البريطانيين، ثم إدخال الكتب والمجالت إلى العراق عبر مكتبة مكنزي، وهي واحدة
3
من أهم المسائل الحضارية التي دخلت مجتمعا كـتـبـت جـرتـرود بـيـل ً بالكاد قد دخل حضارة القرن العشرين. فقد كتبت
Bell Gertrudeال ـامي في بـغـداد، في
ّ
تي كـانـت تـعـمـل في سـكـرتـاريـة الـمـنـدوب الـس 7 تـشـريـن الـّثـاني مـن عـام 1923
إلى زوجـة أبـيـهـا: ” ـة اسـمـه مـكـنـزي
ّ
لـديـنـا هـنـا رجـل شـديـد الـهـم Mackenzie أنـشـأ مـكـتـبـة مـمـتـازة ومـزدهـرة. وقـد كـان
ّ ش
كـتـبـيـا يء عـن الـكـتـب. ومـكـتـبـتـه مـن بـيـن أكـثـر مـا يـثـيـر اإلعـجـاب في بـغـداد، ويـشـتـري ً قـبـل الـحـرب ويـعـرف كـل
كـتـبـهـم فـيـهـا
ّ
الـكـل .” )راجع: الدكتور صباح الناصري، مـكـتـبـة مـكـنـزي في بـغـداد، موقع مدونة الدكتور صباح الناصري، 29/05/2019 .)
وعلى وفق المعلومات المتوفرة فقد أنشأ كينيث مكنزي )1928-1880م( هذه المكتبة في عام 1919 في القشلة ومن
ثم توسعت بعد ذلك وكانت كتبها كلها باإلنكليزية. ، ولكنها ذات جانب واحد، أي حصول إصالحات مارستها اإلدارة
البريطانية في العراق، ولكن الدكتور فالح مهدي لم يشر إلى الجانب اآلخر، السلبي، من االحتالل البريطاني للعراق. إن
اإلق ارر السليم بهذا الجانب ال بد للباحث ان يطرح الجانب الثاني من الوجود االستعماري في العراق. إذ إن هذا الجانب
أوالً اإليجابي و المهم هو الذي كان يتميز به االستعمار األوروبي حينذاك عن االستعمار العثماني القديم والبالي ، كما أن
االستعمار البريطاني الحديث قائم على العالقات اإلنتاجية الرأسمالية التي تختلف كلية عن طبيعة العالقات التي كانت
اإلمب ارطورية العثمانية وفي مستعمرتها الع ارق ثانيا ي ال بد له أن يستثمر رؤوس أمواله في ً تسود في ، وبالتالي فال أرسمال

مشاريع اقتصادية ليحقق منها أرباحه ثالثا
لم تكن البنية االجتماعية للمجتمع الع ارقي وال مستوى الدخل للفرد الواحد وال مستوى التطور االقتصادي والوعي االجتماعي
حينذاك تسمح للبريطانيين أن ينجحوا في توظيف رؤوس أموالهم ويحققوا األرباح الضرورية لهم دون أن يتخذوا مجموعة
ً
من اإلجراءات اإلصالحية. إذ كان أمامهم العراق، بلد متخلف وعدد سكانه قليل ال يزيد عن 8،2 مليون نسمة قياسا
لمساحته الكبيرة، وسوق ضعيف لتصريف السلع، إضافة إلى وجود النفط الخام، المادة األولية األساسية إلنتاج الطاقة
والتي تدخل في إنتاج الكثير من السلع الصناعية األخرى وذات األهمية الفائقة في المنافسة ال أرسمالية وفي الحروب.
فكان ال بد من التحرك على العراق من جوانب عدة، فكانت اإلصالحات التي تحدث عنها الدكتور فالح مهدي. ولو تابعنا
ُ الطريقة التي تعاملت بها بريطانيا ألدركنا بان مصلحتها كانت السبب األساسي وراء ما فعلته من إصالحات. ف
لم يقر
الدستور العراقي إال بعد أن وافقت الحكومة العراقية على منح امتياز النفط الخام ولمدة 75 سنة للكارتيل النفطي العالمي
حينذاك، وبنصوص االتفاقية التي أعدتها بريطانيا ولصالحها، وإقرار مبدئي للمعاهدة العسكرية والمالية التي بدأ البحث
بها في العام 1924 وانتهى التوقيع عليها في العام 1930 حول الوجود العسكري البريطاني في العراق، إضافة إلى
ً احتكار السوق الع ارقي للسلع البريطانية. من في سواد عيون
هنا بودي أن أشير إلى أن ما قامت به بريطانيا ليس حبا
العراقيات والعراقيين، بل بهدف الحصول على أرباح عالية من استخراج وتصدير النفط الخام ومن األيدي العاملة الرخيصة
ً. كما علينا أن
ومن احتكار السوق الع ارقي لسلعها المستوردة من بريطانيا وضمان وجودها في الع ارق مئة عام أساسا
من عبد الرحمن
ً
نتبين مسألة أخرى سعت إليها بريطانيا في الع ارق. إنها سعت لوضع من هم معها مائة في المائة. ابتداء
يالني ومرو ارً الگ باألمير فيصل األول وبالمجموعة العسكرية التي تربت في المدارس العسكرية العثمانية وتعلمت على
ً
ً وبروح قومية ومذهبية تعصبية. لم يكن عبد الرحمن الگيالني وحده خادما
عقيدتها ومارست تلك العقيدة في الع ارق أيضا
ً من ساسة الع ارق
ً عثمانيين ضمن قوات الشريف حسين، شريف مكة، ً لبريطانيا بل آخرين ايضا
مطيعا الذين كانوا ضباطا
في حين حوربت القوى الوطنية التي كانت في الحزب الوطني أمثال محمد جعفر أبو التمن، أو جماعة األهالي أمثال كامل
الجادرجي ومحمد حديد، وهم من الفئات المتوسطة والمثقفة في المجتمع، وجماعة اإلصالح الشعبي وبينهم عبد الفتاح
إبراهيم وبقية جماعة األهالي. ومنذ البدء حدد الدستور البريطاني هوية الدولة خطأً بالدول اإلسالمية وفرض المذهب
4
ً السني عليها، في حين إن الدولة ال دين لها، باعتبارها شخصية معنية، كما ، مما دعا خطأ شيوخ
ال مذهب لها أيضا
الدين الشيعة إلى دعوة أتباع المذهب الشيعي إلى مقاطعة وظائف الدولة، ولو لفترة.
ً كان الوضع في فترة االنتداب البريطاني على الع ارق. لم تكن تقام حكومة في بغداد ما لم يوافق
هكذا وبشكل مكثف جدا
عليها السفير البريطاني ببغداد، وبتعبير أدق ال بد من موافقة وتأييد وزارة المستعمرات في لندن. وقد كتب الرصافي يقول:
المستشار هو الضي شرب الطال فعالم يا هذا الوزير تعربد
أو في قصيدة أخرى
أو علم ودستور ومجلس أمة كل عن المعنى الصحيح محرف
عص ر جديد ، وهو مكسب كبير، ولكن لم يحصل أكرر هنا رأيي بأن االستعمار البريطاني قد أدخل العراق، شاء أم أبى، في
ً بالع ارقيات والع ارقيين، بل ألن مصلحة الرأسمال البريطاني والوجود البريطاني في العراق
هذا ألنه كان يسعى إلى ذلك حبا
ً لدى السالطين وحكامهم أصالً، فالرعية واجبها ان تخدم ً
كانت تتطلب ذلك موضوعيا، في حين لم يكن هذا التفكير موجودا
ً السلطان والخليفة والوالي، وليس العكس. في تناول هذين الجانبين يكون تشخيص دور بريطاني
ا في الع ارق اكثر وضوحا
ودقة، كما أرى.
انتهت الحلقة السابعة وتليها الحلقة الثامنة.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here