عبد الخالق السامرائي ظاهرة أومضت وما أشرقت!!*

عبد الخالق السامرائي شاب عراقي عربي من ناحية القلعة التي تبعد بضعة كليومترات عن مدينة سامراء على الضفة الغربية من نهر دجلة , وهي قلعة فكرية فنية أوجدت رموزا لامعة في ميادين الفن والإعلام والثقافة والمعارف الأخرى.

وكان إسم عبد الخالق السامرائي يتردد في وسائل الإعلام , فكنا نحسبه نجما ساطعا في سماء وجودنا العراقي , وكان لإسمه حضور في وعينا الجمعي , إذ نراه مثلا وقدوة ثقافية وفكرية ورمزا للقوة والعزة والكرامة , وكانت ملامحه ذات تأثيرات قيادية ويمتلك كاريزما النبوغ والتألق والإشعاع الفكري والقيمي والأخلاقي.

وكنا صبيةً نتحدث عنه بإعجاب , وفجأة إنطفأ وغاب عن الظهور في وسائل الإعلام , وتبين أنه أصبح قيد الإقامة الجبرية , فعمّ الخوف والتوجس والحيرة حولنا , وما أشيع في حينها إشتراكه في مؤامرة .

ومضت الأيام ودارت السنون وإذا بنا نصحو على إعدامه في 1979 , بذريعة مشاركته بمؤامرة أخرى , وهو رهن الإقامة الجبرية أو السجن الإنعزالي.

ولا يزال إسمه يتردد ويُكتب عنه وكأنه لغز محير , وحالة عراقية أصيلة لا يمكنها أن تغيب أو يُسدل عليها ستار النسيان.

ومن المفيد أن نقرأ الأحداث بمنظار نفسي , لكي نتعرف على ديناميكيتها ودوافعها وما تهدف إليه , وأكتب عنه اليوم لأنني كنت أظنه كبيرا في العمر لما كنا نسمع عن تميزه بالزهد , وبأنه درويش الحزب والمتصوف المنقطع عن الدنيا , والغارق في الفكر والثقافة والتنوير الفكري والمعرفي الذي غاص فيه , وأصبح رمزا وملهما ومؤثرا عجيبا في القيادة والريادة ورسم الخطط ووضع البرامج الستراتيجية , والتقديرات الموضوعية وما يجب أن تكون عليه السياسة وآليات التعامل مع القوى الكبرى.

وعندما عرفت بأنه من مواليد 1940 توقفت متأملا , أن يتمكن شاب دون الثلاثين من تسنم مراكز قيادية مهمة ومؤثرة , وأن يكون له وقع كبير وإرادة سائدة روحيا ونفسيا وفكريا وأخلاقيا على مَن هم أضعاف عمره وتجربته , فهذا يعني شيئا آخر ويشير إلى موهبة قيادية نادرة لا تتكرر.

فالرجل قد تم إعدامه وهو في عمر 39 وما سنحت له فرصة التفاعل العملي العلني مع السياسة والقيادة إلا لأقل من خمسة سنوات , وبعدها أودع في غياهب السجون.

ففي عام 1968 كان عمره 28 سنة وهو القيادي المؤثر ذو الرأي الفصل والطروحات التنويرية الرائدة والشخصية المحبوبة , والقدوة في العمل الحزبي والسياسي , والروح الساعية نحو وجود إنساني أفضل وأروع , وكانت صورة العراق الواعدة ذات بريق وتوهج في دنياه.

ويبدو أننا أمام كينونة قيادية فذة وظاهرة فكرية ثقافية إنسانية موسوعية الخصال عالمية التطلعات وكونية الرؤى والتصورات , وكانت هذه الطاقات الكامنة فيه تشعشع حوله وتؤثر بالآخرين من معاصريه , حتى بلغ قدرات التفاعل الأسمى مع قادة الدنيا في زمانه , بما قام به من زيارات للدول العالمية والعربية.

فقد كان نبوغا إدراكيا معبّرا عن الإنبثاق العقلي والمعرفي الغير مسبوق , والذي بشّر بولادات حضارية أصيلة , فقد أوجدت الثورة الثقافية التي قادها جيلا مؤهلا للإنطلاق والتدفق الإبداعي الفائق , والعازم على صناعة نهضة منيرة متوافقة وجوهر ما فيه من القدرات الإبداعية , وكان مرشحا ليكون قائد الركب التنويري الفياض الأفكار والرؤى والتطلعات , ولهذا تعاظم التوجه نحو محقه وخنقه وتدميره , فعملت على القضاء عليه آلتا السلطة والحرب , ليخسر العراق والعرب والإنسانية فرصة حضارية لن تتكرر بسهولة.

فهذه القدرة الألمعية حُرم العراق منها وتحقق طمرها وطغيان ظاهرة أخرى مناقضة لها, أودت بالواقع العراقي والعربي إلى ما هو عليه , فقد خسرت تلك الحالة المتقاطعة معها وطنها وذاتها وموضوعها , وإنتهت إلى ما لا يخطر على بال من مصير.

ولا يُعرف هل أن من سوء حظ البلاد والعباد أن تكون ظاهرة عبدالخالق السامرائي قد بانت في غير زمانها , وأوجدت من يناهضها ويرديها , أم أن سوء حظ الرجل الذي كسبَ قاتله وقاتل حزبه ووطنه.

ويُقال والعهدة على الراوي أن والد عبد الخالق – ويبدو أن فراسته أوحت له بأن ولده سيكون ضحية غدر صاحبه – قد خاطب قاتله يوما , وقال له: أخشى أن ينتهي عبد الخالق على يدك , وكان جوابه: كيف تقول ذلك ياعمي وهو أكثر من أخي!!

لكن الظاهرة الألمعية قد إنتهت ببضعة رصاصات , والسبب أن التوافق ما بين الحالتين لا يمكنه أن يتحقق , ولا بد لأحدهما أن يلغي الآخر , فتم إنهاء عبد الخالق السامرائي , وبذلك تم مصادرة الحزب وتناسي العراق الذي تحوّل إلى فدية للفهم الأعوج للمبادئ التي هيمنت على الحكم.

وقد جمعتني المصادفات بلقاءات مع مَن يعرفونه وكانوا في غاية الإعجاب به , وبعضهم يراه روح الحزب الفكرية والأخلاقية , إذ كان في غاية الزهد والتواضع وكأنه راهب يتعبد في محراب الفكر والثقافة , ويمتلك طاقة مؤثرة في المكان الذي يحل فيه , وكان أعضاء القيادات يخشعون لحضوره ويستقون من فكره , وكأن كلامه نصوص إستشرافية تستحضر المستقبل بمفرداته وعناصره , ولديه كاريزما مؤثرة ومتميزة.

فالرجل كان موهبة قيادية وظاهرة تأريخية نبغت ولم تسنح لها فرصة التعبير الأمثل عمّا فيها من الطاقات الحضارية الرائدة.

وهكذا تلد الأمم قادتها وتنطلق في مشوارها التفاعلي فوق التراب , ومن غير القادة المفكرين الأفذاذ لا يمكن للمجتمعات أن تتحقق وتكون , لأن البشر بحاجة إلى قدوة ومنار ومشعل يبصّره بخارطة دروب الرقاء والنماء , ولا يوجد مجتمع في الدنيا قد تحقق من غير قائد موهوب.

وكم من القادة الألبّاء يولدون في مجتمعنا لكنهم يُطمرون ويُمحقون ويُلاقون مصير عبد الخالق السامرائي , ويتولى الأمر الجهلة والأميون وأصحاب النفوس السيئة والعقول المعطلة , وتلك مصيبة أمة ومحنة أوطان تعادي قادتها الحقيقيين , وتحتضن الذين يسومونها سوء المصير.

ويمكن القول أن العراق قد حُرم من طاقة قيادية تنويرية باعثة لقدرات الأجيال ومحررة للعناصر الحضارية الأصيلة , وأقدمت القوة ذات النوازع الفردية والنرجسية والقصيرة النظر على خطوة إنتحارية مروعة فأهلكتها وهَلكتْ بعدها , لأنها قد قتلت حزبها ووطنها وقيمها وأخلاقها , وداست على المبادئ والشعارات , فأوجدت حالة تسعى إلى التشظي والإنتهاء.

فالقتل قد تحقق لأن الإرادة الفردية لا ترغب بمنافس أو نظير , كما أنها لا تسمح بمَن يتفوق عليها بقدراته القيادية والثقافية والتأثيرية , وخصوصا كمثله الذي تجتمع فيه معظم الخواص والعناصر القيادية التأريخية القادرة على نقل المجتمع إلى آفاق علوية , وهذا من أهم أسباب قتله.

كما أن الشك العظيم الذي كان يعصف بدنيا تلك القوة أوجبَ عليها التخلص من أية قوة أو شخصية تتوسم فيها بعض القدرة على القيادة والنبوغ , ولهذا تم إبادة شخصيات ذات قيمة قيادية عالية ومؤثرة في رسم خارطة الحياة الأرقى والأفضل.

ومن المؤكد أن الرجل لم يكن له دور بأي نشاط مناهض للسلطة القائمة آنذاك , وكانت له فلسفته التي توجب التكاتف حول قيادة يمكنها الوصول إلى الأهداف المرجوة.

لكن الأنا المتضخمة والنرجسية المتعاظمة والسايكوباثية المتفاقمة والجهل العميم , أوجبت ما أوجبته من قرارات وسلوكيات في جوهرها ضد فاعلها وليست معه.

فتم القضاء عليه وعلى غيره معه لتأهيل الساحة للحرب وللتفرد والإستبداد العنيف , والإمعان بتأكيد الرؤى والتصورات الذاتية بعيدا عن المشورة والتفاعل القيادي الواعي المعاصر النبيه , ولهذا وصل السلوك إلى خاتمته النكداء.

فالذي يقتل رفاق مسيرته ويطوّق نفسه بأضاليل حاشيته , ونوازع نفسه المفلوتة العمياء , إنما يقوم بعمل إنتحاري , سيقضي عليه حتما عندما تتراكم العوامل والقوى الموضوعية التي أوجدها , وعززها بتكرار سلوكه الطاغي المانع لأي رأي سديد , فعندما قتله قتل نفسه والحزب وباء بفعلته بعد حين.

ومن المعروف أن الثورات تأكل رجالها , ولا توجد ثورة لم يتماحق قادتها ويتفرد بالسلطة أو القوة والقرار فرد واحد , وهذه حالة سلوكية بشرية عامة وتعتمد على المواصفات الشخصية والظروف الموضوعية التي تتفاعل لتدفع بأحدهم إلى المقدمة , وتوَفّر له الآليات للقضاء على الذين كانوا معه وتفاعلوا من أجل إنجاح الثورة.

ولهذا فأن الثورات ذات أجندات تعطيلية وإرادات تدميرية بواسطتها تقضي على نفسها وتنهي رموزها وقيمها في المجتمع الذي قامت فيه , فالثورات فقاعات سلوكية تنتفخ وتنفجر ولكل منها عمره الذي يقضيه ويموت حتما , وهي ذات أعمار قصيرة لا يمكنها أن تتجاوز معدل عمر إنسان في عصرها.

ولا يمكن لثورة أن تنجوَ من هذا القانون وما يتسبب به من مصائر مشؤومة وظالمة , وبسببه لا تستطيع أي ثورة أن تدوم وتتطور إلى مداها , لأن هذا القانون قوة شد وجذب تسقطها في مهاوي الإنتهاء الحتمي الأليم , ويجردها من القوى الإيجابية الفاعلة في صناعة الثورة , وما إنتهت إليه الحالة لا تخرج عن إرادته الصارمة.

وعندما نتساءل لماذا يتحقق ذلك , سنعرف بأن السلطة والثورة لا يلتقيان , فالسلطة غابية الطباع ولا تقبل بلغة غير لغة القوة والإفتراس والإستحواذ , والثورة ذات آليات فكرية وثقافية وفلسفية ومبدئية ربما لا تتصل بالواقع المتوحش الذي تكون فيه , وقادتها الحقيقيون كالحمل الوديع الذي لا بد له أن يكون فريسة ذات يوم لأسود الكراسي المتحفزة المتوجسة.

فالسلطة تئِد الثورة والثوار وتمحق القوة التي تراها ذات أثر.

والخلاصة أنه كان يمثل صيرورة إنبثاقية عراقية فكرية ثقافية نفسية وروحية أرادت أن تُفاعل عناصرها وتعطي أكلها , لكنها إنطمرت تحت قوائم كرسي السلطة الطاغي الشديد وإبتلعتها الحروب , وبالإجهاز عليها تم الإنقضاض على العراق والوجود العربي , فتكالبت الخطوب.

ويبدو أنه كان رأس الثورة ومفكرها وربما فيلسوفها , فبحضوره كانت ثورة مستنيرة , وبقتله أصبحت بلا رأس , فتاهت وتخبطت وإنتهت.

وما يؤكد ذلك أن بوجوده تحققت إنجازات نهضوية ومعرفية , وبغيابه سادت الدمارات والتداعيات المروعة , التي أوصلت البلاد إلى ما آلت إليه من سوء الأحوال.

وإن ما فيك سيرديك , ولا موهوب يتحقق بغير زمانه , ولن يجود بمثله الزمان إلا بعد أن يحالف الحظ أجيالا قادمة.

وهكذا فعبد الخالق السامرائي ظاهرة أومضت , ولايزال لنورها أثر في النفوس والقلوب والرؤى , ولو أنها أشرقت لبعثت الحياة العربية من جوهر بذورها الحضارية!!

*ما تقدم إقتراب من زاوية سلوكية نفسية بحتة .

د-صادق السامرائي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here