المجلس الأعلى لمكافحة الفساد بين التصريحات السياسية والواقع القانوني الجزء الثاني (2-2)

د. حسن الياسري

الجزء الثاني (2-2)

لقد أوضحنا في الجزء الأول من هذه المقالة كيفيَّة تأسيس المجلس الأعلى لمكافحة الفساد منذ العام 2007، وبيَّنا الوظيفة الرئيسة له، وقد خلصنا إلى أنها تتعلق بتنسيق الجهود بين الأجهزة الرقابيَّة والقضاء. وتتمةً لما بدأناه؛ سنتطرق اليوم إلى الأمر الديوانيِّ رقم 35 لسنة 2019 الصادر في 4 / 2 / 2019 ، المُتعلِّق بالمجلس أيضاً.

وبإزاء هذا الأمر ندرج الملاحظات الآتية؛ خدمةً للرأي العام والمصلحة العامَّة:

1- لقد ورد في هذا الأمر النصِّ على قيام المجلس الأعلى لمكافحة الفساد بتقديم التوصية بتعيين المُفتِّشين العموميِّين أو إقالتهم إلى السيِّد رئيس مجلس الوزراء للبتِّ فيها . إنَّ هذا النص يُعَدُّ خلافاً للقانون، الذي نصَّ بشكلٍ صريحٍ على أنَّ هذه الصلاحية منوطةٌ بهيأة النزاهة حصراً، فهي التي تقدم هذه التوصية إلى السيد رئيس مجلس الوزراء مباشرةً ودون وسيطٍ؛ وذلك لكونها الجهة الأقرب إلى عمل المُفتِّشين العموميِّين، وهي التي تراقب عملهم يومياً، وعلى تماسٍّ مباشرٍ بمجريات ذلك العمل .

أمّا أعضاء المجلس الآخرون – مع فائق الاحترام والتقدير – فهم ليسوا متابعين لعمل المُفتِّشين، وفي الغالب لا يعرفونهم عن قربٍ؛ لذا لن تكون لديهم المكنة – من الناحية العملية – لمعرفة المُفتِّشين وتقدير أو تقويم عملهم؛ الأمر الذي يفضي إلى القول إنَّ إناطة هذه الصلاحية بهم لن تكون سوى إجراءٍ شكليٍّ غير ذي جدوى، فضلاً عمّا ذُكِرَ آنفاً من مخالفته القانون !!!

2- ثمة من يُمثِّل المُفتِّشين العموميِّين في المجلس، فلو افترضنا مثلاً أنَّ التوصية كانت ضد هذا الممثـّل، فكيف يتمُّ عرض التوصية أمام أعضاء المجلس، وهو واحدٌ منهم، وهكذا لو كانت التوصية مثلاً بصدد إقالة مُفتِّشٍ عامٍ آخر، فكيف يمكن عرض التوصية بحضور زميله المُفتِّش العام العضو في المجلس !!!

3- لقد ورد في هذا الأمر أيضاً النصُّ على أنَّ لرئيس المجلس تسمية المُفتِّشين العموميِّين في المُؤسَّسات والجهات التي لا تتضمَّن تشكيلاتها مكاتب مُفتِّشين. إنَّ هذا النصَّ لَيُؤكِّدُ ما قلناه آنفاً في الجزء الأول من هذه المقالة، وهي أنَّ الأخطاء القانونيَّة قد تكرَّرت في هذه الأوامر، لسببٍ غير معروفٍ؛ ربما بسبب بعض القانونيِّين الذين يقفون وراء هذه المُقترحات. إنَّ الخطأ في هذا النصِّ يكمن في أنَّ السيِّد رئيس مجلس الوزراء يتمتَّع بهذه الصلاحية بمقتضى القوانين النافذة، وهذه الصلاحية إنّما مُنِحَت له بوصفه رئيساً لمجلس الوزراء وليس رئيساً لمجلس مكافحة الفساد؛ وبناءً على ذلك يغدو هذا النصُّ لغواً من القول لا جدوى فيه، بل هو خطأٌ بيَّنٌ !!

4- إنَّ ما جرى في غضون الأشهر المنصرمة قد أماط اللثام عن وجود توجُّهٍ غير مخفيٍّ لدى بعض السياسيِّين لتقليم أظفار الأجهزة الرقابيَّة، ولاسيما هيأة النزاهة، والحدّ من صلاحياتها وقوتها التي أرعبت الفاسدين في السنوات الثلاث الماضية وأرتهم ما لم يكونوا يحتسبون. إذْ ثمَّة محاولاتٌ عديدةٌ جرت؛ للحدِّ من قوَّة الهيأة وإضعافها، والنيل من استقلاليَّتها، تلك الاستقلالية التي أزعجت بعض ذوي التفكير الحزبيِّ الضيِّق، ممّن لا يؤمنون باستقلاليَّة الأجهزة الرقابيَّـة، ويحاولون النفوذ إليها لاختراقها متى وجدوا الفرصة سانحةً. ولئن كانوا في السنوات المذكورة آنفاً لا يجرؤون على ذلك، فهم اليوم يعلنونها بكلِّ صراحةٍ، بلا خجلٍ أو وجلٍ؛ ومن هنا بدأت الهيأة تتعرَّض في المُدَّة المنصرمة إلى محاولاتٍ من أولئك للنيل منها، كمحاولات النيل من بعض مدرائها العامِّين – المُستقلِّين – مثلاً؛ بغية إقصائهم واستبدالهم بآخرين من ذوي الأحزاب والمحاصصة والقرابة، وأيضاً محاولات البعض الحثيثة الآن للمجيء بشخصٍ حزبيٍّ أو له توجُّـهٌ حزبيٌّ معروفٌ إلى رئاسة هيأة النزاهة، فما زال البعض يُقدِّمُ فروض الطاعة لبعض الكتل السياسيَّة كي تقبل ترشحيهم!!! وكلُّ ذلك يرمي إلى تحويل هذه المُؤسَّسة المستقلة إلى مجموعةٍ من الأشخاص يدينون بالولاء إلى أحزابهم؛ وبالمُحصّلة يحاول هؤلاء كسر السيف المُسلَّط على رقاب الفاسدين، وإبداله بفلترٍ تابعٍ لهم – في داخل الهيأة – يمنع فتح التحقيقات بحقِّهم، وغلق المفتوح منها؛ وكفى بذلك إثماً مبيناً !!! وبذلك تفقد هذه المُؤسَّسة استقلاليَّتها بالكامل؛ وآنذاك أقرأوا السلام !! وأيُّ بلاءٍ أشدُّ من هذا البلاء !!!

وفي اتِّجاهٍ آخر، ثمَّة محاولاتٌ أخرى تجري للنيل من منظومة المُفتِّشين العموميِّين، ولا سيما أولئك الذين تحمَّلوا المسؤوليَّـة معنا، يوم فتحنا عشرات الملفات الكبيرة – وكان الآخرون يومها في سباتٍ عميقٍ -، تلك الملفات التي شملت وزراء ووكلاء ودرجاتٍ خاصَّةً، التي أرعبت الفاسدين، وأزعجت غيرهم وأقلقتهم، فباتوا يتحيَّنون الفرصة للانقضاض على هؤلاء المُفتِّشين والانتقام منهم وإقصائهم، والمجيء بآخرين ربما من الأحزاب السياسيَّة؛ وفي ذلك يُحقِّقون هدفين، الأول: التخلُّص من المُفتِّشين المُستقلِّين الذين تحمَّلوا المسؤولية، والثاني: إرضاء بعض الكتل السياسيَّة!!! وأيَّة محنةٍ أشدُّ من هذه المحنة !!

وكلُّ ذلك خلاف القانون، الذي يشترط في المُفتِّش العامِّ أنْ يكون مُستقلاً من الناحية السياسيَّة، وهو أمرٌ عملنا على تطبيقه طيلة مُدَّة الثلاث سنواتٍ من ترؤسنا للهيأة، إذ لم نرضخ لأحدٍ مهما كانت قامته، ولم نُعيِّنْ لهم مُفتِّشاً واحداً حزبياً؛ التزاماً بالقانون والمهنيَّة، وهؤلاء أنفسهم يشهدون على ذلك، على الرغم من سعي الأغلبيَّة للحصول على موطئ قدمٍ في هذه المنظومة. هذا فضلاً عن قيامنا بالتوصية بإقالة بعض المُفتِّشين ممَّن كانت تحوم حولهم شبهات الحزبيَّة، الذين كانوا بحدود الثلاثة، خلافاً لمَّا يدَّعيه البعض من أنَّ المنظومة كلها حزبيةٌ أو أنها محسوبةٌ على حزبٍ مُعيَّنٍ، أو أنها تُمثِّلُ الدولة العميقة أو أو .. وغير ذلك من الأكاذيب التي يسوقها المُتضرِّرُ من هذه المنظومة من جهةٍ، ومَنْ يسعى جاهداً للحصول على موطئ قدمٍ فيها من جهةٍ أخرى. ولقد استطعنا في حينها إنهاء ولاية أولئك الموسومين بالحزبيَّـة، ولم يبقَ منهم إلا واحدٌ حصلنا في وقتها على موافقة السيِّد رئيس مجلس الوزراء السابق (السيِّد العبادي) لإخراجه من المنظومة، وقد خرج بعد ذلك بالفعل، فقد اتَّبع السيِّد رئيس مجلس الوزراء السابق المنهج ذاته في عدم تعيين الحزبيِّين في منظومة المُفتِّشين العموميِّين .

وبعد كلِّ تلك الجهود القانونيَّة لإقامة حكم القانون، بدأ البعض يستغلُّ الفرصة الآن؛ لتمرير بعض الصفقات المشبوهة المخالفة للقانون !!

ولئن كنَّا نحجم اليوم عن الكلام في تفاصيل هذا الموضوع وكشف محاولات النيل من الهيأة ومنظومة المُفتِّشين العموميِّين؛ رعايةً للمصلحة العامة، ولعلمنا بأنَّ السيِّد رئيس مجلس الوزراء (السيِّد عبد المهدي) لم يُحَطْ بذلك، ولإيماننا بمهنيَّته التي ترفض مثل هذه المحاولات التي يقوم بها البعض، لكنَّنا سنُميطُ اللثام وسنُسمِّي الأمور بمسمَّياتها، إذا استمرَّت هذه المحاولات، وسنتصدَّى لكشفها أمام الرأي العامِّ، كما تصدَّينا من قبل لرؤوس الفساد غير عابئين، ولن نخشى في الله لومة لائمٍ، فالوطن والمصلحة العامَّة فوق الجميع !!!

وانطلاقاً من ذلك، أدعو الأخ السيِّد رئيس مجلس الوزراء المُحترم إلى ضرورة الاهتمام بهذا الملفِّ بشكلٍ شخصيٍّ ومُباشرٍ منه، دون توسُّط البعض الذين قد ينقلون كلاماً مغايراً للحقيقة، ويكون قد فعل حسناً إذا استمع لبعض المُفتِّشين بشكلٍ مُباشرٍ، بدلاً من نقل الآخرين الذي قد يكون مُجانباً للصواب. كما اقترح على سيادته – بحسب التجربة – أنْ يختار لرئاسة الهيأة أحد المُفتِّشين العموميِّين الحاليِّين الذين ما زالوا في الخدمة منذ سنين عديدةٍ، من الذين عُرِفُوا بالاستقلاليَّـة وعدم التوجُّه الحزبيِّ، والنزاهة والأمانة والكفاءة والخبرة الطويلة في عملهم، ولاسيما أنَّ منهم قضاةً وأنَّ منهم مَنْ مزج بين خبرتين، خبرة العمل التفتيشيِّ الطويل، وخبرة العمل في تحقيقات هيأة النزاهة؛ فهؤلاء يعرفون كلَّ تفاصيل وطبيعة عمل الهيأة من جهةٍ، وعمل القضاء من جهةٍ أخرى. والله من وراء القصد.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here