سماقولي و انقاذ حياة النصير شيرو !

ـ 4 ـ د. مهندالبراك

[email protected]

و عند وصولنا الى نقطة طبابتنا افترقنا ليذهب ابو احرار الى مكتب سريته، سرية برانتي العائدة الى الفوج الخامس اربيل و انا الى واجباتي العسكرية في مكتب الفوج 31 ، و بقي الجريح شيرو بعهدة د. سعيد في موقع الطبابة على ان نتراسل يومياً عن حالته بكل الوسائل التي تتوفر ، سواء بالجهاز او برسالة بيد نصير . .

و بينما كان ذلك يجري بكل ذلك القلق على حياة و صحة النصير ” شيرو ” . . تصاعد القصف الجوي و المدفعي الصاروخي على نقاط تجمع مقر فوجنا 31 و طبابتنا و فتحة كهف كروش الضيقة (1) في دلالة واضحة على شراسة و دقة تتبع القوات الحكومية لنا، و على دقة القصف و خاصة قصف الراجمات، و استمر القصف لمدة حوالي الساعة، الاّ انه لم يتسبب لنا بخسارة تذكر.

و فيما كان القصف الكثيف يتصاعد بشكل جنوني يومياً، الاّ انه لم يستطع تحطيم مقاومتنا من ناحية، و لم يستطع تأمين اي تقدّم للقوات الحكومية بانواعها و لا تقدّم اي صنف منها من ناحية اخرى، و بالعكس اصيبت القوات الحكومية بخسائر كانت تتزايد يومياً بضربات مفارزنا، و تزايد انحياز عدد من وحدات الجاش الى (مساعدتنا و غض النظر) عمّا كان يصلنا من دعم بالعتاد و الدواء و الغذاء من خارج الطوق . .

في وقت لعب فيه الملازم كريم المسؤول السياسي لسرية كويسنجاق دوراً هاماً باستخدام هاون 81 ملم ضد القوات الحكومية و بالذات ضد معسكر كويسنجاق، اضافة الى دوره مع آمر السرية محمد حلاق في توفير العتاد شراءً من طرق متنوعة داخل الوادي الفسيح المعقد التضاريس ذاته، حيث كان نشاط المهربين متواصلاً هناك رغم اشتداد الصدامات و القصف المتنوع، و شهدت ذلك عندما التقينا في قلب الوادي و كنت عائداً من معالجة مصاب من قرية هناك، حين اقترب مني و هو يسوق سيارة جيب عسكرية محملة بالعتاد و دعاني لتوصيلي، و كان يسوق بمهارة عبر طرق و مسارات ريفية وعرة . .

و فيما كان صدى صمود و بطولة الانصار و عموم البيشمركة في ذلك الوادي يتزايد بسرعة، عبّر عنه تزايد الحشود الشعبية من كل اطياف الشعب العراقي بكرده و عربه و اديانه و طوائفه، حاملين معهم اطعمة و اموال و مطالبين بأعلى الاصوات بوقف ذلك الهجوم الوحشي و بالالتحاق بالبيشمركةالانصار، الأمر الذي كان يُرعب القوات الحكومية من خوفها من انتشار تلك الروح الشعبية و من تسببها لهبّات شعبية ليس في اربيل و كويسنجاق و شقلاوة و رانية فحسب، و انما في انحاء العراق معيدين ما حدث في كردستان ربيع 1981 بشعار ” نحن اخوان الجنود و اعداء الدكتاتورية “، كما عكست برقيات الاجهزة و منها جهاز فوجنا الذي كان بعهدة النصير شه مال عادل سليم، اضافة الى الاخبار المتواصلة التي كانت تصلنا سواء من منظماتنا السرية او شفاهاً من المدنيين العابرين تسللاً . .

و بدأت اخبار تتوالى شفاها من قرويين بأن القوات الحكومية اتعبها القتال بدون تحقيق شئ يُذكر ضد البيشمركة و دون السيطرة على الوادي و انها تجمّدت دون اداء واجباتها في جبهة الحرب، و بالتالي تريد ان تنسحب باتفاق !! . . و بعد فترة وصل عدد من مختاري القرى حاملين معهم عرض لآمر جحفل القوة المدرعة الحكومية المشاركة بالطوق . .

مفاده بان ( الجيش يحمي البلاد من القوات الإيرانية و انه لا يريد اكثر من التوثق من عدم تشكيل ” دولي سماقولي” خطراً على القوات العسكرية الذاهبة الى جبهتي رانية و حاج عمران، و ان لا شئ لديه ضد البيشمركةالانصار الذي هو من واجب جهات اخرى. و انه يرجو من البيشمركة و الانصار ايقاف عملياتهم على مؤخرة القوات الحكومية في شقلاوة و سهل كويسنجاق و السماح بمرور و استعراض باطلاق بضعة قذائف لرتل دبابات صغير يسير داخل الوادي و يخرج منه، مع ضمان توقف انواع القصف و الحصار نهائياً و انسحاب القوات الحكومية) !! اضافة الى طرح المختارين رجاء الاهالي بالموافقة كما قالوا ، لرفع الحظر الاداري المفروض على مناطقهم الواسعة من شقلاوة و الى كويسنجاق و رانية بسبب الصدامات.

و في ذلك الوقت وصلت قوة من مقر قاطع اربيل في ” كافية ” من زيبار، و كانت بحدود 30 نصير بأمرة ” مام خضر (روسي)” برفقة ” ابو كريم ” المستشار السياسي الجديد للقاطع آنذاك(2) حيث كانت عملية اعادة تنظيم وحدات القاطع جارية على قدم و ساق في ذلك الحين . . و قد استقرت في قرية ” كروش ” المهجّرة الواقعة على جهة كويسنجاق و القائمة على جدول يصل الى ” سماقولي جلي” حيث العيون الكبريتية في طرف جبل سفيّن من جهة حماموك ـ كويسنجاق.

تبادل مسؤولو البيشمركةالانصار آرائهم و كنت منهم بعرض آمر الدبابات على اسس :

عدم الاشتباك مع الجيش في ظروف الحرب العراقية ـ الإيرانية لإستمالته ضد الوحدات الخاصة للدكتاتورية، الابتعاد عن خلق حرب جبهوية لاتتناسب مع امكانيات وحدات البيشمركةالانصار و لا مع تسليحها و مؤنتها، و التي تواصل في العادة بقتالها بارتزانياً على خطة اضرب و اهرب، اضافة الى الاهمية البالغة للاحتفاظ و زيادة تأييد اهالي المنطقة بالمساعدة على فك الحصار عنهم، اتخاذ وحدات البيشمركةالانصار مواقعها لمهاجمة الرتل ان بدرت منه اية محاولة سوء، و تنظيم طرق المراوغة و الحركة. و اتفقنا على الموافقة . ـ و اعتبارها خطوة تُذكر في امكانية التفاهم مع وحدات من الجيش، و تشجيعها على عدم تنفيذ الاوامر و على التمرد على الدكتاتورية.

و تم تحديد فجر بعد غد، لتوقف كل انواع القصف المدفعي و الصاروخي و الجوي، و في حدود الثامنة صباحاً يتقدم رتل دبابات من 6 دبابات الى داخل الوادي من جهة الدواجن و يمر بالوادي مروراً فقط على الطريق الترابي المحيط بالوادي من الداخل، يطلق خلاله لا اكثر من عشر قذائف حول الطريق . . ليخرج من الوادي الى الشارع العام اربيل ـ كويسنجاق، على الطريق القريب لمعسكر كومسبان . . و لتنسحب القوات الحكومية و ينتهي الحصار و الحظر الاداري على مدن المنطقة و قراها . . .

استيقضت في موقعي مبكراً جداً في ذلك الفجر و كان الظلام لايزال يلفّ المكان، كانت الساعة تشير الى الثالثة صباحاً و رأيت نوراً ضئيلاً يسطع في خيمة المؤنة و ذهبت الى هناك متفحصاً مايجري، و كانت مفاجأة ! رأيت المناضلة ام محمد حلاق و ابنتها النصيرة ” كُلباغ “، قد

بادرتا منذ ليلة الامس بعمل كمية كبيرة من العجين من مخزون الطحين هناك و بدأتا بقليه في اناء واسع لعمل الـ (ناوسيري) (3)، سلّمت عليهما فردّت ام محمد السلام بعيون و لهجة حزينة قائلة :

ـ اعدّ طعام لانصارنا الشجعان كي لايجوعوا بانسحابات القيادات و بـ (الآش بطال) !!(4) رغم محاولتي لتوضيح مايجري . . كانتا تعدان الناوسيري لاطعام 500 نصير و محتاج، و هي تفكّر بان لاتترك شيئاً من الطحين و القوت، لقوات السلطة التي قد تطعم به افرادها او تحرقه او يسرقوه .

كانت ام محمد حلاق بمعارفها و حكمتها و نشاطها المتنوع رغم عدم اجادتها القراءة و الكتابة، كانت بجرأتها و ادراكها لشراسة الدكتاتورية و هي ام لعائلة مناضلة عانت الحرمانات و المطاردات . . التي عادلت مواصفات كادر متقدم، لم تكن غير عارفة بمايجري، بالعكس كانت تعرف كثير من الخفايا غير الموثقة، و لا انسى ماتعلّمته منها عن عشائر المنطقة و انواع التناقضات و الصراعات و المتاجرات التي كانت تجري في تلك المنطقة و حواضرها الكردستانية، اضافة الى وسائل التقريب بينها، كانت اممية بحق لم تفرّق بموقف او بتلبية حاجات للانصار مهما كانت قومياتهم او اديانهم او طوائفهم.

و كان لها من الشعبية و الصلات مع نساء عشائر تلك المناطق رغم انحيازها المعروف للانصار و لبيشمركة كل القوى و دفاعها عنهم ضد الدكتاتورية، و قد استطعت بمشورتها ان اكوّن آراء اثبتت الأحداث مصداقيتها آنذاك، في نقاشات هي بالكردية و كنت افهم، و انا بالعربية و كانت تفهم !! كانت لاتثق بوعود السلطة الدكتاتورية و لاتنتظر منها الاّ الغدر الذي كان ثمنه دماء خيرة شباب كردستان و عموم العراق باطيافه.

و مع صباح ذلك اليوم، انقطع القصف المتنوع باجمعه، و تموضعت مفارز انصارنا و بيشمركة عموم القوى الكردستانية و رجال القرى، تموضع الجميع في اطراف الوادي، في مواضع تؤهل لها الهجوم ان تطلّب الأمر ، و يمكن الانسحاب منها للتجمع في نقاط اكثر وعورة تؤمن الحركة و الدفاع في ذات الوادي، و ذهبت مفرزة من قوة ” مام خضر روسي” لاستطلاع موقع ” آوا كرد” (5) على طرف جبل سفين مقابل قرية ” سماقولي جلي “، و اعداده للاستقبال في حالة حاجتنا اليه . .

بدأنا نسمع هدير المجنزرات الست وهي تسير امامنا على ذلك الطريق الترابي، حيث كنت و مفرزة مقر فوجنا 31 في مواقع قريبة الى ” سماقولي جلي ” . . و فعلاً اطلق الرتل 6 ـ 8 اطلاقات عشوائية على اكوام اطلال قرى مهجّرة ، و لم يستقر بل خرج كما وعد . . وبدأت حشود عشرات آلاف القوات الحكومية المتنوعة و الجاش بالانسحاب و سط صمتنا و عدم استهدافنا لهم . . و بدأنا بانشغال بالعودة الى مواقعنا التي تركناها .

و في عملية العودة الى مواقعنا السابقة ، بقيت على تواصل مع د. سعيد بالجهاز عن حالة الجريح شيرو ، و كنت فرحاً بتحسن حالته و انقطاع النزيف تماماً و لم يبق هناك ضماد الاّ ضماد خفيف واحد على الجرح و لكن بقيت قطعة انبوب جهاز نقل الدم لضمان دوران الدم في الساق و التي ثبّتها بين اوتار العضلات حينها، بقيت هناك رغم التآم الجروح ؟؟ و قد سلّم د. سعيد الجريح الى احد مساعدي د. ابو رافد ليذهب الى واجبه في سرية برانتي بعد موافقتي على ذهابه وتحمل مسؤولية الجريح .

و بينما كنت اتحدّث مع حاجي بختيار عضو مكتب سرية كويسنجاق لعقد ندوة في مدينة كويسنجاق ـ حي اسكان عن اسقاط النظام و اهمية وحدة البيشمركة لكسر عمليات السلطة لتهجير الريف الكردستاني، و اهمية ان يتحدث هو للجماهير بالكردية و باللهجة الكوئيه لا انا، لأنه من اهالي المنطقة، و سأكون جنبه بنزولي كنصير بالمفرزة التي سيقودها هو الى داخل المدينة (وقد تم ذلك بعدئذ بنجاح) . .

اشار لي حاجي بختيار الى النصير ” شيرو ” و هو يلعب كرة قدم بنشاط !! الأمر الذي طمأنني على حالته و ذهبت مسرعاً اليه، و بعد العناق الحار فحصت ساقه و كان كل شئ على مايرام مع بقاء قطعة الانبوب هناك، و اشرت اليه بضرورة مراجعة مستشفى عند اول فرصة لإجراء فحص شعاعي و تقدير مالعمل رغم تكيّس تلك القطعة في الجسم بعد انتهاء دورها بعملية طبيعية يحمي بها الجسم ذاته من الجسم الغريب . .

و بعد تلك الأحداث . . ازدادت التحاقات الشباب بنا، و عدنا الى مواقعنا التي ازدادت في ” دولي سماقولي ” و حصل فوجنا على جهاز اتصالات راكال الذي كان قمّة الاجهزة حينها، كهدية من قاطع سليمانية/كركوك الذي استطاعت وحداته من مهاجمة و احتلال معسكر ” نوجول ” الواقع شمال تكريت و الحصول على غنائم كثيرة، بقيادة مسؤوله العسكري الشهيد جوهر ، في دلالة على عمق علاقات الانصار الميدانيين . . (انتهى)

19 / 6 / 2019 ، مهند البراك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. كهف كروش، و هو كهف كبير بمدخل ضيّق يتسع لاكثر من مئتين رجل، فيه نبع ماء و تمتلئ سقوفه بمئات الخفافيش . . استخدمه البيشمركة سواء للاختفاء و حماية الاهالي او لتخزين السلاح و العتاد في السبعينات . . تمتلئ ارضه بفضلات الخفافيش التي استخدمها الاهلون من العارفين في علاج امراض جلدية و غيرها.

2. كان قاطع اربيل آنذاك مكوناً من فوجي العمق : الخامس اربيل و 31 آذار بسراياهما، سرية متجولة في مناطق سيدكان، سرية المقر في كافية ، اضافة الى مواقع شاندري و روستي . . و يديره مكتب قاطع.

3. ناوسيري، عجين مقلي بالدهن و ممكن ان يضاف له سكّر ان توفر، و هو من الاكلات الشعبية الكردية المشهورة، و اضافة الى طعمه اللذيذ، فانه يحتوي على سعرات حرارية عالية تمكّن الرعاة و البيشمركة من مقاومة الجوع لأيام ان كان متوفراً .

4. و هي عبارة تستخدم لحالات انتهاء او استسلام انتفاضة، و شاعت اثر مأساة 1975 حين تم الاعلان عن انتهاء ثورة ايلول 1961 اثر الاتفاقية الخيانية بين صدام و شاه ايران في الجزائر.

5. هو موقع مقر الاقليم للحزب الشيوعي اثر انقلاب شباط 1963 و يقع في الجهة الجافة من جبل سفين حيث مصادر المياه اقل مما هي في الجهة الاخرى : شقلاوة، هيران، نازنين . . و مصدر الماء هنا يقع في اعلى الجبل.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here