روعة الطبيعة وابتعادنا عن التمتع بجمالياتها

* د. رضا العطار

نحتفل كل عام بأعيادنا فرحين مستبشرين، فنخرج الى البساتين والحقول لننعم بمظاهر الفصل وبركاته، ونرى بشائر الخير والجمال في نضرة اخضرار الطبيعة المتجلية في الوان الورد والزهيرات البرية المتناثرة هنا وهناك. فتمتلئ صدورنا غبطة وسرورا، ولا ننسى ان بيننا وبين الزهور والشجر من المعاني الفنية والعلائق الروحية ما يجب ان نشير اليه ونطرب له.

لقد كان الاغريق القدماء يجعلون من النخلة رمزا لجمال الطبيعة. وهم على حق في هذا. واني لأرى في شجرة البرتقال وهي محملة بالثمر قد انحنت غصونها من ثقله، رمزا للأمومة. وهي تثير في نفسي الرقة و الحنان حتى لأتورع من قطف ثمرة منها لأني احس وكأنني بذلك اضرب امرأة حبلى.

وكثيرا ما اتأمل شجرة التفاح في الوانها الزاهية وعطرها الفائح واتعجب من هذا العنف الموروث عند الانسان حين يقدم عليها بالتمزيق والألتهام، لأن مثل هذا التعامل القاسي لا يختلف من قتل فراشات الربيع او ذبح طيور الكناري.

اننا لا زلنا نفتقد ثقافة تكريم عالم النبات، كما هي الحالة عند اليابانيين، فقد شاهدت في حديقة الغزلان بطوكيو مواطنا يابانيا يسعف غصن شجرة كسرته الريح، تماما كما يسعف الانسان ساق ابنه المجروح، بكل رعاية واهتمام.

اننا نادرا ما نفكر ان نقف امام شجرة خضراء باسقة نتأمل جمالها ونجلًل جلالتها.
ان طراز معيشتنا قد ابعدت ما بيننا وبين جماليات الطبيعة، فلم نعد نتلهف الى الهواء الطلق في مروجنا الخضراء و سفوحنا الفسيحة ونحن في صحبة اطفالنا، نمرح معهم ونفرح لضحكاتهم، وهي من ساعات العمر الحلوة، نستمتع خلالها الى صوت الطبيعة النابض بالحياة، فرحين في مشاهدة مناظرها الخلابة، ومبتهجين في رؤية الفراشات وهي تبوس الأزهار وتشرب منها الرحيق. ولم نعد نعرف قيمة هذا السحر حين نجلس متأملين اليمامة وهي تطير فتكتب بجناحيها في الفضاء المعاني التالية :

جاء الربيع فمرحبا بوروده * * * وبنور بهجته ونور وروده

يحتفل البشر بعيدهم فرحين، يخرجون الى الفضاءات الواسعة تحت افاق السماء واشعة الشمس الدافئة، المحركة للمشاعر، تؤنسهم موسيقى خرير المياه ونغريد الطيور التي تصدح في كل الارجاء وفي ظل خضرة الاشجار. انهم يجدون فيها المعاني الحميمة والطرب المسكر في الجمال الفطري المطلق.

وفي هذا السياق يعظم الشاعر الياباني أكاكورا جمال الورد والزهور، معجبا برقة وريقاتها وتنوع اشكالها وروعة الوانها واريج عبقها وسحر تأثيرها في النفوس، لكنه مستاء، كون انها لا تحظى بالرعاية اللازمة من قبل الانسان. فالزهور منبع العواطف النبيلة، ورمز الصفات السامية، انها ناعمة رقراقة، كرقة مياسمها. فهو يقول: :

( لقد تعلم البشر مشاعر الحب عبر الطبيعة, بفضل فيض جمالها, والزهور في مقدمتها, وما لها من اشكال وانواع والوان، ناهيك عن عبير عطرها، فعشقها الأنسان وزاد من شغفه بها. ويمكنني القول انه في اليوم الذي قدّم الشاب الى فتاته باقة زهور, ارتقى في سلّم التطور. ان الأنسان عندما يترتفع في ادراكه النبيل عن ماديات الحياة, يغدو اعلى شأنا واسمى مقاما وارفع منزلة. فالأزهار بالنسبة اليه كالصديق الحميم. فنحن عندما نأكل او نشرب او نغنّي او نرقص, تكون الأزهار من حولنا. وحينما نعشق, يأتي الحب عن طريقها. وعندما نتزوج يكون الورد زينة مجلس عرسنا، وعندما نجلس الى احبتنا تكون باقة الورد بيننا، ويوم ننال حظوة في حياتنا, نستقبل تهاني احبتنا ضمن باقة من الورد. انها تلازمنا في افراحنا واتراحنا. وعندما يعترينا المرض, تكون الزهور في جانب سريرنا. وعندما نموت تزين الزهور نعشنا. وعندما يدسوننا في التراب, تتناثر الزهور فوق قبرنا، نتزكّى بشذى عطرها. وعندما يأتي الحبيب لزيارتنا يجلب لنا بعضا منها. فلا مجال للشك في اننا يمكن ان نحيا بدونها ؟ . ومهما يكن ذلك مؤلما لنا فأن من العبث ان نتنكر فضلها. وبالرغم من اننا محاطون بالأزهار الا اننا لم نحاول يوما ان نستفيد من مغزاها الروحي – – – والحقيقة الراسخة في كياننا هو اننا نشكو دوما من الجشع. ما من شئ مقّدس عندنا غير شهواتنا. الذهب اثمن ما عندنا في الحياة، فمن اجل الذهب ندمّر الطبيعة وما فيها من كائنات. يا للفظاعة ان نرتكب حماقات في حق الطبيعة، منبع الحب والحياة.

حدثيني ايتها الأزهار اليانعة. يادموع النجوم . الناهضة في حديقة داري. تترنح هاماتك الطرية تحت قبلات الندى وشمس الصباح. لولاك لما عرف الأنسان معنى الحب ومشاعره, فعن طريقك تعلّمنا كيف نتصالح ونتوافق ونتأخى ونتحابب. ان رفيف وريقاتك الندية تنشد الأنغام الشجية مع اولى شعاعات نور النهار، وتستقبل طلائع ورد الربيع رشفات نحل العسل وقت السحر. كل هذا من اجلك انت ايها الأنسان.
اليك يا زهيرات البرية سلامي. يا رمز الحسن والحرية. انكِ تبهجين قلوب العاشقين وتزيلين هموم المنكوبين وتفرجين غم المكتأبين . يالك من روعة وجلال.

وفي السياق الفني هذا يقول كاتب السطور : لقد كان الموسيقار العالمي الشهير بيتهوفن يطيل الجلوس تحت ظلال غابات فيينا، صامتا صاغيا متأملا ! وحينما سُئل عن سّر مكوثه الطويل، أجابهم : (اني استوحي الهاماتي النغمية من رفيف وريقات الشجر وهفيف الزهور. ارهف السمع الى الهسهسات التي تحدثها، انها رهيفة جدا، تطنطن في اذني، تحرك خلجات روحي و تطربها. فدنياها دنيا غبطة و سرور. اني اتلقّاها كنوتات موسيقية اثبتها في دفتري).
هكذا كانت عبقرية بيتوفن الخارقة قادرة على تحويل (انغام) الشجر الى اخرى، تحرك احاسيس البشر وتطربها.

ان ارضنا الخضراء ارض طيبة يجب ان تكون مصانة من قبل ساكنيها، انها حقا عشا جميلا آمنا لجميع ابناء البشر، تجمعهم حياة الالفة و الوئام.
فالتأمل العميق في رؤية الزهور يقودنا الى صفاء الفكر ونقاء الخلق.
الزهور تعني النفس البيضاء، تبعث في نفوسنا روح التلائم و التفاؤل والتناغم، تقاسمنا كل شئ الا في اهوائنا و ضعفنا وتعاستنا، انها معنا لتفهمنا وترحمنا، تهدينا الى رشدنا. فهي القدوة والنبراس.

(*) مقتبس بتصرف من كتاب فن الادب، حضارة الروح، لتوفيق الحكيم. مع اضافات لكاتب السطور.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here