إطلاق لفظ الخوارج على مسلمي ليبيا إثم عظيم

بقلم: د. علي محمد الصلابي
لقد ذَكرتُ في مقالي السابق الذي تحدثت فيه عن خطورة استعمال لفظة “القرامطة” في الصراع الدائر بين الليبيين، بأنني سأتناول في مقالٍ آخر لفظة “الخوارج” وخطورة الافتراء على شريحة كبيرة من الشعب الليبي، باتهامهم بأنهم يَحلمون سمات الخوارج ووصفهم بصفات التكفير والتطرف والغلو وإلى ما هنالك.
وعلى الرغم مما أثاره المقال السابق عن “لفظة القرامطة” من جدال واسع بين الليبيين، أردت أن أؤكد احترامي وتقديري لكل الآراء والأفكار والاقتراحات سواء كانت معي أو ضدي، وأما أسلوب النقد وطريقته، فإن كل إناء بما فيه ينضح، والرأي عندي أن هذا القتال بين مسلمين، وبموجب هذا الرأي سيكون لي مقال قريب عن كيفية الخروج من هذا الصراع بإذن الله. وأما من افترى وكذب واختلق الأكاذيب والاتهامات الباطلة ووقع في الإفك المبين، غفر الله لي وله وهدانا جميعاً إلى سُبل السلام والمصالحة وحقن الدماء وبناء البلاد.
إن إطلاق لفظ الخوارج على مسلمي ليبيا من قِبل معسكر الثورات المضادة وأتباعه في بلادنا أصبح أمراً منتشراً، وقد تصديت لهذا الوصف تصدياً نوعياً بإخراج كتابين في بيان حقيقية الخوارج. وحين قامت هيئة الأوقاف التابعة للحكومة المؤقتة (المدعومة من الثورات المضادة)، والتي أفتت بعدم الصلاة خلف الإباضية، وفقني الله تعالى في الرد عليهم في كتابي الأخير الذي تجاوز تسعمائة صفحة وأربعمائة مرجع علمي تحت عنوان: “الإباضية… مدرسة إسلامية بعيدة عن الخوارج”، تحدثت بعلم وإنصاف والفضل لله عز وجل على ما أنعم وأكرم ووفق.
إنني أتمنى أن نرتقي بأخلاقنا عند اختلافنا في الشأن العام والله يعلم ما أكتب الآن إلا والقبر أمامي مستحضراً خروج روحي في أيَّة لحظة للعوالم القادمة من برزخ وحساب وقبر وبعث ونشور ووضع موازين “يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ”، فهذا مستقبلنا جميعاً، فما هذه الحياة إلا حلقة متصلة في مراحل قادمة يتم فيها اللقاء بين المتخاصمين والظالم والمظلوم والمصلح والمفسد عند العزيز العليم الجبار الكريم المذل المعز الرافع الخافض الذي لا تخفى عليه خافية سبحانه وتعالى.
إنني أرفض هذه المصطلحات والتنابز بها بين أبناء شعبي “كالجرذان والطحالب والخوارج والقرامطة والأزلام والحوافر” مسترشداً بقول الله تعالى: “وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ” (الحجرات: 11).
ويقول الله تعالى: “وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا” (سورة الإسراء:53).
كما أنني أحتفظ بحقي في التعبير عن آرائي وأفكاري، وهذا الحق وهبه الله لي عن حرية تفكير وتعبير واعتقاد. وهو الذي سيحاسبني على أقوالي وأفعالي وسكناتي سبحانه وتعالى الكبير المتعال “يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ” (سورة الشعراء:88-89).
إن إطلاق لفظة الخوارج على مسلمي ليبيا المنحازين لقيم الدولة المدنية وحق الشعوب في اختيار حكامها وتحديد مصيرها وبناء دولة الدستور والقانون والمؤسسات وحقوق الإنسان والحريات، فقط لمجرد الخلاف السياسي، من قبل معسكر الاستبداد والديكتاتورية في بلادنا -التابع للثورة المضادة – لهو إثم عظيم؛ فهم استحلوا به دماء الأبرياء وأعراضهم وأموالهم وممتلكاتهم وبيوتهم وتم تهجيرهم وعملوا من الكبائر والذنوب العظام والتي سيُسألون عنها عند الله وسيحاسبون عليها. قال تعالى: “وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ” (الأنبياء 47).
بل إن الله عز وجل سيقتص وينتقم من زعماء الإجرام وقادة الظلم المحليين والإقليميين والدوليين ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله: “فَهَلْ يَنظُرُونَ إلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا” (فاطر من الآية:43).
إنني أحذر أبناء شعبي ممن وقعوا في هذه الذنوب والمعاصي من غضب الله وسخطه يوم يقع المحظور، ويوم يقع المحظور لن ينفعكم شيخ قبلي ظالم ولا مفتي جاهل لدينه ولا قائد إجرامي عميل للثورات المضادة ولا إعلامي أفَّاك ولا ناطق للزور والبهتان في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي.
يا قوم اتقوا الله في أنفسكم
ووطنكم
وأبناء شعبكم
وقد رأيت أن أكتب في هذا المقال الثاني عن نشأن الخوارج وتاريخهم وعقائدهم محذراً ومنبهاً من خطورة التمادي في الباطل واستحلال دماء الخصوم السياسيين بالإثم والعدوان رغبة في المال أو الجاه أو المنصب أو طاعة عمياء لزعماء الاستبداد أو الديكتاتورية الذين سيغيب حضورهم الدامي عن قريب بإذن الله تعالى.
فالمستقبل للشعوب وليس للطغاة
والمستقبل للسلام والمصالحة الوطنية التي لا تستثني أحداً
كتبت هذه الصفحات لعلها تسهم في التذكير والتنبيه من الغفلة والتعليم لإزالة الجهل والتحذير من الأهوال القادمة بعد الموت، قال تعالى: “وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هذا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا” (الكهف: 46).
أولاً: الخوارج: نشأتهم وتاريخهم
عرَّف أهل العلم الخوارج بتعريفات مختلفة؛ حيث عرف الشهرستاني الخوارج بقوله: فقد عرف الخوارج بتعريف عام اعتبر فيه الخروج على الإمام الذي اجتمعت الكلمة على إمامته الشرعية خروجاً في أي زمان كان، حيث قال في تعريفه للخوارج بأنه كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجياً، سواءً كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين، أو كان بعدهم على التابعين بإحسان والأئمة في كل زمان. وقال ابن حجر معرفاً الخوارج: بأنهم هم من أنكروا على علي التحكيم وتبرؤوا منه ومن عثمان وذريته وقاتلوهم، فإن أطلقوا تكفيرهم فهم الغلاة. وأما الدكتور ناصر العقل، قال: هم الذين يكفرون بالمعاصي، ويخرجون على أئمة الجور.
فالخوارج هم أولئك النفر الذين خرجوا على علي رضي الله عنه بعد قبوله التحكيم في موقعة صفين، ولهم ألقاب أخرى عرفوا بها غير لقب الخوارج، ومن تلك الألقاب: الحرورية، والشراة، والمارقة، والمحكمة، وهم يرضون بهذه الألقاب كلها، إلا بالمارقة فإنهم ينكرون أن يكونوا مارقة من الدين كما يمرق السهم من الرمية.
وهناك من أهل العلم من يرجع بداية نشأة الخوارج إلى زمن الرسول (ص)، ويجعل أول الخوارج ذا الخويصرة الذي اعترض على الرسول (ص) في قسمة ذهب، كان قد بعث به علي رضي الله عنه من اليمن في جلد مقروظ ؛ فقد جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله (ص) من اليمن بذهبة في أديم مقرظ، لم تحصَّل من ترابها، قال: فقسمها بين أربعة نفر، بين عُيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وزيد الخيل، والرابع إما علقمة بن كلاثة، وإما عامر بن الطفيل، فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء، قال: فبلغ ذلك النبي (ص)، فقال: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء»، قال: فقام رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناشز الجبهة، كث اللحية محلوق الرأس مشمر الإزار، فقال: يا رسول الله! اتق الله، فقال: «ويلك! أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله»، قال: ثم ولى الرجل، فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه، فقال: «لا، لعله أن يكون يصلي»، قال خالد: وكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله (ص): «إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس. ولا أشق بطونهم»، قال: ثم نظر إليه وهو مقفٍ، فقال: «إنه يخرج من ضئضأى هذا قوم يتلون كتاب الله رطباً لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية»، قال: أظنه قال: «لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود».
قال ابن الجوزي عند هذا الحديث: أول الخوارج وأقبحهم حالة ذو الخويصرة التميمي، وفي لفظ: أنه قال له: اعدل، فقال: «ويلك ومن لم يعدل إذا لم أعدل» ؟!، فهذا أول خارجي خرج في الإسلام، وافته أنه رضي برأي نفسه، ولو وقف لعلم أنه لا رأي فوق رأي رسول الله (ص)، وأتباع هذا الرجل هم الذين قاتلوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
والرأي الراجح في بداية نشأة الخوارج، وبالرغم من الارتباط القوي بين ذي الخويصرة والغوغاء الذين خرجوا على عثمان، وبين الخوارج الذين خرجوا على علي بسبب التحكيم؛ فإن مصطلح الخوارج بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة لا ينطبق إلا على المعارضين للتحكيم، بحكم كونهم جماعة في شكل طائفة لها اتجاهها السياسي وآراؤها الخاصة، أحدثت أثراً فكرياً وعقائدياً واضحاً، بعكس ما سبقها من حالات.
ثانياً: الأحاديث الواردة في ذكر الخوارج
وردت أحاديث كثيرة عن النبي (ص) في ذم الخوارج المارقة، وصفوا فيها بأوصاف ذميمة شنيعة جعلتهم في أخبث المنازل. فمن الأحاديث التي وردت الإشارة فيها إلى ذمهم: ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي سلمة وعطاء بن يسار: أنهما أتيا أبا سعيد الخدري فسألاه عن الحرورية؛ هل سمعت النبي (ص) يقول: «يخرج في هذه الأمة ـ ولم يقل منها ـ قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم فيقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم ـ أو حناجرهم ـ يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافة فيتمارى في الفوقة؛ هل علقت بها من الدم شيء”.
وروى البخاري من حديث يسير بن عمرو قال: قلت لسهل بن حنيف: هل سمعت النبي (ص) يقول في الخوارج شيئاً؟ قال: سمعته يقول: وأهوى بيده قبل العراق: «يخرج منه قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية».
ففي هذه الأحاديث ذم واضح لفرقة الخوارج، فقد وصفهم (ص) بأنهم طائفة مارقة، وأنهم يشددون في الدين في غير موضع التشديد، بل يمرقون منه بحيث يدخلون فيه ثم يخرجون منه سريعاً لم يتمسكوا منه بشيء.
ومن صفاتهم الذميمة التي ذمهم بها الرسول (ص): أنهم ليس لهم من الإيمان إلا مجرد النطق به، وأنهم أصحاب عقول رديئة وضعيفة، وأنهم عندما يقرؤون القرآن يظنون لشدة ما بلغوا إليه من سوء الفهم أنه لهم؛ وهو عليهم. فقد روى البخاري رحمه الله من حديث علي رضي الله عنه: أنه قال: إذا حدثتكم عن رسول الله (ص) حديثاً؛ فو الله لأن أخرّ من السماء أحبّ إليّ من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة، وإني سمعت رسول الله (ص) يقول: «سيخرج قوم في اخر الزمان؛ أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية».
ومن الصفات القبيحة التي ذمهم بها عليه الصلاة والسلام: أنهم يمرقون من الدين ولا يوفقون للعودة إليه، وأنهم شر الخلق والخليقة، فقد روى مسلم رحمه الله من حديث أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله (ص): «إن بعدي من أمتي ـ أو سيكون بعدي من أمتي ـ قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ثم يعودون فيه، هم شر الخلق والخليقة».
وقد شرف الله رابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب بمقاتلتهم؛ وقتلهم؛ إذ إن ظهورهم كان في زمنه رضي الله عنه وأرضاه، على وفق ما وصفهم به رسول الله (ص) من العلامات الموجودة فيهم، فقد خرج رضي الله عنه إلى الخوارج بالجيش الذي كان هيأه للخروج إلى الشام، فأوقع بهم بالنهروان، ولم ينجُ منهم إلا دون العشرة. ولم يقاتلهم رضي الله عنه حتى سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على أموال المسلمين فقاتلهم لدفع ظلمهم، ولمِا أظهروه من الشر من أعمالهم وأقوالهم.
ثالثاً: عقائد الخوارج وصفاتهم:
حمل الخوارج صفات خاصة تميزهم عن باقي الفرق والجماعات الدينية في تاريخ المسلمين، وإنّ الباحث في تاريخ فرقة الخوارج يلاحظ عدة صفات اتصف بها أتباع هذه الفرقة، منها:
 الغلو في دين الإسلام:
مما لا شك فيه أنّ الخوارج أهل طاعة وعبادة، فقد كانوا حريصين كلّ الحرص على التمسك بالدين وتطبيق أحكامه، والابتعاد عن جميع ما نهى عنه الإسلام، وكذلك التحرُّز التامّ عن الوقوع في أي معصية أو خطيئة تخالف الإسلام، حتى أصبح ذلك سمة بارزة في هذه الطائفة لا يدانيهم في ذلك أحد، ولا أدلَّ على ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقرؤون الْقُرْآنَ لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إلى قراءتهم بشيء، وَلا صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ).
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-يصفهم حينما دخل عليهم لمناظرتهم: “دخلت على قوم لم أرَ قط أشد منهم اجتهاداً، جباههم قرحة من السجود، وأياديهم كأنها ثَفِنُ الإبل، وعليهم قُمُصٌ مُرَحَّضَةٌ، مشمِّرين، مسهمة وجوههم من السهر”، وعن جندب الأزدي قال: “لما عدلنا إلى الخوارج ونحن مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فانتهينا إلى معسكرهم، فإذا لهم دوي كدوي النحل من قراءة القرآن”.
فقد كانوا أهل صيام وصلاة وتلاوة للقرآن، لكنهم تجاوزوا حدّ الاعتدال إلى درجة الغلوّ والتشدّد، حيث قادهم هذا التشدد إلى مخالفة قواعد الإسلام بما تمليه عليهم عقولهم، كالقول بتكفير صاحب الكبيرة، وسيأتي مناقشة عقائدهم وأفكارهم بإذن الله تعالى.
ومنهم مَن بالغ في ذلك حتى قال بأن كلّ مَن ارتكب ذنباً من الذنوب ولو كان صغيراً، فإنه كافر مشرك مخلد في النار!! وكان من نتيجة هذا التشدّد -الذي خرج بهم عن حدود الدين وأهدافه السامية-أن كفّروا كل مَن لم ير رأيهم من المسلمين، ورموهم بالكفر أو النفاق، حتى أنّهم استباحوا دماء مخالفيهم، ومنهم مَن استباح قتل النساء والأطفال من مخالفيهم كالأزارقة مثلاً.
ولا شك أنّ الخوارج بما اتصفوا به من الجهل والتشدّد والجفاء قد شوهوا محاسن الدين الإسلامي تشويهاً غريباً، فإنّ هذا الإغراق في التأويل والاجتهاد أخرجهم عن روح الإسلام وجماله واعتداله، وهم في تعمُّقهم قد سلكوا طريقاً ما قال به محمد صلى الله عليه وسلّم، ولا دعا إليه القرآن الكريم، وأما التقوى التي كانوا يظهرون بها فهي من قبيل التقوى العمياء، والصلاح الذي كانوا يتزينون به في الظاهر كان ظاهر التأويل بادي الزخرفة، وقد طمعوا في الجنة وأرادوا السعي لها عن طريق التعمق والتشدد والغلو في الدين غلوّاً أخرجهم عن الحد الصحيح.
ولذلك حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من التعمّق والتشدّد في الدين، لأنّه مخالفة للاعتدال وسماحة الإسلام، وأخبر أنّ المتنطّع مستحقّ للهلاك والخسران، فقد صح عنه -صلى الله عليه وسلم-أنّه قال: (هَلَكَ المتنطعين) قالها ثلاثاً.
فبهذا يتبيّن لنا شذوذ الخوارج، وكذلك مَن سار على منهجهم المبني على التعسّف والتشدّد المخالف لسماحة الإسلام ويسره، فإنّ الإسلام دين اليسر والسماحة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا).
الجهل بدين الإسلام:
إنّ من كبرى آفات الخوارج صفة الجهل بالكتاب والسُّنة، وسوء فهمهم وقلّة تدبّرهم وتعقّلهم، وعدم إنزال النصوص منازلها الصحيحة، وكان ابن عمر -رضي الله عنهما-يراهم شرار خلق الله، وقال: “إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار، فجعلوها على المؤمنين”، وكان “ابن عمر” إذا سُئل عن الحرورية؟ قال: “يكفّرون المسلمين، ويستحلون دماءهم وأموالهم، وينكحون النساء في عِدَدِهِنّ، وتأتيهم المرأة فينكحها الرجل منهم ولها زوج، فلا أعلم أحداً أحقَّ بالقتال منهم”.
ومن جهلهم بشرع الله: رأوا أنّ التحكيم معصية تستوجب الكفر، فيلزم مَن وقع فيه أن يعترف على نفسه بالكفر، ثم يستقبل التوبة، وهذا ما طالبوا به عليّاً رضي الله عنه، إذ طلبوا منه أن يُقرّ على نفسه بالكفر ثم يستقبل التوبة، فتخطئة الخوارج له ولمن معه من المهاجرين والأنصار واعتقادهم أنّهم أعلم منهم وأولى منهم بالرأي هو والله عين الجهل والضلال.
ومن جهالتهم الشنيعة: أنّهم وجدوا عبد الله بن خباب -رضي الله عنه-ومعه أم ولد حُبلى، فناقشوه في أمور، ثم سألوه رأيه في عثمان وعلي رضي الله عنهما، فأثنى عليهما خيراً، فنقموا عليه، وتوعّدوه بأن يقتلوه شرّ قتلة، فقتلوه وبقروا بطن المرأة، ومرّ بهم خنزير لأهل الذمة فقتله أحدهم، فتحرجوا من ذلك وبحثوا عن صاحب الخنزير وأرضوه في خنزيره! فيا للعجب! أتكون الخنازير أشدّ حرمة من المسلمين عند أحد يدعي الإسلام؟ لكنّها عبادة الجهال، التي أملاها عليهم الهوى والشيطان.
قال “ابن حجر”: إنّ الخوارج لما حكموا بكفر مَن خالفهم، استباحوا دماءهم، وتركوا أهل الذمة فقالوا: نَفِي لهم بعهدهم، وتركوا قتال المشركين، واشتغلوا بقتال المسلمين، وهذا كله من آثار عبادة الجهال الذين لم تنشرح صدورهم بنور العلم، ولم يتمسّكوا بحبل وثيق منه، وكفى أنّ رأسهم ردّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ونسبه إلى الجَوْر، نسأل الله السلامة.
وقال عنهم “ابن تيمية” رحمه الله: فهم جُهّال، فارقوا السُّنة والجماعة عن جهل، وبهذا يتبيّن أنّ الجهل كان من الصفات البارزة في تلك الطائفة التي هي إحدى الطوائف المنتسبة إلى الإسلام، فالجهل مرض عضال يهلك صاحبه من حيث لا يشعر، بل قد يريد الخير فيقع في ضده.

شَقّ عصا الطاعة في الدولة والأمة:
قال ابن تيمية: فهؤلاء من ضلالهم اعتقادهم في أئمة الهدى وجماعة المسلمين أنّهم خارجون عن العدل، وأنّهم ضالون، وهذا مأخذ الخارجين عن السُّنة من الرافضة ونحوهم، ثم يعدّون ما يرون أنّه ظلم عندهم كفراً، ثم يرتّبون على الكفر أحكاماً ابتدعوها، هذا وقد شقّوا عصا الطاعة، وسعوا في تفريق كلمة المسلمين، ويوضّح ذلك موقفهم مع أمير المؤمنين عَلِيّ، حيث تخلوا عنه وخالفوه في أحرج المواقف وعصوا أمره، وظلّت تلك الصفة من صفاتهم على مدار التاريخ، أنّ كل مَن خالفهم في أمر عادُوه ونبذوه، حتى أنّهم تفرقوا هم أنفسهم إلى عدّة فِرَق يكفّر بعضهم بعضاً، ولذلك كَثُرَ فيهم الغارات والشقاق والثورات.
التكفير بالذنوب واستحلال دماء المسلمين وأموالهم:
قال ابن تيمية: والفرق الثاني في الخوارج وأهل البدع أنّهم يكفّرون بالذنوب والسيئات، ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم، وأنّ دار الإسلام دار حرب، ودارهم هي دار الإيمان، وكذلك يقول جمهور الرافضة… فهذا أصل البدع التي ثبتت بنص سُنّة الرسول -صلى الله عليه وسلم-وإجماع السلف أنّها بدعة، وهو جعل العفو سيئة، وجعل السيئة كفراً.
وقد تميّز الخوارج بآراء خاصة فارقوا بها جماعة المسلمين، ورأوها من الدين الذي لا يقبل الله غيره، ومن خالفهم فيها فقد خرج من الدين في زعمهم، فأوجبوا البراءة منه، بل إنّ منهم مَن غلا في ذلك، فأوجبوا قتال من خالفهم واستحلّوا دماءهم، فمن ذلك أنّهم قتلوا عبد الله بن خباب بغير سبب غير أنّه لم يوافقهم في رأيهم، وقال ابن كثير: فجعلوا يقتلون النساء والولدان، ويبقُرون بطون الحبالى، ويفعلون أفعالاً لم يفعلها غيرهم.
وقال ابن تيمية: وكانت البدعة الأولى مثل بدعة الخوارج، إنّما هي من سوء فهمهم للقرآن، لم يقصدوا معارضته، لكن فهموا منه ما لم يدل عليه، فظنّوا أنّه يُوجب تكفير أرباب الذنوب، إذ كان المؤمن هو البرّ التقيّ، قالوا: فمن لم يكن برّاً تقيّاً فهو كافر وهو مخلد في النار، ثم قالوا: وعثمان وعلي ومن وَالَاهُمَا ليسوا بمؤمنين، لأنّهم حكموا بغير ما أنزل الله، فكانت بدعتهم لها مقدمتان:
الأولى: أنّ مَن خالف القرآن بعمل أو برأي أخطأ فيه فهو كافر.
الثانية: أنّ عثمانَ وعليّاً ومن وَالَاهُما كانوا كذلك.
ولهذا يجب الاحتراز من تكفير المؤمنين بالذنوب والخطايا، فإنّه أول بدعة ظهرت في الإسلام، فكفّرَ أهلُها المسلمين، واستحلوا دماءهم وأموالهم، وقد ثبتت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-أحاديث صحيحة في ذمّهم والأمر بقتالهم.
 الطعن والتضليل:
من أبرز صفات الخوارج الطعن في أئمة الهدى وتضليلهم والحكم عليهم بالخروج عن العدل والصواب، وقد تجلَّت هذه الصفة في موقف “ذي الخويصرة” مع رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، حيث قال “ذو الخويصرة”: يا رسول الله اعدل!! فقد عَدَّ “ذو الخويصرة” نفسه أَوْرَعَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-بالجَوْر والخروج عن العدل في القسمة!
وهذه الصفة قد لازمتهم عَبْر التاريخ، وقد كان لها أسوأ الأثر لما ترتب عليها من أحكام وأعمال.
سوء الظنّ في عقيدة الخوارج
هذه صفة أخرى للخوارج تجلّت في حكم “ذي الخويصرة” الجَهُول على رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- بعدم الإخلاص، حيث قال: والله إنّ هذه لقسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وجه الله، فذو الخويصرة الجَهُول لما رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أعطى السادة الأغنياء، ولم يعطِ الفقراء، لم يحمل هذا التصرف على المحمل الحسن، وهذا شيء عجيب خصوصاً وأنّ دواعيه كثيرة، فلو لم يكن إلا أنّ صاحب هذا التصرف هو رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- لكفى به داعياً إلى حسن الظن، ولكنّ “ذا الخويصرة” أبى ذلك، وأساء الظن لمرضه النفسي، وحاول أن يستر هذه العلّة بستار العدل، وبذلك ضحك منه إبليس، واحتال عليه، فأوقعه في مصايده.
 الشدة على المسلمين:
عُرف الخوارج بالغلظة والجفوة، وقد كانوا شديدي القسوة والعنف على المسلمين، وقد بلغت شدّتهم حدّاً فظيعاً، فاستحلّوا دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، فروَّعوهم وقتلوهم، أمّا أعداء الإسلام من أهل الأوثان وغيرهم فقد تركوهم ووَادَعُوهم فلم يُؤذُوهم.
لقد سجّل التاريخ صحائف سوداء للخوارج في هذا السبيل، وما قصة “عبد الله بن خبّاب” ومقتله عنا ببعيد، فمعاملة الخوارج للمسلمين مصحوبة بالقسوة والشدّة والعنف، وأما للكافرين فلين وموادعة ولطف، فقد وصف الشارع الشريعة بأنّها سهلة سمحة، وإنّما ندب إلى الشدة على الكفار، وإلى الرأفة بالمؤمنين، فعكس ذلك الخوارج، قال تعالى: “مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ” (الفتح: 29)، فالخوارج عكسوا الآيات، فأرهبوا المسلمين وروَّعوهم.
 هذه بعض الصفات التي اشتهر بها الخوارج، وقد تميّزوا بنزعات خاصّة بين طوائف من أبناء المسلمين، وبأشكال ومظاهر مختلفة، من جماعات وأفراد ودعوات وحركات واتجاهات وشعارات ومناهج وأساليب ومواقف وتصرفات، ونزعات فردية وجماعية، ونحو ذلك من أمور تنذر بخطر، فكانت بدايات ظهور البذور العقدية والسلوكية التشويهية الخاطئة في تاريخ الأمة، كالتشدّد في الدين على النفس، والتعسير على الآخرين، والغرور، وضعف الحكمة، والاستبداد بالرأي، وتجهيل الآخرين، والطعن في العلماء، وسوء الظن فيهم، والحدّية في التعامل مع الآخرين، وصعوبة مَدّ جسور التفاهم معهم، وقابلية الانشطار والتفرّق، وسهولة الجَوْر على الآخرين والتكفير، وغير ذلك من مظاهر التطرّف التي أنهكت الأمّة في عصرها الأول وحتى يوم الناس هذا.

مراجع المقال:
ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل، 4/89.
أبو الحسن الأشعري: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين،1/204.
أبي الفتح الشهرستاني، الملل والنحل.
حسن الدغيم، الغلو السياسي، دار الروضة، 2018.
علي محمد الصلابي: فكر الخوارج والشيعة في ميزان أهل السنة والجماعة، ص. ص 16، 54.
علي محمد الصلابي، الوسطية في القرآن الكريم.
محمد رضا، الإمام علي بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here