نظرة في جينوم السّرطان –

 د. بهجت عباس –

السّرطان ، هذه المرض المخيف  الموجود  في ذهن الإنسان دائماً والذي عندما  يخبره الطبيب بإصابته به ، لا يستطيع أن يرى في عينيه إلا الظلام ، و يأخذ بِعَـدِّ أيامه إلى أن يأتي اليوم الموعود الذي يغيب فيه عن الوجود ، هل نستطيع أن نتفاداه ؟ وإذا أُصبنا به ، هل نستطيع أن نشفى ؟ أو إذا كان الأمر مستفحلاً ، هل نستطيع مهادنته لنعيش حياة أطول ، وخصوصاً من غير معاناة ؟ قد تكون الأجوبة كلها بـ (نعم) مع تحفظات ، وقد تكون بـ (لا) أيضاً ، تبعاً  للمرحلة التي وصل إليها هذا المرض ، وتفهّـم المرء له وأخذ التدابير لتفاديه وتصرّفه تجاهه إذا أُصيب به ، إضافة إلى نوع السرطان ، أو موضع الإصابة . فقد يصيب هذا المرض أي عضو أو نسيج في جسم الإنسان ؛ الرئة ، الكبد ، الثدي ، البروستات ، الكلية ، الدماغ وغيرها .

هذا المقال ليس سوى فكرة موجزة عن كنهه ، لأنه بحر واسع عميق ، لا يستطيع  سبر غوره فرد واحد بمفرده مهما أوتيَ من العلم والمعرفة ، كما ويحتاج إلى عشرات الكتب أو ربما المئات .

لذا أذكر هنا الخطوط الأساسية لهذا المرض الوبيل ، والذي هو مرض جينيّ. أما ، ما هو المرض الجيني ؟ إنه ذلك الذي يصيب جينات الخلية الطبيعية التي تعمل وفق نظام معين مُبرمَج ، لا أوَدَ فيه ولا عوج ، لتديـمَ استمرار الحياة . هذه الجينات البالغ عددها بين 20-25 ألف جين والمحمولة على 46 كروموسوماً ، حسب تشفير الجينوم البشري وإعادة النظر في النتائج وتعديلها ، هي وصفات للبروتينات التي تتوسط بإنتاجها ، ولكنها لا تعمل كلها مرة واحدة ، لأن الخلية ليست بحاجة إلى كل البروتينات أو ليست كلها مفيدة . فمثلاً يوجد جين منتشر بنُسَخ كثيرة في كل الكروموسومات ينتج بروتيناً يدعىReverse transcriptase  ينفع بعض الطفيليات للتناسخ في الجسم ، فهو إذاً ضار للإنسان. ولو انتزع هذا الجين من كل كروموسوم ، لعاش الإنسان حياة أفضل من حيث الصحة والعمر. فحاجة الخلية إلى بروتين معين (إنزايم أو هرمون) تستدعي الجين المختص به ، أي تعطي إشارة له للقيام بالعمل لإنتاج ذلك البروتين . الخلايا الطبيعية (مُميّـزة) ، أي أنَّ لبعضها وظائف لا توجد لدى البعض الآخر ، فخلية البنكرياس مثلاً التي تنتج الانسولين هي غير الخلية العصبية التي تنتج ناقلاً كيميائياً . أما الخلية السرطانية فهي فاقدة لهذا (التمايز) ، ولماذا ؟ لتشوه الجينات فيها واضطراب عملها ، فتفقد السيطرة على التكاثر . لذا يُعـرَّف السرطان ببساطة بأنه تكاثر الخلايا غير المُسَيطَـرِ عليه . هذا التكاثر سواء أكان سريعاً أم بطيئاً مستمر دوماً دون توقف مما يكوِّن ورماً . ولكن ثمة ورم آخر يختلف عن هذا الورم ، ويُسمّى (حميداً) ، وهي تسمية خاطئة ، لأنه ليس حميداً إلاّ بالنسبة إلى (ورم) السّرطان، حيث يتوقف نموّ أو تكاثر الخلايا فيه  عند حـد معين كالشامةmole مثلاً.

    ينشأ السّرطان من خلية واحدة فقط ، حيث تستنسخ هذه الخلية ذاتها ، فتكون اثنتين ، والخليتان الناتجتان تكونان أربع خلايا ويستمر الانقسام إلى أن يصل العدد إلى مليارات الخلايا فيكون الورم . والأمرّ من ذلك أنْ تنفصل بعض الخلايا من هذا الورم فتسريَ مع اللمف والدم إلى أماكن أخرى من الجسم حيث تستوطن أنسجة وتكوِّن أوراماً أخرى ، وهذا ما يُدعى بالانتشار metastasis الذي يودي بحياة المُصاب. في الخلية السّرطانية توجد جينات مُشَوَّهة ، وخصوصاً تلك الجينات المسؤولة عن انقسام الخلية أو المُسَيطِـرة على دورة الخلية. وهناك الجينات التي تقمع الانقسام في حالة إصابة الخلية بضرًّ أو جيناتها بتشّوه مثل :

الجين P53 الذي يوقف انقسامَ الخلية لحين إصلاح الضّرر فيها . أما إذا كان الضرر (فادحاً) لا يمكن إصلاحه ، فإنه يوعز إلى جينات أخرى لمنع انقسامها (الخلية)  و (قتلها) ويقتل نفسه معها، ولذا سُمِّيَ بالجين (الانتحاري) . أما إذا أصيب هذا الجين بتشوّه يفقده وظيفته ، تنقسم الخلية دون توقف ، حيث لا توجد سيطرة عليها من قبل هذا الجين .

الجينات التي تُديم تكوين التلوميرات ، وهذه الأخيرة هي مواد نووية موجودة في نهايتيْ كل كروموسوم ، حيث يفقد الكروموسوم بعضاً منها عند كل انقسام إلى أن تُفـقَـدَ كلها تقريباً فلا يكون انقسام بعد هذا وتموت الخلية موتاً طبيعياً (مُبَرمَجاً) . ولكنْ إذا كان ثمة جين يصنع الخميرة (تلوميريس) التي (تُـولِّـد) التلوميرات المفقودة ، وتعـوِّض الكرموسوم عما فقده منها ، ينقسم الكروموسوم وتتكاثر الخلية دون حدود ويكون السرطان . في الخلية الطبيعية (العادية) التي هي بجين غير مشوَّه يكون هذا الجين (نائماَ) أو (مُطفأ) ، فلن تُصنع التلوميريس ولن تُعوَّض التلوميرات المفقودة ، فتموت الخلية.

الخلية السّرطانية ، كأيّ خلية من أيّ نسيج ، تحتاج إلى موادَّ غذائية (تجهيزات) مستمرة لتعيش وتتكاثر . هذه التجهيزات تحملها الأوعية الدموية . لذا يُحفِّـز السرطان على (تخليق) أوعية دموية جديدة تجهز خليته بالمواد الضَّرورية لاستمرارها في الانقسام والنموّ . هناك تنشِّط جينات معيّنة (تولِّد) عامل تكاثر لهذه الأوعية . هذه الجينات هي في الحقيقة (قامعة) التكاثر ، ولكنْ عند تشوّهها تفقد وظيفتها الأصلية .

جينات الانفصال  تمكِّن خلايا الورم من الانفصال عن الورم الأصلي فتسري بواسطة الدم واللمف إلى أجزاء أخرى من الجسم ، ربما نُطلق عليها جينات الانتشار . هذه الجينات قد تكون في الأصل جينات تحافظ على (التصاق) الخلايا بعضها ببعض ، ولكن التشوّه أصابها ففقدت السيطرة ، أو جينات تصنع خمائر- انزايمات proteases ، وهذه  تُحطِّم البروتين الذي (يلصق) الخلايا ببعضها ، فتجعلها متفكِّـكة وسارحة أينما تشاء.

نشوء السرطان

يمكن أن نُرجع حدوث السرطان إلى عاملين  رئيسين هما:

1.    خارجي ، وهو ما يلقى الإنسان من البيئة التي يعيش فيها من مواد كيميائية سرطانية وإشعاعات شمس حارقة في أوقات غير مناسبة ، الظهيرة مثلاً ، أو تلوث الماء والطعام أو الإشعاعات النووية، أما الإصابات المزمنة Chronic infections مثل التهاب الكبد الفيروسي Hepatitis أو القرحة Helicobacter pylori أو تعرّض العضو أو النسيج إلى ضغط ثقل دائم فقد تسبب تغييرات أيضاَ.

من الممكن تفادي الإصابة هنا بالابتعاد أكثر ما يمكن عن هذه المسببات أو الوقاية منها .

2.    داخلي ؛ وهذا ناتج عن تأيّض الطعام الذي يتناوله الشخص ، الذي يُنتج مواد مؤكسِدة (بكسر السين) مثل السوبرأوكسيد أو بيروكسيد الهيدروجين . هذه الجذور الحرّة ، كما يُطلَق عليها،  تهاجم الدنا DNA في الخلية فتقوم بتغيير جيناتها وتغيير عملها ووظيفتها من إنتاج طبيعي إلى وفرة إنتاج ضار أو قلة إنتاج غير مفيد أو لا إنتاج مطلقاً ، يحرم الخلية من عمليات هامة ، أو تنشيط جينات (نائمة) ، والتي يجب أن تكون نائمة ، إلى متيقظة تعمل ما لا تستطيع الخلية السيطرة عليه فتعمّ الفوضى ويكون الضرر. 

يمكن تفادي هذا الأمر بتوازن غذائي ، كالتقليل من اللحوم الحمر والطعام الدّسم وتجنّب التدخين  والإكثار من تناول الفواكه والخضروات والأسماك ، للحصول على فيتامينات A و C و E  وأوميغا- 3 ، وهي مواد فعالة ضدّ الأكسدة للتخلص من الجذور الحرة Free Radicals التي تنتج في عملية الأكسدة . فالمدخنون مثلاً يكونون مرتين إلى ثلاث مرات أكثر عرضة لتلف الأكسدة .

الواقع لا يمكن تفادي السرطان تماماً ، إذ أن تغيّـر الجينات في الشيخوخة يلعب دوراً كبيراً في حدوث السرطان ، ولكنّ المعنيَّ بتفاديه ، تقليل احتمال الإصابة به .

وهناك تشوه يحدث داخل الخلية أثناء انقسامها ، ويكون عن طريق الصدفة ، أي لا سبب له سوى عملية الانقسام ذاتها . فكثرة انقسام الخلية يؤدي إلى إدخال قاعدة نووية واحدة أو أكثر في أحد الجينات أو محو بعض القواعد أو استبدال قاعدة  بمحل قاعدة أخرى أو غير ذلك . وهذا لا يعني أن السرطان قد ينشأ من تشوّه جين واحد ، بل يحتاج إلى تشوّهات جينات أخرى ، و ليس أيّ تشوّه جين أو جينات يؤدّي إلى سرطان، وسآتي على ذلك بعد قليل .

جينوم السّرطان – السائق والركّاب

لعل أجمل اكتشاف وأهمه في ميدان جينوم السّرطان هو ما قام به فريق من الباحثين يتكون من 60 باحثاً من بريطانيا ، هونغ كونغ ، هولندا ، بلجيكا ، الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا برئاسة مايكل ستراتون وآندي فتريل . قام هؤلاء العلماء بحلّ شفرة  جينوم السّرطان (مجموعة الجينات في الخلية المسبّبة للسرطان) ، ففحصوا تعاقب / تسلسل ربع مليون قاعدة نتروجينية زوجية ( تتكون الدنا ومنها الجين طبعاً من قواعد نتروجينية هي حجر بنائها) تغطّي 500 جين من 200 خلية سرطانية مختلفة فوجدوا أن حواليْ 120 جين أصابها تشوّه/تغيّر Mutation سمَّـوْه  بالتغير (القائد) أو (السائق Driver) ، وهذا يعني أنّ هذا التغير هو الذي (يقود) الخلية إلى السّرطان ، أيْ يحوِّلها إلى خلية سرطانية ، حيث هذا الجين (المتغيِّـر) يكون فعّالاً لقيادة الخلية إلى السرطان ، وبقية الجينات (350) سُمِّـيَتْ بالركّاب (المسافرين Passengers) ، وهي رغم التغيّر (التشوّه) الذي أصابها لا تجعل الخلية سرطانية ، بل إنّها تذهب مع الجين (السائق) أينما يذهب ، أيْ أنها معه في عربة واحدة بقيادته . ففي ألف تشوّه فحصوه كان هناك 150 تشوّهاً (سائقاً) و850 تشوّهاً (مسافراً) . فنشروا هذا البحث في مجلة نيتشر في 7 آذار 2007 .

هذه الجينات كانت جينات بروتين الكاينيس ، وهي خميرة (إنزايم) تنقل مجموعة الفوسفات من المادة ذات الطاقة العالية ATP إلى بعض المواد التي تُستَهلَك في التفاعل Substrates والتي تعمل عليها بعض الإنزايمات ، وموجودة بكثرة في الخلايا السرطانية . هذه الخميرة تعمل كإبدال أو تناوب (مثل إبدال فرس مكان فرس) ، فهي تفتح ما يكون مغلقاً وتغلق ما يكون مفتوحاً ، وقد وُجِدتْ  في الخلايا السرطانية .

مكتوب على الجبين ؟

ربما يستغرب البعض أن يكون هذا صحيحاً هنا . فنماذج التشوّهات / التغيّرات مكتوب في دنا كلِّ سرطان يُخبرنا عن العوامل التي سببت السرطان في الدرجة الأولى والتي كانت فعالة منذ عقود . أي أنَّ الإنسان يحمل هذه التشوُّهات في خلاياه وهو لا يدري ويعيش طبيعياً في البدء من حياته إلى أن تظهر بعد سنين فيتقرر مصيره . بعض هذه النماذج يُمكن حلّ شفرتها أو رموزها ، كالتأثير الناجم من الأشعة فوق البنفسجية لأشعة الشمس الحارقة ، أو المواد الكيميائية الموجودة في التدخين ، والبعض الآخر يكون بشفرة crypticلا يمكن حلّها في الوقت الحاضر بل يتطلب ذلك في المستقبل .

ولإيجاز ما قيل أعلاه هو إن كلَّ أنواع السِّرطان تعود إلى تغيّر (تشوّه) الجين الطبيعي نتيجة عوامل عدة ، فيتحول إلى جين يفقد عمله الأصلي ، من حيث إنتاجه البروتين الذي يقرر مصير الخلية ومن ثم الجسم كله . وهذا التغيّـر موجود (كامن) في الجين بسنين كثيرة قبل أن يظهر تأثيره على السطح . بعض هذه التغيّرات يكون فعالاً (سائقاً)، يقود الخلية إلى تكاثر لا سيطرة لها عليه (سرطان) ، وآخر غير فعّال (مسافر) يكون مرافقاً للأول في عربته (الخلية) . ولكنَّ التحدّي الذي يواجه الباحثين هو تشخيص (السائق) من (المسافر) ، فإذا استطاعوا ذلك ، يكون بإمكانهم إيجاد علاج له .  ولكنّ الباحثين عرفوا ، كما يقول فتريل ، الرئيس المشارك في برنامج جينوم السّرطان ، أن أكثر التغيّرات هي من نوع (المسافر). أما التخلص منه (السرطان) فيعتمد على مراحله التي هو فيها . فإذا لم يكن منتشراً ، يكون علاجه سهلاً ويسلم من يُصاب به. وهناك طرق عدة لعلاجه ، أهمها والمستعمَل حالياً هو الجراحة . وهناك العلاج الكيميائي والهورمونات والنظائر المشعة وقطع إمدادات / تجهيزات المواد الغذائية عن خلاياه (لم تزل غير ناجحة لأضرارها الجانبية) . ربما يكون العلاج الجيني أمل المستقبل وهو الأضمن والأسلم إذا كُتب له النجاح. لكنَّ تفادي الإصابة قدر المستطاع هو الطريق الأمثل بتجنب كل ما يكون السبب ، وتناول الغذاء الصحيح ، كما ذُكر سابقاً، أهم شيء في هذا المضمار. أما الانتباه المستمر لأي شيء مريب واتخاذ الإجراء الحاسم في حينه فهو سبيل النجاة .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here