حسن الإختيار يغني الناخب عن فساد الصاحب

د. نضير الخزرجي

منيرة ميرزا .. فيما بعد الدكتورة منيرة ميرزا، إمرأة بريطانية مسلمة ولدت في مدينة أولدهام (Oldham) شمال انكلترا لأبوين جاؤوا إلى المملكة المتحدة مهاجرين من باكستان .. هذه المرأة المسلمة المولعة بثقافة التعايش السلمي بين الثقافات والأديان في عاصمة متعددة الثقافات مثل لندن ظلت الصحافة البريطانية لأسابيع عدة تلاحقها بوصفها المستشارة الثقافية لعمدة لندن بوريس جونسون (Boris Johnson) للفترة 2008- 2012م، وزير الخارجية فيما بعد وربما رئيس وزراء بريطانيا القادم بعد استقالة تيريزا مي (Theresa May).

منيرة ميرزا (Munira Mirza).. ذات الثلاثين ربيعا حينما أصبحت مستشارة ثقافية لعمدة العاصمة لندن عام 2008م، كانت وراء أول وأهم قرار اتخذه العمدة في 7/5/2008م أي بعد أيام من انتخابه، وهو حظر تناول المشروبات الكحولية في وسائل المواصلات العامة من قطارات وحافلات نقل الركاب ابتداءًا 1/6/2008م ولا زال ساريا حتى يومنا هذا ويُعاقب على من يكسر الحظر بالغرامة وربما المحاكمة والسجن.

كان بالإمكان أن يمر القرار دون أن تغمز وسائل الإعلام من قناة المستشارة الثقافية لو أنها لم تكن باكستانية المحتد والأرومة ولم تكن مسلمة الهوية رغم أنها غير محجبة، لكن الصحافة ظلت تلاحقها عبر متابعة القرار وحيثياته وكان الهجوم منصبا كله حول ما إذا كان توجه مستشارة العمدة وحظر الكحول قام على خلفية دينية باعتبار أن الإسلام يحظر تناول الكحول كليا وفيما إذا كانت المستشارة انصاعت إلى صوت الإسلام قبل أن تأخذ بنظر الإعتبار واقع المجتمع البريطاني الذي يبيح الخمر ويجد المواطن على رأس كل شارع وحارة خمارة، لكنها بلباقتها وثقافتها استطاعت أن تفحم الأقاويل ويمضي الحظر.

وكل يوم بشكل عام استقل المواصلات العامة من قطار وحافلة في الذهاب والإياب بين العمل والمنزل، حيث لا خمر ولا مخمورون كما كان الوضع قبل الأول من حزيران يونيو 2008م، أتذكر قرار بوريس جونسون واستشارة الدكتور منيرة ميرزا الرائعة التي وفرت الأمن المجتمعي داخل وسائل المواصلات العامة من أناس كان يأخذ بهم الخمر مأخذا إلى أحداث الضجيج والإزعاج الذي كان يتطور في بعض الأحيان إلى خناقة والإعتداء على الركاب وسلب راحتهم.

قرار لازال أهل لندن ينعمون بآثاره الطيبة، تذكرته وأنا أتابع ما كتبه الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في كتيب “شريعة البلديات” من مهام ومسؤوليات واقعة على العمد ورؤساء البلديات والمحافظين تجاه المجتمع وصلاحهم وراحتهم، والكتيب الذي ضم 47 صفحة صدر حديثا 2019م في بيروت عن بيت العلم للنابهين، ضم 75 مسألة فقهية تتناول مسألة البلديات ودورها مع 19 تعليقة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري مع مقدمة للناشر وأخرى للمعلق إلى جانب التمهيد الذي وضع فيه الفقيه الكرباسي الخطوط العريضة للمسائل الفقهية المتعلقة بالبلديات.

مهام وخدمات

المجلس البلدي عنوان عام طابعه الخدمي، تتوسع مسؤولياته وتضيق حسب النظام الإداري والسياسي لكل بلد، قد يأتي بالتعيين وقد يأتي بالإنتخابات، وقد يكون على مستوى ناحية أو قضاء أو محافظة، ومنه تتفرع منه مجموعة دوائر خدمية تتسع حلقاتها أو تضيق وفقًا لحجم البلد والسكان، ولاسيما وإن البلدية من حيث اللغة تنتسب الى البلد، فكل ما يُنسب الى البلد يُقال له (بلدي)، ومنه المجلس البلدي الذي يتولى رعاية شؤون العباد ضمن الحدود الإدارية.

وليس بلد بغنى عن مجلس محافظة أو مجلس محلي أو مجلس بلدي وإن اختلفت التسميات والمسؤوليات، وكلها تدخل في باب إدارة شؤون الأمة وبتعبير الفقيه الكرباسي في التمهيد: (إن المدنية والحضارة اقتضتا على نظم أمور البلاد والعباد، وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته للحسن والحسين عليهما السلام: “أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم”).

ولأن المدنية تطورت من القرية الصغيرة إلى البلدة وإلى المدينة وإلى المحافظة ثم المقاطعة، فكان لابد من تنظيم أمور المجتمع حتى تصان الحدود ويأخذ الميزان موقعه، ويعرف كل إنسان موضعه من الحرية الذاتية والحرية الموضوعية التي يشترك فيها الجميع دون أن يعتدي أحد على أحد، حيث يجري البلد بساقي الحرية والقانون، وكلما احترم المجتمع الحريات المدنية وانصاع إلى القانون تمثلت فيه معاني القيم والشهامة والرجولة واقترب من جوهر الحياة وحقيقتها بوصف حسن المعاملة مبلغ الإنسانية، والإناء ينضح بما فيه.

والمجلس البلدي ليس إطارا إداريا فوقيا إنما هو مندك في المجتمع، بخاصة وإن بعض المجالس في بعض الديمقراطيات تأتي عبر صناديق الإقتراع، أي أن الجماهير أوصلت من ترى فيهم الخير إلى هذا المجلس أو ذاك، وهو ما يشير إليه الفقيه الكرباسي في التمهيد حيث أصبح المجلس المحلي أو البلدي: (مؤسسة إجتماعية كبرى لها اعتبارها في حالات السلم والحرب، وقد أخذت شرعيتها من الأهالي الذين فوّضوا شؤونها إليها ووضعت لها قوانين وأنظمة بحيث أصبحت سلطتها كبيرة ولعلها الأكبر في البلدة ولها قدرات واسعة، وهي بالطبع تابعة إداريا لاحدى الوزارات التي هي السلطة التنفيذية ليكون المجلس البلدي وسيلة من وسائل التنفيذ).

ولأن المسؤوليات الواقعة على عاتق المجلس البلدي كبيرة تخص كل صغيرة وكبيرة من حياة أهل البلدة الواحدة، فإن قطر دائرتها تقصر أو تتسع حسب النظام الإداري المسنون والمعتمد، ولكنها في المجمل تشترك جميعها في تنفيذ مهام ومسؤوليات على علاقة مباشرة بحياة المجتمع، وقد أشار الفقيه الكرباسي في التمهيد إلى خمسة وعشرين مهمة ومسؤولية، من قبيل: (وضع البنية التحتية للبلدة) و(المحافظة على نظافة البلدة) و(مراقبة إقامة المنشآت)، و(وقاية الصحة العامة)، (وتشجير البلدة وطرقها)، و(تنظيم العمران ومنع البناء العشوائي)، و(مراقبة المواد الغذائية والإستهلاكية وفق المعايير الصحية)، و(مراقبة حركة السوق ومراقبة الأسعار والموازين والمكاييل والمقاييس، ومنع السرقات واستغلال الناس) أي منع الإحتكار، و(بناء الملاجئ والأماكن الخاصة بأيام العُسر والحرب والمداهمات أو الكوارث الطبيعية والمفتعلة من قبل الأعداء)، و(تسيير النقل الداخلي والخارجي)، و(الحفاظ على الأملاك الخاصة والعامة)، و(حماية الأبنية الأثرية وبناء المتاحف والحفاظ على تراث الأمة)، و(الإشراف على الانتخابات العامة والخاصة كما هو المعمول في بعض الأنظمة)، و(الإستفتاء على الضرائب وتنظيمها حسب النظام المتبع مع مراعاة العقائد الدينية والقوانين المرعية)، و(تشجيع النشاط الثقافي والرياضي والإجتماعي والديني والإقتصادي)، و(إقامة دار للعجزة والأيتام والمستشفيات والمستوصفات والبصريات وما إلى ذلك من المرافق)، و(السهر على تطوير البلدة).

مسؤوليات تضامنية

يمثل المجلس البلدي أو المحلي إن جاء بالتعيين أو بالإنتخاب الأذن الواعية التي ينبغي أن تتلقى طلبات الناس واحتياجاتهم حتى يستقيم عود الحياة وتأخذ الأمور مجراها الطبيعي، ولأن المجلس على التماس مباشر مع المجتمع، فإن المسؤولية متبادلة في الأخذ والعطاء والواجبات والمستحقات، فالطاقة الكهربائية على سبيل المثال من مسؤولية الدوائر المحلية توفيرها للمنازل والمعامل والمصانع والحقول والمزارع وأشباهها، ولأنها صناعة وإنتاج فيفترض بالمجتمع أن يقابل الأخذ بالعطاء، فلا يمتنع الناس عن الدفع مقابل ما توفره السلطة المحلية، كما ليس من المسؤولية الاستيلاء على خطوط الطاقة الكهربائية بطرق ملتوية والإستفادة منها دون مقابل، وهكذا الأمر مع الماء والغاز وأمثال ذلك من الخدمات التي ينبغي للسلطات توفيرها للمجتمع، على أن بعض الدول تتولى فيها شركات كبرى توفير مثل هذه الخدمات.

وإذا كان من واجب السلطة المحلية توفير الخدمات كافة، في المقابل يفترض بالسكان احترام القوانين، ولهذا يرى الفقيه الكرباسي أنه: (من الواجب الشرعي التزام الأهالي بالقوانين المحلية للمجلس البلدي إذا كانت شرعية غير مقيّدة للحريات الشخصية وغير المزاحمة للحرية العامة)، ولا يقتصر الأمر على البلد المسلم، ولهذا يضيف الفقيه الغديري معلقا: “وفي البلاد غير الإسلامية يجب على المسلمين الالتزام بقوانينها، بما تقتضيه قاعدة الإلتزام ما دامت لا تُضاد أصول دينهم الحنيف” فقاعدة (ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم) سارية على الناس في التعامل مع قوانين المجالس المحلية التي تنشد تنظيم حياة البلد بما فيه صالحهم إن كان البلد مسلما أو غير مسلم، لأن الدين المعاملة، فمن باب أولى ينبغي بالمسلم الذي يعيش في بلد تحكمه أنظمة غير مسلمة أن يظهر قدرًا من المسؤولية واحترام القوانين المرعية حتى يقدم صورة طيبة عما يؤمن، فالناس بما تراه أكثر مما تسمعه.

ويرى الفقيه الكرباسي أنَّ تأمين الحياة الكريمة للمجتمع من مسؤولية المجلس بالإعتماد على: (الموارد المقررة بالدستور الشرعي من الثروات الطبيعية التي هي ملك الأمّة ضمن النظام الذي تقرر في موارد الدولة)، فالأصل عدم وجود الضرائب إلا في موارد حددها الشرع من خمس وزكاة، ولكن إذا لم تستجب نماء الثروات لكل متطلبات المجتمع فإنه كما يؤكد الفقيه الكرباسي: (يجوز لحاكم الشرع إنماء صندوق المجلس البلدي من أموال التركات والخمس وسائر الحقوق الشرعية وصرفها على المياتم والمقابر والمستشفيات وإنشاء الطرقات والجسور وحماية الناس من الكوارث، وإنقاذهم من آثارها وأمثال ذلك).

وهنا يفتح الفقيه الكرباسي آفاقا جديدة لصرف الأخماس في موارد هي بمسيس حاجة المجتمع وإخراج صرفها من الحالة النمطية التي اعتاد عليها المخمّسون على قلتهم مع كثرة من تقع عليهم واجب إخراج نماء أرباحهم وتجارتهم!

بالطبع قد لا تتوفر لدى المجلس البلدي كل ما يجب صرفه على البلد من موارد مالية، ولأن العملية تضامنية تشاركية بين المجلس والمجتمع بخاصة في مجال الخدمات فإنه: (يجوز لحاكم الشرع في موارد النقص أن يفرض على أهالي مدينة معينة بعض الماليات حسب الضرورة للقيام بخدمة الأهالي ودفع المكاره عن المدينة)، على أن للشيخ الغديري في تعليقه على المسألة وجهة نظر مغايرة وإن كان المؤدى واحدًا، فوضع الضرائب: “ليس من شؤون الحاكم الشرعي، وهو من وظائف وصلاحيات المجلس وللحاكم الإذن بذلك أو منعه، إذا كان يخالف الشرع”.

ومن موارد فرض الضريبة كما يضيف الفقيه الكرباسي: (يجوز لحاكم الشرع أن يشرعن للمجلس البلدي بأن يؤخذ من كل مستخدم لطريق أو جسر بعض المال لتأمين العوز الحاصل بسبب إنشائه)، وهو ما نراه رؤي العين ونلمسه في عدد غير قليل من بلدان العالم التي تشهد السلامة في شوارعها والنظافة في أرصفتها، فالشوارع مستوية وسليمة بفضل الضرائب المستحصلة من السكان نظير الخدمات المقدمة، والأرصفة سالكة للمارة والراجلة من حواصل الضرائب، بل ويحرص السكان الحفاظ على سلامة الرصيف والزقاق والشارع حيث يتملكهم الشعور بمسؤوليتهم تجاه ما يدفعون إليه ولأجل الضريبة المالية الشهرية أو السنوية.

وتتعزز المسؤولية المتبادلة في البلدان التي يأتي فيها أعضاء المجلس البلدي أو المحافظة بالإنتخابات، ومن شرف المسؤولية فإن: (على الذين ينتخبون أعضاء المجلس البلدي أن يختاروا أهل الصلاح والقدرة ويتجنبوا المصالح الخاصة والتصنيفات الحزبية أو الإنتماءات القومية أو الدينية)، وحيث يتقوى نظام البلد بالانتخابات فإن ضمان تقديم الخدمات واستمراريتها يتعزز بالرجال الصالحين، وتأمين هذا الضمان من مسؤولية المجتمع، فالثمرة الطيبة من نتاج البذرة الصالحة، وحيثما اختار المواطن أرضا صالحة وبذرة طيبة نال خيرهما، عملا بقوله تعالى: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) سورة الأعراف: 58.

في الواقع إن المسائل الفقهية التي يستعرضها الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي فيها إضاءات فقهية كثيرة تضع الحاكم والمحكوم على طاولة المسؤولية المتبادلة، حيث يكون الإختيار الحسن لعضو مجلس البلدية أو المحافظة أو المجلس الوطني دلالة على وعي المواطن ومسؤوليته، ويصبح الجميع مصداقًأ للمأثور النبوي الشريف: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).

الرأي الآخر للدراسات- لندن

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here