البشر النرجسي!!

النرجسية: حب النفس , وقد تكون إضطرابا بالشخصية فتتميز بالغرور والأنانية , والتعالي والشعور بالأهمية والجشع.

وصاحبها يرى بأنه هو الأفضل والأقوى والأجمل والأرقى من غيره , ولديه قدرات نجاح وذكاء , ولا يوجد أحد فوقه , ويضع نفسه في مواقف صعبة لاقِبل له بها ويضخم كثيرا جدا من إنجازاته.

ويريد إحتراما وتقديرا متميزا ومدحا وإطرءً , فكل ما يقوم به عظيم وفريد.

ويرى أنه دائما في المقدمة والقمة , فهو مخلوق خاص بحاجة لتفاعل خاص لإيمانه بإمتلاك قدرات خاصة , ويعامل الناس بإستعلاء وإحتقار وإنكار , فلا قيمة لأحد غيره.

ولا يمتلك شعورا بمعاناة الآخرين , فلا يمكنه مشاركتهم بما يشعرون . ويتوقع من غيره الرضوخ لأفكاره وعدم إهمالها , وإن سألته زعزعت كبرياءه وخدشت معالم ذاته , فهو الذي يسأل ولا يُسأل.

ويبدو إستغلاليا جدا حتى ولو أصاب غيره بأضرار جسيمة.

ويُظهر لغة بدنية تحط من قدر الآخرين , لأنه يعتقد أنهم يغارون منه ويحسبهم يركزون عليه , ولديه مشاكل في علاقاته , فكن بعيدا عنه لأنه سيرميك أرضا حال إقترابك منه.

وهو غير واقعي وأهدافه خارقة ولا معقولة ومبنية على رؤية وهمية.

وفي داخله لا يشعر بالأمان.

والعجيب في الأمر, إن كلمة نرجس لا تذكرنا بنبات النرجس الطيب الرائحة الأبيض اللون والمتباهي بجماله.

بل ولا نكاد نعرفه ونتحدث عنه, لأن أحاديثنا مشحونة بالمفردات المأساوية الحزينة القاسية والدموية إلى حد النخاع.

ونرجس تذكر بالنرجسية التي هي داء وخيم واضطراب سلوكي مقيت يصيب النفس البشرية ويفعل فيها ما يفعل.

وهي مشتقة من المثيلوجيا اليونانية نسبة إلى ناركيسوس , الذي أحب نفسه حبا شديدا , وعشقها عشقا فاق عشق قيس بن الملوح لليلى.

وقد رفض ناركيسوس الزواج من إحدى الآلهات لأنه مشغول بعشق صورته في الماء.

وبعض الأساطير تقول أن ناركيسوس أو نرسيس كان طفلا جميلا جدا فأمه حورية وأبوه النهر, وقد تنبأ له العراف تربزياس بأنه سيعيش طويلا بشرط أن لا يرى نفسه.

وذات يوم يغريه أحد أعدائه بأن يشرب من بحيرة, وعندما فعل رأى نفسه في الماء فمات لحاله وتحول إلى زهرة النرجس , التي صارت رمزا للحب بغير عاطفة أو شعور لشدة الهيام بالذات.

والبشر يتحول ما بين عشق الآخر وعشق الذات , وقد يعشق الآخر لأنه يحقق له حاجات نفسية صارخة في عشق الذات.

وفي أحيان كثيرة يختلط الأمر فلا نعرف أن العشق متبادل أم عشق للذات , وحب نرجسي متعاظم لدى الأطراف البشرية المتفاعلة في معادلة العشق أو الحب أيا كان نوعها.

وللنرجسية أثر كبير في حياتنا خصوصا الثقافية السياسية منها, حيث يتحول أصحاب الكراسي إلى أورام نرجسية مؤذية, لا ترى ولا تسمع إلا ما يحقق اللذة النرجسية وتفخيم المقام الذاتي إلى درجة التأليه.

فالنرجسي يحسب ما يفعله واجب مهم من طقوس العبادة , وأن ربّه قد وضعه على الكرسي لتحقيق غاياته من خلاله.

وتستطيل قائمة الرغبات النرجسية وتتفجر وتخرج عن حدود المعقول , فتصنع من الجالس على الكرسي طاغوتا أو فرعونا يتعالى على كل قوة أمامه.

فلا يرى إلا نفسه في مرآة النرجسية المحدبة.

ويضع أمام عينيه عدسات مقعرة تشتت حزم الضوء القادمة إليه لأنه لا يريد أن يرى إلا ما فية,

ولا يريد أن ينظر إلا إلى وجهه , ويصغي إلى شياطين بني النرجس التي تعبث في عقله وخياله.

وفي النتيجة يصاب المتنرجس بإضطراب فكري وإنفعالي قد يصل به إلى حالة الجنون.

لكنه برغم جنونه الذاتي يبدو للآخرين متماسكا قويا وصاحب هيبة , تمنع أي فرد بشري من النظر إلى عيوبه وتأمل سلوكه وتشخيصه, لأن ذلك من المحرمات والجرائم التي يقضي بموجبها الدستور النرجسي بالإبادة .

وذلك لأن أبالسة النرجسية الذين يحيطون بالكرسي منهمكون في تضخيم ذاته , والحديث عن إنجازاته وذكائه وعبقريته وقدراته الخارقة.

إن النرجسي الجالس على الكرسي مشحون بالعظمة في خياله وتفكيره وفي غاية الحساسية لأي نقد , ولا يمكنه أن يحتمل إمتداح أحدٍ غيره , ولا يفهم كيف يتعاطف مع الآخرين , فهو في صندوق ذاته ويرى الآخرين أدوات لتحقيق ما يريد.

وتراه يقرب مَن يمنحه الشعور بتضخيم الذات ويُشعره بأنه خاص ولا مثيل له , وعليك أن تُذكره بأن قدراته لا يملكها أحد من البشر على الإطلاق.

أما في عالم الثقافة والأدب فالحالة تتشابه , فما أكثر الذين لا يؤمنون بقول ” عرفت شيئا وغابت عنك أشياء” , فتراهم يتوهمون مطلق المعرفة , وهم الذين حسبوا قطرة ما يعرفونه بحرا مديدا , وأنهم الأوصياء على هذا الجنس الأدبي أو غيره , وإن شئت أنبياء الإبداع والأدب , فينظرون

لغيرهم من أبراجهم التي يرونها بجوار القمر , وتلك عاهات سلوكية في مجتمعات منكوبة بما فيها.

والمجتمعات البشرية تعاني من داء “النرجس” أو “النرسس” وتصاب بالكثير من الخيبات , عندما تتحول إلى حصان يمتطيه فرد نرجسي الطباع في أي ميدان , فيتمكن من المجتمع ويضع اللجام عليه ويحدد رؤيته ووجهته.

وفي مجتمعنا الكثير من بني النرجس وأقوام الكراسي والأحزاب , المصابة بداء الإدمان على الإيلام وإيذاء البشر, لكي تحقق الحاجات النرجسية القابعة في ظلام الذات الذليلة.

فداء النرجس وباء مزمن متوطن بالكراسي وبالأشخاص الآخرين من حولها , وهو مثل الإنفلونزا ينتشر بين البشر ويصيبهم بمقتل, فإذا كان الجالس على الكرسي متنرجسا , فكل من حوله وبقربه وتحت وصايته سيصابون بالداء.

وفي المجتمع النرجسي لا يمكنك أن تحقق شيئا, لأن كل فرد فيه يغرق في ذاته وينشغل بها , وينظر للأمور من خلال عدساتها ويرى وجهه المشوه بالمرآة المحدبة , ويحسب ما يراه هوّ اليقين , وهو الذي يرى ما فيه من خيالات نرجسية مروعة , وهذه الخيالات والأفكار المنجذبة إليها تصنع منه قوة ضد نفسه وضد مجتمعه , وتقضي عليهما في آن واحد.

والمجتمعات التي يتم السيطرة عليها بالكراسي النرجسية, تصاب بأمراض يصعب علاجها.

وبسبب هذه الآفة وأمثالها دوّت في الأرض صرخة “إعرف نفسك” منذ أن بدأ المجتمع البشري بالتعقيد.

ولا زلنا نقول إن أعظم حرب يقودها الإنسان هي الحرب على نفسه , وذلك بتهذيبها وتقريعها وتوجيهها , لأن معرفة النفس تقي من الإضطرابات النرجسية وغيرها من العاهات النفسية المؤذية , وأن الكثير من العقائد والرسالات تبصر بالنفس وتربيها وتخرجها من عاهاتها , وتجعلها تدري حقيقتها ومعاني وجودها في الحياة.

وتلك هي النفس البشرية بنرجسيتها المؤذية , وقدراتها المشحونة بالتدمير والإمعان بالقسوة , تؤكد عمارة النرجس الذاتية التي شيدها البشر في أعماقه الخائبة.

“ونفس وما سواها ألهمها فجورها وتقواها”

فتبا ” للنرسيسي” ولمن يدين بالنرجسية العمياء , ولنَحذر “سلطة النرسيسي” لأنه لا ينفعنا ولا ينفع نفسه , بل يحقق أفدح الأضرار لنا وله.

ولندنو من زهرة النرجس ونشمها ونتمتع بأريجها ولونها الخلاب الحبيب.

ولينعم الله علينا بعطر النرجس والريحان..!!

د-صادق السامرائي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here