هناء ادوارد بخير

حازم الأمين

سقط قلبي بين يداي حين استيقظت في الصباح لأجد رسالة “واتس آب” من كيم غطاس تخبرني فيها بأن هناء ادوارد تعرضت لحادث دهس في بغداد، وليس معروفاً بعد ما اذا كان متعمدا. سارعت إلى الكومبيوتر لأتحقق من الخبر، وإذ بهناء بخير، فهي نجت وحالها مستقر بحسب الأطباء. وحادث الدهس الذي تعرضت له في وسط بغداد في أعقاب تظاهرة شاركت فيها، أعقبه اشاعات غير صحيحة عن مقتلها.
هناء بخير، وهذا هو الخبر بالنسبة لي في هذا الصباح. التقطت أنفاسي، وعدت إلى هناء التي أعرفها منذ بدأت أعرف العراق.
بالنسبة لي لا عراق من دون هناء. أنا أتحدث عن العراق الذي أشعره، لا عن العراق الواقعي والحقيقي. ثمة أصدقاء يحيلونك إلى مدن ودول وتجارب. هناء تحيلني إلى العراق. ولا أدري من هو المحظوظ بهذه الإحالة، ذاك أن العراق عرضة لأن يحيلك إلى صدام حسين، أو إلى أبو بكر البغدادي، وفي أحسن الأحوال إلى نوري المالكي، أما أن يحيلك إلى ادوارد، فهذه ذروة الهناء، وهذه فرصة نجاة في بلاد تندر فيها هذه الفرص.
في العراق يسمون هناء “تيريزا العراق”، ولطالما شعرت بضيق من هذه التسمية. هناء ليست قديسة. هي مناضلة دنيوية. تريد للعراق الدنيا وليس الآخرة. الآخرة هي خيار الأشقياء في العراق، فيما هناء وردة البصرة التي زرعت في كرادة بغداد. والوردة دنيا وليست آخرة. هناء قلب العراق وليست قديسته.
تُستذكر هناء في مشهد وقوفها في وجه رئيس الحكومة نوري المالكي في البرلمان العراقي الذي اقتحمته في العام 2014 وطالبت في حينها “رجل إيران” باعتذار من شباب العراق جراء وصفه المتظاهرين المدنيين في حينها بـ”الإرهابيين”. لوحدها شقت طريقها إلى داخل البرلمان، وشهرت بوجه “الرجل القوي” لافتة تطالبه بالاعتذار. ما جرى في حينها أدهش المراقبين. مشهد احتكاك مدني في عاصمة الحروب الإقليمية. لا بأس، فهذا دأب هناء منذ ستينات القرن الفائت حين سجنها بعث ما قبل صدام، ومنذ سبعيناته حين طردها بعث صدام هذه المرة. ومنذ ذلك الحين وهناء ادوارد لا تكل ولا تمل. أينما كان العراق تكون.
في زيارتنا الأخيرة لبغداد قبل نحو شهرين، استقبلتنا هناء في منزلها في “كرادة داخل”. لم يكن منزلها، فادوارد لم تألف أن يكون لها منزلا. هو منزل نساء العراق، ممن هربن من أزواج معنِفين أوعشائر غاضبة. لا شيء يفوق كرم هناء إذا ما تعلق الأمر بضحية. في منزلها هذا يمكنك أن تلتقي بقاضٍ متقاعد قرر أن يوظف خبرته في القانون لحماية نساء منتهكات، ويمكنك أن تلتقي أيضاً بنجل شاعر العراق محمد مهدي الجواهري الذي قَدِم إلى العراق في زيارة قصيرة وقرر أن الإقامة في منزل هناء تشعره ببغداد والده، وان لم يكن منزلها مشاطئاً لـ”دجلة الخير”، فالأخير مصادر هذه الأيام من النخبة الحاكمة، مثلما كان مصادراً من صدام في زمن ما “قبل السقوط”.
هناء ادوارد بخير. على نساء العراق أن يطمئنن. في زيارتنا الأخيرة لها، كانت هناء تحمل أثقل الملفات. وهناء لا تجيد العمل البيروقراطي. حين تحمل ملفاً تكون قد حملت ناس هذا الملف وأهله ووجوهه. حين تقرر أن تخوض معركة النساء الهاربات من عشائرهن في أعقاب القضاء على “داعش” يتحول منزلها إلى مأوى لهؤلاء النساء ولقصصهن ولأطفالهن. شجاعة لا توصف، أين منها شجاعة المقاتلين في الحروب، ذاك أنها في مواجهة خصوم غير مرئيين، ومن غير كاشفي الوجوه. في وسط بغداد في مواجهة عشائر وسلطات وسياسيين من كل حدب وصوب. في منزل لا يحميه سوى حقيقة أنه قلب بغداد.
في منزلها هذا التقينا بامرأة لجأت إلى هناء من أحد مدن العراق البعيدة. هذه السيدة أهداها أعمامها لعنصر من “داعش” عادت وهربت منه بعد أن أغتصبها وأنجب منها طفلة. أعمامها يريدون قتلها بسبب هربها، وأخوالها ضباط في الشرطة العراقية يريدون قتلها لأنها تزوجت بعنصر من التنظيم. هذه حكاية من مئات الحكايات التي يزدحم فيها منزل “جمعية الأمل” التي تديرها هناء. القضاة في هذا المنزل يعملون على إيجاد مخرج قانوني للأيزديات المسبيات من قبل التنظيم اللواتي أنجبن أطفالا اعتبرهم الوقف السني أطفالا سنة بحكم هوية آبائهم المغتصبين، ولم تقبل بهم عشائر الأيزديين وطالبت الأمهات بالتخلي عن أبنائهن. اعتصر قلب هناء وقررت خوض معركة في مواجهة أقوى شيء في العراق. العشائر والطوائف.
إنها هناء ما بعد السقوط، أما هناء ما قبله، فهي أشياء كثيرة وكثيرة. قاتلت نظام صدام حسين من الجبال. وفي العام 2003 التقينا بها في أربيل. في حينها قررت أن تشهد لحظة السقوط، وكانت تأتينا نحن الصحافيين بأخبار الجبهات موثقة. في حينها كان قلب هناء يشتغل، وكانت متنازعة بين قسوة الـ”بي 52” التي تقصف المدن المجاورة، وبين رغبتها باستعادة بغداد التي كانت غادرتها في العام 1979، عندما غادرها الشيوعيون.
الأهم اليوم هو أن هناء ادوارد بخير. فوردة إلى قلب العراق.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here